الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في ذكرى الوحدة

في ذكرى الوحدة

21.02.2019
سوسن جميل حسن


سوريا تي في
الاربعاء 20/2/2019
استدعاء التاريخ وإعادة تقويم تجاربه أمر صحي وضروري من أجل رسم خطط للمستقبل، وهو ركن أساسي من أركان نجاح الأمم في تمكين بنائها واستقرارها وتقدمها، فليس كل ما صنع من تاريخ لأي شعب أو أمة هو سلبي بالمطلق، ولا إيجابي بالمطلق أيضًا، بل هو دليل حركة يمكن تقويمها بنتائجها.
من هذا المنطلق، ونحن على مشارف الذكرى الواحدة والستين لإعلان الجمهورية العربية المتحدة، الوحدة بين مصر وسوريا، التي أشهرت في الثاني والعشرين من شهر شباط من العام 1958، في وقت كان الشعور القومي في أوجه بالنسبة للساحة العربية، وكان يملأ صدور الشعوب العربية الناهضة من حروب الاستقلال بغالبيتها، ومنها من كانت حروب استقلاله عن المستعمر الأوروبي لم تنته بعد، من هذا المنطلق يحضر سؤال عن بعض المناسبات، فهل الاحتفال بذكرى الوحدة والتحسر عليها أمام هذا الكم من الخراب والتشتت للأوطان والشعوب العربية هو الأولى بالاهتمام به وتذكره باعتبار أن الوحدة المذكورة كانت حركة متسرعة فرضتها إرادات بعض الأفراد المتحكمين بالمفاصل الأساسية للدولتين، وعلى رأسهم الراحل جمال عبد الناصر بما امتلك من كاريزما جعلت منه القائد والبطل الحلم لتلك الجماهير المتعطشة لتكريس
إعلان الوحدة دغدغ مشاعر غالبية الشعبين المصري والسوري، لكن دغدغة المشاعر شيء وملامسة الوعي شيء آخر
حضورها وتأكيد دورها التاريخي بين الأمم العريقة مستندة على ماضٍ كان لها فيه دور بارز في الساحة العالمية، فقد التفت تلك الجماهير حوله طامحة بتحقيق شعارات الحرية والاشتراكية والوحدة. أم الأولى استدعاء الانفصال وإحياء ذكراه باعتباره كان ضرورة لإجهاض حركة ولدت بعملية قيصرية في غير أوانها ومن دون توفر الشروط الموضوعية والذاتية أيضًا الكفيلة بمنحها أسباب العيش والنمو والنضج لتصبح قوية قادرة على البقاء وممارسة وظيفتها؟
لا بد من الإقرار بأن إعلان الوحدة دغدغ مشاعر غالبية الشعبين المصري والسوري، لكن دغدغة المشاعر شيء وملامسة الوعي شيء آخر، فالأحلام، حتى أحلام اليقظة، هي الأقدر على استثارة المشاعر، الأحلام التي تشغل نوم البشر ويقظتهم من دون إعطاء البال إلى الواقع وتحديد هدف ووضع خطط للوصول إليه انطلاقًا من هذا الواقع. كما أنه لا بد من الاعتراف أيضًا بالأخطاء الجسام التي وقع فيها نظام الوحدة، وعلى رأسها شل الحياة السياسية ومنع الأحزاب وتمكين الأجهزة المخابراتية وضرب البرجوازية الوسطى في سوريا بالتأميم الجائر الذي لم يثمر كما كان مرجوًا منه في تمكين طبقة العمال والفلاحين، ولا يمكن هنا إدانة المرحلة القصيرة تلك حول هذا الأمر ونتائجه التي ظهرت فيما بعد، فالأنظمة العسكرية التي استأثرت بالحياة السياسية والحكم بعدها وعلى مدى العقود الأخيرة كانت مسؤولة بدرجة كبيرة عن فشل أي مشروع وحرفه عن مساره بما ارتكبت من تجاوزات وتشجيع على الفساد خدمة لبقاء أركانها واستبدادها.
لابد أن أخطاء عديدة رافقت ونجمت عن إقرار الوحدة وممارستها، وأنه كان للانفصال مؤيدوه ممن تطلعوا إلى سوريا أخرى بعدما خسرت ما خسرت من ملامح هويتها السياسية والاجتماعية المميزة لها، لكن في الوقت نفسه لا يمكن إغفال الصراع العالمي حينها، والحرب الباردة بين قطبين يتحكمان بمصير العالم، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وأولئك لهم حساباتهم، وإلاّ ما معنى الرسالة الشفهية التي أرسلها قادة الاتحاد السوفييتي إلى الرئيس جمال عبد الناصر عندما حاول القضاء على الاحتجاجات والدعوات إلى الانفصال وأرسل قوات عسكرية محمولة جوا إلى اللاذقية، إذ أقلعت سبع طائرات حربية مصرية من قواعدها في مصر باتجاه سوريا لكن رسالة يتلقاها عبد الناصر من السفير السوفييتي تقول: "دع سوريا وشأنها" تجعله يأمر بعودة السرب؟ وما معنى إجهاض المحاولة الأخرى التي قام بها جمال عبد الناصر في العام 1964بتكليف الضابط السوري جادو عز الدين بقيام عملية عسكرية في سوريا انطلاقًا من الأراضي العراقية من أجل السيطرة على الحكم، لكن العملية لم تتم بعدما نقل الرئيس اللبناني فؤاد شهاب حينها إلى الرئيس عبد الناصر معلومات تفيد بأن الخبر قد تسرب إلى الولايات المتحدة التي تعد فخًا للجيش المصري مثلما وقع في حرب اليمن.
للوحدة مقوماتها ومتطلباتها وسبل تحقيقها، ولا تكفي النوايا مهما كانت طيبة، وأول المقومات هو مستوى الوعي الشعبي بواقعه وبحاجاته وما يمكن أن يحقق تطلعاته وطموحه، كذلك الإرادة الشعبية التي لا يمكن القول بممارستها إلاّ إذا وجدت حياة سياسية فعالة وركائز للديموقراطية التي توفر جوًا من العدالة وتكافؤ الفرص في إدارة الحياة والتمثيل في البرلمانات عن طريق انتخابات حرة ونزيهة بدون ضغط او إكراه او تخويف، بهذا الشكل يكون هناك ممثلون حقيقيون لشرائح المجتمعات كاملة، تمثيل يجعل منه الوسيلة الحقيقية لممارسة الشعب إرادته ورسم مستقبله.
ما جرى بعد تجربة الوحدة القصيرة التي انتهت بانفصال وما تلاه من انقلابات عسكرية واستئثار حزب البعث بالحكم في سوريا والتأسيس لحكم عسكري أمني، والهزائم المتلاحقة ليس فقط أمام إسرائيل، بل الهزائم الأكبر أمام نفسها بتراجع سوريا عما كانت عليه وخسارتها الخطوات القليلة التي كانت قد مشتها في طريق الديموقراطية الاجتماعية والنهوض الفكري، يدفعنا إلى سؤال الواقع مرات كثيرة
فشل حلم الوحدة بين مصر وسوريا، وكان لابد من فشله انطلاقًا من مجمل الظروف والمعطيات المحيطة به حينها، وانطلاقًا من الممارسات القاصرة التي لم تصب في حوض الاندماج
عن كل أسباب الفشل، ليس في وصول الشعب السوري إلى مراده من انتفاضته الأخيرة قبل ثماني سنوات، بل عن سبب الفشل في تحصين المجتمع مما لحق به وجعل منه نسيجًا متهتكًا مهترئًا، انهار باكرًا أمام الحرب التي ما زالت نيرانها تشتعل في العديد من بقاع الوطن السوري.
منذ ستين عامًا، فشل حلم الوحدة بين مصر وسوريا، وكان لابد من فشله انطلاقًا من مجمل الظروف والمعطيات المحيطة به حينها، وانطلاقًا من الممارسات القاصرة التي لم تصب في حوض الاندماج، بل كانت ممارسات سياسية بالدرجة الأولى تترجم تطلعات النظام الحاكم وتخدم أجنداته، وبدلاً من النهوض بسوريا ككيان سياسي مستقل، على مدى العقود المنصرمة، صار السؤال الأهم، والجواب المثير للقلق حوله، ترى هل يمكن لسوريا أن تعيد لحمتها، الجغرافية والبشرية، على الأقل مرة أخرى وتحقق وحدتها الفعلية بعد الخراب الذي لحق بها، وبعد سلبها القرار من قبل القوى الضالعة بأزمتها، التي تتفاوض على مستقبلها ومستقبل مصالحها متبجحة بوحدة التراب السوري واستقلال السيادة الوطنية السورية، بينما الواقع أن لا وحدة ولا استقلال ولا سيادة، بل حتى إن تلك القوى تعمل على تفصيل دستور على مقاسنا الذي بتنا بالتأكيد لا نعرفه، لكنهم يعرفونه.