الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في ذكرى التأسيس: هل الأمم المتحدة صرح عدل كاذب؟ 

في ذكرى التأسيس: هل الأمم المتحدة صرح عدل كاذب؟ 

30.09.2020
مثنى عبد الله



القدس العربي 
الثلاثاء 29/9/2020 
بمقاعد فارغة وزعامات غائبة وخطابات مسجلة، وحروب ساخنة وباردة، وملفات شائكة، أجبر فيروس كورونا الأمم المتحدة، التي تحتفل بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها، لتكون منظمة افتراضية، لأول مرة في تاريخها، وتعقد اجتماعاتها السنوية عبر تقنية الفيديو. 
وقد دفع هذا الوضع الجديد البعض للقول بأنها منظمة افتراضية منذ عقود، وليس الآن، بسبب الإحباطات التي مرّ بها العديد من الشعوب، نتيجة الإخفاقات التي حصلت في الكثير من الساحات، وعجز المنظمة الدولية عن إيجاد حلول للكثير من القضايا، لكن النظرة الموضوعية التي يفترض أن تكون معيارا في إطلاق الأحكام تتطلب النظر إلى أدوار الأمم المتحدة، ليس من زواية واحدة فقط، بل من زوايا أخرى، وعلى مسارات متعددة. 
صحيح أن المنظمة الدولية تعمل في مسار حفظ السلم والأمن الدوليين، وهذا يُعد الأهم، لأنه يلامس حياة الشعوب والأمم، لكن عملها ليس مقتصرا على هذا الجانب، فهي تعمل في مجال حقوق الإنسان، والتنمية والصحة والزراعة، والتربية والثقافة والفنون، والطفولة وغيرها من المجالات الأخرى. وكما أنها أخفقت في العديد من المجالات، لكنها في الوقت نفسه حققت نتائج إيجابية في مجالات أخرى، لكن التهجم عليها يجانب حقيقة الواقع الذاتي لها، وهي أنها ابنة الواقع الدولي، بكل ما يمثله هذا الواقع من إخفاقات ومصالح واتفاقات وصفقات. وبذلك يصبح التمني عليها بأن تكون مثالية في كل الأعمال التي تقوم بها، إنما هو مجرد خيال. إن أبرز ما يعرقل عمل المنظمة الدولية اليوم هو أولا، تراجع التعددية في العالم لصالح الهيمنة من قبل طرف واحد. ثانيا، إطلالة حرب باردة بين عضوين رئيسيين من أعضائها هما، الولايات المتحدة الأمريكية والصين. ثالثا، عدم انتظام العلاقات الدولية بين بقية القوى الكبرى، التي تتحمل المسؤولية الأكبر في تحقيق الأمن والسلم العالميين. وقد انعكست هذا السلبيات انعكاسا مباشرا على قدرة الأمم المتحدة على التوفيق بين الأعضاء، لاتخاذ القرارات التي تعالج المشاكل الدولية، ما أدى إلى استمرار العنف والحروب والتدمير الممنهج والقتل في ساحات كثيرة. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما جرى ويجري في سوريا واليمن وليبيا، وقبلها فلسطين والعراق، لذلك يأتي ما قاله الرئيس الفرنسي مطابقا تماما للواقع من (إن خطوطا حمرا أعتقدنا أنه لم يكن ممكنا خرقها قد رُفعت: حرب الضم، استخدام الاسلحة الكيميائية، الاعتقال الجماعي مع الإفلات من العقاب) ثم يضيف (أن حقوقا أعتقدنا أنها مُكتسبة انتهكت، ونظامنا الدولي الذي بات أسير نزاعاتنا لم يعد يقوى على فرض عقوبات على هذه الخروقات). 
إن ميثاق الأمم المتحدة ما زال يمثل الحالة السائدة بعد الحرب العالمية الثانية، وإن توقيعه آنذاك كان يُحابي تلك الظروف، ويداري مصالح القوى التي خرجت منتصرة في الحرب، لذلك أتت الامتيازات التي فيه عبارة عن جوائز للحلفاء المنتصرين. من هنا نرى أبرز علة بنيوية شاخصة في هذا الميثاق وهي، حق النقض (الفيتو) الذي جاء بإلحاح من الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت، الذي أصر على تضمين الميثاق هذه الوسيلة، كي تستخدمه الولايات المتحدة الأمريكية للتخلص من قرارات الزعيم الأسبق للاتحاد السوفييتي ستالين، التي لا يرغبون فيها. هذا الوضع جعل الكيان الذاتي للمنظمة بشكل عام يُعاني من حالة هشاشة، وعدم قدرة على ممارسة التنفيذ، كما أبقته رهينا لتلك القوى نفسها، وسائرا وفق إيقاع زمن ولى، ومتمسكا بواقع سياسي واقتصادي وعسكري واجتماعي ليس ابن الحاضر، ما شكل تحديا كبيرا ومستمرا للمنظمة الدولية ولمصداقيتها ولقدرتها على الفعل، حيث يفترض أن تكون ابنة الحاضر لا الماضي. 
تحولت الجمعية العامة للأمم المتحدة، مؤخرا لمنبر عروض يقدمها قادة الدول يخاطبون فيها الداخل في دولهم، وليس المجتمع الدولي 
ومن هنا تأتي الدعوات المتكررة من قبل العديد من زعماء أوروبا وافريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، للقيام بإصلاحات على تركيبة مجلس الأمن، بما يجعله ممثلا حقيقيا لشعوب وأمم وقارات أخرى، لكن واقع الحال يقول عكس ذلك، حيث يبدو التقدم بهذه الخطوة شيئا مستحيلا. فمن ذا الذي يفرط بهذه المساحة الواسعة من حرية التصرف، التي يمنحها له حق النقض لتحقيق مصالحه الخاصة، على حساب الآخرين؟ ومن ذا الذي لديه الاستعداد للتفريط باحتكار القرار الدولي والسماح للآخرين بالأكل من جرف امتيازاته؟ فعلى الرغم من أن المجلس يضم خمسة عشر عضوا دائمين وغير دائمين، ومن حق كل دولة اقتراح مشاريع قرارات، لكن القرارات الفعلية تأتي فقط من الدول دائمة العضوية فيه، التي تملك حق النقض. 
لقد تحولت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال السنوات الماضية إلى منبر لعروض يقدمها قادة الدول يخاطبون فيها الداخل في دولهم، وليس المجتمع الدولي لإثبات ما قاموا به من منجزات، ما يؤكد أن المجتمع الدولي لم يعد مسرحا مهما لهم لتقديم إنجازات فيه. ومازالت طرية في الذاكرة وقفة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصة الامم المتحدة قبل ثلاث سنوات، حيث قدم عرضا مستفيضا عن الوظائف التي جلبها لشعبه، وكأنه في حملة انتخابية، وعن كمية الأموال التي وضعها في الخزينة الأمريكية، بعد أن جعل الحماية مقابل المال، في حين لم يمر على الأزمات والظروف الدولية المعقدة، إلا لماما فسخر منه الكثير من الزعماء والدبلوماسيين الحاضرين من كل القارات. 
إن ميثاق المنظمة الدولية يؤكد على أنها وجدت لخدمة الأمن الجماعي لشعوب العالم، لكن يبدو هذا مجرد خيال في الوقت الراهن، فوباء كورونا كان الدليل الأكبر والأحدث لتفنيد ذلك، حيث نرى الانقسامات على أشدها بين الدول الكبرى في هذا المجال، ما أعاق بشكل كبير الاتفاق على وضع استراتيجية عمل مشتركة لحماية المجتمع الدولي من هذه الكارثة الصحية. وبدلا من ذلك تحول الكبار لسياسة كيل الاتهامات بعضهم لبعضهم الآخر، فالولايات المتحدة تطلق تسمية الصين على الفيروس، فيما تقول الأخيرة إن الولايات المتحدة هي التي جلبت الفيروس إليها. لكن ومع كل السلبيات التي تحيط بعمل المنظمة الدولية، ذاتية وموضوعية يبقى الحكم السلبي على خمسة وسبعين عاما من السير على حبل مشدود بين قوى متصارعه غير منصف. فالانصاف يتطلب القول بأن المنظمة الدولية منبر دبلوماسي عالمي رفيع، لإثبات قلق المجتمع الدولي بشأن مشاكل وأزمات قائمة، ومسرح مهم يلتقي فيه قادة وزعماء العالم من كل مكان، حيث تكون الاتصالات الشخصية عاملا مهما في إيجاد عنصر الثقة المطلوب، الذي يقود إلى دبلوماسية اختراق الأزمات والسياسات الناجحة. كما أنها توفر فرصا كثيرة للناشطين والشخصيات العامة، لعقد اجتماعات يتداولون فيها الشأن الدولي خلف الأبواب المغلقة، كذلك في أروقة مجلس الأمن تتوفر وتوفرت فرص سانحة التقى فيها الأضداد والخصوم لنزع فتيل أزمة ثنائية أو إقليمية أو دولية، حصل هذا في ساحات كثيرة مثل كمبوديا وتيمور الشرقية وناميبيا ونيكاراغوا وفي أماكن أخرى من العالم، لكنها في الوقت نفسه عجزت عن إيجاد حلول في فلسطين والعراق وليبيا واليمن وسوريا. 
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية