الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في انتظار موسم الحصاد

في انتظار موسم الحصاد

23.03.2019
بدرالدين عرودكي


جيرون
الخميس 21/3/2019
لم تكن صدفة، قبل أن تحلّ الذكرى الثامنة لانطلاق ثورات الربيع العربي، أن تكثر الأحاديث والتصريحات والمقالات “التحليلية” حول نهاية هذا الربيع الذي أدّى -في نظر أصحابها- إلى “التدمير والفوضى التي تُرَى اليوم ماثلة في سورية وليبيا واليمن”. كما لو أن جميع الناطقين باسم الثورات المضادة كانوا يتهيّؤون للاحتفال بتثبيت جرائم أسيادهم. لكن جماهير السودان، ثم جماهير الجزائر، لم تسعفهم حين بدَّدت آمالهم في هذا المشروع، فخرجت تنادي بنهاية النظام هنا، وتعلن رفضها العهدة الخامسة هناك، معلنة بذلك، على غير انتظار من هؤلاء، أن الربيع العربي لا يزال قائمًا بل لا يزال مزهرًا، وكذلك حين حملت السلطة في كلٍّ من البلدين على اللجوء إلى التهويل بما جرى في سورية، أو على التذكير بمآل الشعوب التي تخرج عن طاعة حكامها إلى الدمار والتشريد. وكما جرى من قبل في بلدان الربيع العربي قبل ثماني سنوات، حاولت السلطة الحاكمة في الجزائر كما في السودان، بالحيلة عبر استجابة شكلية تارة، أو بالوعيد وبالتهديد عبر إعلان حالة الطوارئ تارة أخرى، امتصاص الغضب الشعبي. لكنها في البلدين لم تنجح، حتى الآن، في ترسيخ فكرة “مؤامرة خارجية” وراء هذه الاحتجاجات. وهو ما حمل روسيا التي عرف السوريون دورها المجرم وشبه الحاسم، في خنق ثورتهم باسم الشرعية ومكافحة الإرهاب، أن تهرع إلى تكرار الأغنية المملة حول “الاستقرار” في ظل سلطات الاستبداد، حين صرَّحَ وزير خارجيتها، بما لم تجرؤ  سلطات البلد ذاتها على التصريح به، بالقول إن روسيا ترى في احتجاجات الشعب الجزائري “محاولة لزعزعة استقرار البلاد”. وهكذا، مع استحالة اتهام المتآمرين الخارجيين، لم يبق أمام الآخرين خصوصًا سوى اتهام الشعب نفسه بالتآمر وتأليب السلطة الحاكمة عليه!
لا يمكن لمثل هذا التصريح الصفيق أن يثير سوى السخرية والغضب في آن واحد، لدى شعب يعرف موقعه من ومقامه في تاريخ نضال الشعوب من أجل حريتها. لكن المشكلة الحقيقية تتجسَّدُ في مكان آخر: في عزوف سلطات البلدين، على غرار سلطات بقية بلدان الربيع العربي، عن رؤية حقيقة دامغة وماثلة للعيان، وهي أن الثورات العربية التي انطلقت قبل ثماني سنوات لم تؤتِ أكُلها بعد. هذا يعني أنها لم تنتهِ بعد، على الرغم من كل المظاهر التي يُرادُ لها، بتسليط الضوء عليها حصرًا، أن تثبت عكس ذلك.
لذلك، لم يكن من قبيل الصدفة أن يكثر الحديث عن نهاية الربيع العربي، من خلال التنديد به، أو عبر اعتباره مؤامرة شاركت في تدبيرها القوى الإقليمية أو الدولية في الوقت الذي كانت هذه الأخيرة هي ذاتها التي عملت بكل وسائل الخداع والتمويه، على القضاء عليه عبر دعم رجال الثورة المضادة وتثبيت حكمهم، أو عبر الحيلولة بالوسائل ذاتها دون الوصول إلى إجماع وطني في هذا البلد أو ذاك، كما يحدث في ليبيا أو في اليمن، أو بالعمل على استخدام رأس نظام مجرم واجهة لتحقيق سياساتها في البلد الذي قامت باحتلاله. وليس صدفة أيضًا أن “نهاية الربيع العربي” تطرح صيغة في أغلب الأحيان بلا إشارة استفهام، كما لو كانت أمرًا مقضيًّا، أو كما لو كان يراد له أن يُطرح عبرها على هذا النحو بوصفه كذلك. يساعد على ذلك بالطبع ما يبدو مشهدَ عالم عربي حافل بقروح جراحات لم تندمل، وبدماء لم تجف، وبعذابات لا يزال أنينها يملأ فضاءاته، وبدمار ماديٍّ لمدنه ولقراه، وسياسي واقتصادي لدوله، ونفسي واجتماعي لشعوبه.
سوى أن خروج الجماهير السودانية والجزائرية على امتداد أسابيع عديدة، على الرغم من ذلك كله، وأيًا كانت النتائج التي يمكن أن يؤدي إليها، بالنسبة إلى مطالبها، سلبية أم إيجابية، ليس إلا دلالة حاسمة على أن الربيع العربي لم ينته بعد، وأن على الذين صدقوا أنفسهم وهم يعلنون نهايته أن يعودوا إلى تاريخ الثورات كي يتعلموا شيئًا من دروس كيفياتها وتطوراتها ومآلاتها ونتائجها.
في ضوء ذلك، ألا يمكن القول بعبارة أخرى، إن المشهد العربي المشار إليه، وعلى ما يبدو للجميع، مشهد عالم لم يتوقف منذ عقديْن على الأقل عن إعادة النظر والبحث في مجمل السنوات التي عاشها، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي، على صعد السياسة والاقتصاد والاجتماع، استقلالًا وحروبًا وانقلابات وتقلبات؟ فعلى الرغم من محاولات النظم الاستبدادية الهيمنة الكاملة، لا على السلطة فحسب بل على السياسة والاقتصاد والمجتمع، فإن ثورات الربيع العربي التي يُراد الإعلان عن نهايتها قلبَت الوضع رأسًا على عقب، حين استعادت السياسة خصوصًا وأعادتها إلى مكانها الطبيعي في المجتمعات العربية، وهذا على الرغم من محاولات القمع والقسر التي تلجأ إليها نظم الثورة المضادة اليوم والتي لا يمكن عمليًّا إلا أن تنتهي إلى الفشل في ما تسعى لتحقيقه في زمن فجرت فيه وسائط التواصل الاجتماعية كل الحدود والقيود، وجعلت من السياسة خبز جماهيرها المقموعة اليومي. أكثر من ذلك. كان من بعض أهم ما حققته ثورات الربيع العربي، فتح المجال للبحث في كل ما كان يعتبر من المحرم الخوض فيه دراسة أو بحثًا خارج الأطر الفكرية أو الأيديولوجية المرسومة سلفًا: لا في ميدان المكونات التاريخية الاجتماعية والإثنية والطائفية في مختلف المجتمعات العربية فحسب، بل كذلك في مجال ثلاثي المحرّمات الكلاسيكية الشهير: الجنس والدين والسياسة! وهو ما أدى إلى إطلاق قدرات أصوات شابة كانت مقموعة أو مجهولة، معبرة عن طاقات أصحابها الإبداعية، بلا رقابة أو حدود، سواء في مجالات الكتابة والفكر والبحث أو في ميدان الفنون، التشكيلية منها أو السمعية البصرية. يكفي أن نتصفح -على سبيل المثال لا الحصر- الكتب أو الدراسات أو الأبحاث التي صدرت حول الحدث السوري: حول الثورة والحرب والقمع من ناحية، أو حول المجتمع والتاريخ والقضايا الإثنية والطائفية، من ناحية أخرى، سواء عن دور النشر الكلاسيكية الجديدة التي نشأت بعد الثورة أو نشرت في مواقع إلكترونية أو في مواقع مراكز البحث العديدة التي تأسست بعد قيام الثورة السورية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر موقع “الجمهورية” ومركز “حرمون”، كي نتبيّن أيّ مدى بلغته محاولات دراسة وتقويم الفضاء السياسي والاجتماعي، خلال العقود الخمسة الماضية في سورية، فضلًا عن مختلف جوانب واقع الحدث السوري الراهن. ألا يدل ذلك على أن الربيع العربي يمتد إلى بلدان عربية أخرى كما في السودان والجزائر، ويؤكد حضوره في الدول الأخرى كما في سورية بطرق مختلفة، معرفية خصوصًا، تسهم في تكوين أجيال لا تزال تتطلع إلى تحرير بلادها، وتعمل من أجل هذا التحرير بكل طاقاتها؟