الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في النقد الذاتي: ثورة بلا قيادة ولا اجتماع مستدام!

في النقد الذاتي: ثورة بلا قيادة ولا اجتماع مستدام!

25.02.2019
نجاتي طيّارة


سوريا تي في
الاحد 24/2/2019
1ـ علة فقدان القيادة.
على الرغم من ظهور بعض الشخصيات التي حظيت بحد ما من التقدير والاحترام في التاريخ القصير للثورة السورية، لكن ذلك لا يحجب الإجماع الشائع والمستقر بفقدان القيادة في ثورتنا، بل لا يستطيع أي ملاحظ أن يتحدث حاليا عن شخصية سورية معارضة توفرت لها تلك الكاريزما القيادية، التي شهدها تاريخ الثورات المعروف، سواء منها العالمية أو العربية، وحتى السورية القريبة العهد، كسلطان باشا الأطرش، وهنانو، وزعماء الاستقلال السوري. وجميع أولئك لم يهبطوا من السماء، ولم يظهروا فجأة أو في لحظة مفاجئة، إنما بدؤوا فتلقوا الدعم والاحترام والتقدير بين أبناء شعبهم وخلال مسيرة نضاله، ثم كبروا وتطوروا. 
حتى إن بعض قيادات الثوار في العالم كـ(جيفارا) كان غريبا نسبيا عن الشعب الكوبي، لكنه تطور واندمج بثوار كوبا ولم ينتقد كغريب أو قادم من الخارج. وأيّ من ثورات العالم وثوراتنا لم تضع شروطا لقيادتها تقوم على المحاصصة، طائفية كانت أو حزبية، أو زمنية أيضا، كشرط مدة الشهر الواحد الذي طولبت به رئاسة المجلس الوطني السوري لأول وهلة، ثم لم تتجاوز محاولة عقلنته اللاحقة مدة الأشهر الثلاثة، بعد أن تم التصويت ذات مرة عقلانية حقا على فترة السنة، فقامت قيامة بعضهم في أول مؤتمر للمجلس، واضطر الحريصون على الثورة، إلى إلغاء التصويت والفكرة، ثم تقصير المدة تحت ضغط الشعب وحسب. الأمر الذي إن دل على شيء، فهو لم يدل إلا على أوهام انتصارية راغبة توازت مع محاصصة ونزعة المسارعة إلى قطف الدور قبل كل شيء آخر،  يتطلبه  العمل الجاد والصبور لتحقيق أهداف الثورة وانتصارها !
وبغض النظر عن مدى صحة ما كان قد أورده الكاتب والصحفي الشهير هيكل عن مقولة للرئيس شكري القوتلي لجمال عبد الناصر بعيد توقيعه على وثيقة تنازله عن الرئاسة السورية: (أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس؟ أنت أخذت شعباً من أربعة ملايين زعيم) فهي وغيرها من الشهادات والوقائع تشير إلى أن السوريين ديناميكيون بطبيعتهم، وهم مثل غيرهم من الشعوب، لا أقل ولا أكثر ، وكان يمكن لهم  إبراز قيادات أو بناؤها ودعمها، الأمر الذي لا يمنع من نقدها والحوار معها، لكن ليس على الطالعة والنازلة، ولا على طريقة رفع لافتة: يمثلني، ولا يمثلني، أو على مثال تصريح ركيك لممثل إحدى الجماعات المشاركة في المجلس الوطني، زعم فيه أنه هو القيادة الحقيقية التي تقف خلف صورة تلك الواجهة القيادية للمجلس. ولم يدر أن مثل هذا التصريح يحطم كل معنى للقيادة من جهة، كما يحطم كل معنى للتحالفات التي قام عليها المجلس من جهة أخرى.
أسهم معظم المعارضين بدأب ونشاط مؤسف في منع ظهور تلك القيادات وتطورها
ولقد أسهم معظم المعارضين بدأب ونشاط مؤسف في منع ظهور تلك القيادات وتطورها، كما كبحوا الصعود الرمزي لشخصياتها، اللهم إلا بعد موتها أو غيابها في سجون النظام وغيره (أمثال: حسين هرموش، أبو فرات، عبد العزيز الخير، رزان زيتوني، وغيرهم)  وذلك إلى جانب العمل المنظم والطبيعي المتوقع لعصابة النظام وحلفائه.
هكذا ، فإن فقدان القيادة في الثورة السورية أو تغييبها ومنع تطورها، لا يدل إذن على ظاهرة  تكاد تماثل الظواهر الطبيعية كما يراد لها ، أو تصويرها الشائع على أنها لازمة عنصرية في اجتماعيات شعبنا، بدليل توفر القيادات والزعامات البارزة له في فترة النضال ضد الاستعمار، أو دولة الاستقلال القصيرة العهد، أو بروز العديد من الشخصيات السورية  المتفوقة  في العديد من المجالات خارج سوريا والنظام .  بل هو بالضبط دليل على ضعف المعارضة السورية الراهنة وتهافت وعي ناشطيها وقادتها، في غمرة استعجالهم للانتصار والقفز إلى سلطة الثورة، بدلا من انتظارهم انتصار الثورة وتحرير الشعب السوري من ربقة عهد طويل من الاستبداد وظلماته !.
2ـ علة فقدان الاجتماع المستدام في منظمات الثورة وفعالياتها.
إلى جانب فقدان القيادة، غالبا ما افتقد السوريون المنتمون إلى الثورة مقدرتهم على استدامة الاجتماع المؤسسي للمنظمات والفعاليات الاجتماعية الناشئة في إطارها، بينما قدّم النظام نفسه (رغم بعض الدلائل االأخرى المتناثرة) كوحدة مجتمعية ومستدامة على الرغم من تبديات ظاهرتها كعائلة مافيوزية، وعصابة، ومراكز قوى، وأمراء حرب إلخ.
ذلك الفقدان المتكرر، الذي تخلله انفجار مبادرات ديناميكية نشطة، قامت وما زالت تقوم باستمرار، وبعض جديدها: الجبهة الديمقراطية جود، المؤتمر السوري لقوى الثورة، حركة ضمير وحركة الضمير للمعتقلات إلخ... يشير إلى قابلية مكينة على الفقدان، أكثر من الفقدان نفسه. فلا شك أن الآخر بكل معانيه (الآخر القريب: النظام وعملائه، والآخر الغريب: المحيط  العربي والاقليمي والعالمي) لعب دورا كبيرا في ذلك، لكن قابليتنا نفسها هي التي أتاحت ومكّنت له ذلك الدور، بل وربما كنا سباّقين إليه في معظم الأحيان.
ويعود ذلك في رأيي إلى نفسانية اجتماعية، أظن تفسيرها راجع إلى أن خروج السوريين إلى عالم الحرية كان انفجاريا، فبعد سنوات طويلة من عالم الصمت والقهر، الذي كان كابسا على أنفاسهم ولسانهم طوال مايقارب الخمسين عاما، من الحكم الأمني المتذرع بإيدلوجيا البعث القومجية الشمولية، انفجر السوريون وسارعوا إلى ممارسة الكلام المباح والاجتماع النشط بديناميكية ومبادرة، طالما عرفوا بها، لكنها لم تكتسب تقاليد الاجتماع الديمقراطي، المستفيد من تسامح التراث وتقبله الاجتهاد ووجهات النظر من جهة، أو المكتسب من حداثة غربية برلمانية في ظل الاستعمار الفرنسي القصير العهد من جهة أخرى. وهي تقاليد تتطلب فضائل الصبر والتواضع والتسامح والعمل الجماعي المنظم والمنتج، وذلك بعد أن مارسوا طويلا عادة الاستبداد بالقرارات الفردية السريعة والسهلة. لذلك كان خروجهم بعد طول غياب، كخروج أهل الكهف إلى الحياة، طالبين كل شيء، كل الأهداف ودفعة واحدة، من إسقاط النظام، وإسقاط الرئيس، إلى تغيير الدستور وتحقيق أحلام المواطنة والعيش الكريم والحر.
لكن بما أن عالم الأفكار يمكن أن يتحقق بالحلم فرديا وفوريا، بينما عالم الوقائع يتطلب التغيير التدريجي والبنّاء، فهو عالم يضم مختلفين ومتعددين بطبيعة الاجتماع البشري ذاته، ويتطلب تغييره الحوار بين أطرافه، كون ذلك البديل الوحيد للتغيير بالعنف والقوة. وذلك يفترض ضرورة الوصول إلى تسويات وتوسطات وتنازلات بين أطرافه، وبين مرحلة وأخرى على طريق التغيير المتدرج والطويل، وهذا هو المعنى الديمقراطي والنبيل للسياسة الممكنة، بديلا عن الانفجار الثوروي (وهو ما حدده العنوان الأصلي الكامل لأحد أبرز مكونات المعارضة الديمقراطية السورية، والذي تم اختصاره ونسيانه !).
ومن الواضح مبدئيا، أنه يعتمد على فضيلة الصبر الذي يبطئ الرؤوس الحامية ويبردّها، فهي وحدها التي تعوض عن كل نزعة انتصارية، تستعجل تحقيق العدالة وتحقق الرد على فظاعات النظام وجرائمه المنفلته من كل قيود أقرّتها الشرائع السماوية والأرضية!
والنتيجة المستخلصة، حسب ظني، هي أن الصراع بين متطلبات ممارسة الاجتماع الديمقراطي المستدام، وبين نزعة السوريين الانتصارية، في ظل العنف الكارثي للنظام وإجرامه غير المسبوق، قد أدى وما زال يؤدي إلى استمرارية انفجار الاجتماع الثوري السوري وضعف استدامته إلى المستقبل المنظور، على الأقل!.