الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في المواجهة الجيوسياسية شرق المتوسط: تركيا تريد تصحيح ظلم معاهدة سيفر واليونان توسع حقوقها المائية 

في المواجهة الجيوسياسية شرق المتوسط: تركيا تريد تصحيح ظلم معاهدة سيفر واليونان توسع حقوقها المائية 

07.09.2020
إبراهيم درويش



القدس العربي 
الاحد 6/9/2020 
خلال الأعوام الماضية ظلت القوارب المطاطية وسفن المهاجرين غير الشرعيين علامة على البحر الأبيض المتوسط، حيث كان الجنوب الحالم بالشمال يرسل قوارب المهاجرين الذين عبروا الصحاري وفروا من الفقر والجوع والحروب الأهلية بحثا عن حياة جديدة في دول أوروبا. وفي السنوات الأخيرة ابتلعت مياه المتوسط آلافا من المهاجرين الذين أخذوا معهم أحلامهم إلى قعر البحر، ولم يفلح الاتحاد الأوروبي بالتوافق على سياسة تساعد على وقف المهاجرين الذين انطلقوا من الشواطئ المصرية والليبية والتونسية على الأعم الأغلب نحو دول جنوب أوروبا كنقطة انطلاق لهم، وظلت سياسة كل دولة مختلفة لأن الهجرة تحولت إلى ورقة يلوح بها قادة الأحزاب اليمينية ليغيروا النظام السياسي وليؤثروا على الرأي العام، كما حدث في استفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016. 
وفي الآونة الأخيرة تحولت مياه البحر إلى ثكنة عسكرية، مقاتلات نفاثة تحلق في سمائه، بوارج حربية من كل الأسماء وتحمل مختلف الأعلام، سفن تنقيب وضجيج عال وتصريحات نارية من باريس إلى أنقرة وأثينا. وتحول البحر المتوسط إلى ساحة نزاع جيوسياسي، وهذه المرة ليس حول المهاجرين البائسين والحالمين فوق أمواجه ولكن حول ما يكمن في قاعه من ثروات طبيعية: غاز ونفط، وباتت كل دولة تبحث عن طرق لحماية مصلحتها. وبدأ النزاع باكتشاف كميات من الغاز على سواحل إسرائيل ثم في مصر ثم بدأ التنقيب عن الغاز قرب قبرص، وتم تشكيل ناد لدول شرق البحر المتوسط ضم كل دول المنطقة باستثناء تركيا رغم أن لها أطول شاطئ في شرق المتوسط. وعندما تحركت أنقرة لدعم حكومة طرابلس المحاصرة من قوات خليفة حفتر، ووقعت معها معاهدة ترسيم حدود بحرية تسمح لها بالتنقيب عن النفط والغاز، تكالب عليها الجميع. وردت اليونان في حينه بطرد السفير الليبي ووقعت في الشهر الماضي معاهدة مع مصر للتخريب على ليبيا. 
المعاهدة الظالمة 
ومن هنا لم يشهد البحر الأبيض صيفا ساخنا أكثر من عام 2020 ففيه تحتدم اللعبة الجيوسياسية بين الدول الإقليمية والبعيدة التي تحاول تصفية حسابات مع بعضها البعض. وتبدو تركيا في هذه المعركة وحيدة ضد تحالف من أعدائها تقوده فرنسا التي تصادمت فرقاطاتها مع السفن التركية باسم منع تهريب السلاح إلى ليبيا، رغم أن تقرير الأمم المتحدة يوم الجمعة أثبت أن الإمارات العربية وروسيا قامتا بعملية إنزال جوي غير معلن لدعم حفتر في شرق ليبيا بعد هزيمته في حزيران/يونيو أمام طرابلس وهرب قواته من غرب ليبيا. وفي قلب المعركة الحالية ما تراه تركيا ظلما حاق بها في الحرب العالمية الأولى بعد انهيار الدولة العثمانية. ففي 10 آب/أغسطس 1920 اجتمع مسؤولون فرنسيون وإيطاليون وبريطانيون لتقسيم ما تبقى من أراضي الدولة العثمانية. وفرض الاتفاق شروطا على العثمانيين المهزومين، تعتبر الأكثر عقابية، مقارنة بتلك التي فرضت على ألمانيا في معاهدة “فرساي” في وقت سابق من ذلك العام. وأجبرت “سيفر” الإمبراطورية العثمانية على التنازل عن أراضيها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ورسمت بريطانيا وفرنسا مناطق نفوذ استعماري من صحاري شبه الجزيرة العربية إلى البحر الأسود، فيما أمنت اليونان وإيطاليا مناطق خاصة بهما فيما هي الآن غرب وجنوب تركيا، بما في ذلك الاحتفاظ بالعديد من جزر بحر إيجة. وتم بموجب المعاهدة تدويل وضع مدينة إسطنبول، التي كانت عاصمة الإمبراطورية العابرة للقارات، وكذلك المضائق الاستراتيجية، فضلا عن منح الأكراد والأرمن أراض خاصة بهم. وتركت “سيفر” للعثمانيين دويلة في أراضي الأناضول الداخلية. ورغم ما تحمله هذه المعاهدة من ظلم تاريخي إلا أنها لا تذكر كما تذكر اتفاقية سايكس بيكو، بسبب ما حصل بعد ذلك في تركيا. حيث قام القوميون في الصفوف العثمانية، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك برفض معاهدة سيفر وشنوا سلسلة من الحروب أخرجت الفرنسيين واليونانيين والإيطاليين من الأناضول واضطروا الأوروبيين للاتفاق على شروط جديدة في معاهدة لوزان عام 1923 والتي عرّفت حدود تركيا الحديثة. 
وكتب المؤرخ نيكولاس دانفورث، وهو مؤرخ لتركيا القرن العشرين، في مقال له عام 2015 بالتزامن مع الذكرى 95 للمعاهدة: “لقد تم نسيان معاهدة سيفر بشكل كبير في الغرب، ولكن إرثها لا يزال قويا في تركيا حيث ساعد على تغذية شكل من أشكال البارانويا القومية التي أطلق عليها العلماء متلازمة سيفر”. وأضاف دانفورث: “لا شك أن سيفر تلعب دورا مهما في حساسية تركيا تجاه الانفصالية الكردية، بالإضافة إلى الاعتقاد بأن إبادة الأرمن، والتي استخدمت بشكل واسع من قبل الدبلوماسيين الأوروبيين لتبرير خططهم للأناضول عام 1920 – كانت دائما مؤامرة ضد تركيا وليست حقيقة تاريخية”. وتلوح هذه المعاهدة بشكل أكبر الآن، بحسب الكاتب، في مشاهد من بينها بدء الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، الذي يميل دائما لاستخدام الشعارات التاريخية، نهاية العام الماضي، بلقاء زعيم الحكومة الليبية المدعومة من الأمم المتحدة في قصر سابق للسلاطين العثمانيين بإسطنبول. وبعد إحدى تلك الاجتماعات، ربط اردوغان سياسة تركيا الخارجية الجريئة بلحظة محاسبة تاريخية، قائلا: “بفضل هذا التعاون في المجال العسكري ومجال الطاقة نقلب الطاولة على اتفاقية سيفر” مشيدا بجهود بلده للقيام ثانية بإظهار قوتها في منطقة البحر الأبيض المتوسط. 
منبر سياسي 
ويثار الآن الحديث عما يقول المحللون أنه فكرة “الوطن الأزرق” والتي تقوم على رؤية توسعية للحقوق في شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، يتحدث المسؤولون في اليونان، والتي هي حليف آخر، مفترض، في إطار الناتو، بشكل صريح عن احتمال حقيقي لصراع عسكري مع تركيا. وضمن هذا السياق يتم تصوير محاولات تركيا الاردوغانية بأنها حملة شرسة لهزيمة سيفر الظالمة. ولكن اردوغان يوصف الآن بالديكتاتور والولد الشقي. وغالبا ما يساق أن القانون الدولي البحري يقف مع اليونان، لكن هذه تزعم بالسيادة على المياه التي لا تبعد سوى ميل عن الشواطئ التركية. ولم توقع تركيا على المعاهدة الدولية للحدود البحرية، مثلما لم توقع إسرائيل التي تتهم بالتنقيب في مياه جيرانها، لكن لا أحد يشجب إسرائيل لأنها أصبحت جزءا من منبر غاز الشرق الأوسط الذي يضم اليونان وجمهورية قبرص وإيطاليا وإسرائيل والأردن ومصر والسلطة الوطنية وبدأ عام 2018 كناد مهتم بالطاقة، استخراجها وتسويقها. ووقعت الدول هذه في كانون الثاني/يناير على ميثاق سيحوله إلى منظمة دولية قدمت كل من فرنسا والولايات المتحدة طلبا للإنضمام إليه بصفة مراقب. وكان هذا سببا في غضب تركيا التي استبعدت مع جمهورية شمال قبرص التي لا تعترف بها إلا تركيا. وترفض أنقرة زعم اليونان بحقوقها المائية في الجزر القريبة من شواطئها. وربما كانت هناك مساحة للتفاوض بين تركيا واليونان اللتان أصبحتا في مركز مواجهة قد تقود إلى مواجهة مسلحة، في ظل تزايد الاحتكاكات. فتركيا التي أرسلت سفن التنقيب وبارجة ريس عروج، أمير البحر المعروف في الدولة العثمانية قالت إنها ستواصل التنقيب في البحر حتى 12 أيلول/سبتمبر الحالي. ولم تعد الأزمة عن حقوق الطاقة بقدر ما عن الخطوط الأيديولوجية التي ظهرت بعد الربيع العربي ووقفت تركيا مع الجماعات والدول التي رفضت الثورات المضادة. فعلاقة أنقرة متوترة مع الإمارات التي شاركت في مناورة عسكرية مع اليونان، وهي متوترة مع مصر بسبب دعم اردوغان للإسلام السياسي، وهي كذلك مع إسرائيل التي تتهم اردوغان بدعم حركة حماس في غزة. والعداء التركي- اليوناني معروف وزاد توترا بعد استقبال أثينا إنقلابيين عام 2016 ورفضها تسليمهم. وبالنسبة لفرنسا، فالعداء ناجم عن دعمها للطرف الخاسر في الحرب الأهلية الليبية. ولهذا فلم يعد منبر شرق المتوسط عن سياسات الطاقة ولكنه ناد سياسي دخلت فيه دول لا علاقة موقع جغرافي لها على المتوسط، كما أشارت صحيفة “التايمز” (1/9/2020). 
ناتو ضد ناتو 
 ولم يفت المراقبون ملاحظة أن الأزمة الحالية تضع أعضاء الناتو ضد بعضهم البعض، فتركيا واليونان بلدان عضوان في الناتو أما قبرص فليست ولكنها عضو في الاتحاد الأوروبي. وكما قالت صحيفة “نيويورك تايمز” (30/8/2020) في افتتاحية لها أن الحرب على الطاقة لن تنفع أحدا، مشيرة إلى أن النزاع بين دول الناتو لم يتصوره أحد أبدا. وطالبت في غياب الوسيط الأمريكي الاستماع لصوت الحكمة والذي تمثله مستشارة ألمانيا، أنغيلا ميركل التي حاولت التوسط بين أنقرة وأثينا. ولأن الأخيرة تشعر بالقوة من الدول التي تدعمها فهي ترفض الحوار والتنازل وتصعد من لهجتها الخطابية. لكن ميركل لا تقوم بالتوسط لمجرد الوساطة، بل وتخشى من فتح اردوغان الحدود للاجئين السوريين للعبور إلى أوروبا في تكرار لمشاهد 2015. 
أين أمريكا؟ 
 وجاء الدور الألماني في غياب واضح للدور الأمريكي. ففي أمريكا ترامب الراغبة بوقف الحروب اللانهائية بالمنطقة تعتمد على تفويض دول المنطقة لحل مشاكلها، ما فتح الباب أمام دخول لاعبين جدد وارتكاب أخطاء فادحة في سوريا واليمن وليبيا. ويقول فيليب ستيفينز بمقال بصحيفة “فايننشال تايمز” (3/9/2020) إن ما يجري في شرق المتوسط تعبير عن فوضى دولية التي خرجت كما يقول من حطام “باكس أمريكا” فرغم أن الصورة الدولية عادة ما تخرج من المواجهة أو التوافق بين القوى العظمى، خاصة الصين والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن غياب الحكم الأمريكي عن النزاعات سمح بفتح الجراح القديمة وعودة العداوات المستحكمة. ويعتقد ستيفينز أن عناصر عدم الاستقرار التي هددت الوضع القائم جاءت من دول تصحيحية مثل الصين وروسيا وتركيا. وفي اللعبة الحالية على مياه البحر المتوسط، الغائب الوحيد هي أوروبا. فالمواجهة بين اليونان وتركيا تعطي صورة أن محاولات التعايش والضبط قد تترنح بسرعة. ولكن الخلاف بين أنقرة وأثينا ليس جديدا وكذا الجرح المفتوح في قبرص والنزاع على بحر إيجة، لكن اكتشاف الغاز في قعر البحر زاد من حدة العداء، فهناك تسابق على الغاز بين دول المنطقة ومشاريع أنابيب لنقله وصفقات تنقيب مع شركات متعددة الجنسيات. والمفارقة أن التدافع على الغاز يأتي في وقت تتراجع فيه أسعار الوقود الأحفوري بسبب تراجع الطلب العالمي وما خلفه فيروس كورونا من دمار على الاقتصاد. وفي وقت يبحث فيه العالم عن طرق لتوليد الطاقة النظيفة لمواجهة التغيرات المناخية التي باتت مسؤولة عن الأوبئة والحروب الأهلية. في الماضي كان الحكم الأمريكي يتكفل بحل النزاعات التي تمس بمصالحه الأمنية، لكنه كان غائبا عن الساحة، فمن بين عشرات البوارج والفرقاطات مرت حاملة الطائرات “دوايت أيزنهاور” بدون أن يلاحظها أحد. ومن هنا فالأزمة الحالية هي نتاج التراجع الأمريكي الذي بدأ في عهد باراك أوباما وأخطائه الفادحة في سوريا وليبيا اللتان اعتقد أنهما لا تهمان الأمن القومي الأمريكي، ثم جاء ترامب في قراراته المتقلبة، دعم حفتر وحكومة الوفاق الوطني في ليبيا ثم دعواته المتكررة لسحب القوات الأمريكية من سوريا وتفاخره بسرقة النفط السوري. كل هذا يقرب أزمة شرق المتوسط من أزمات المنطقة الناجمة عن القرارات المتعجلة لأمريكا، بشكل سمح لدول المنطقة سواء كانت تركيا أم غيرها تأمين مصالحها. ويقال كثيرا عن الطموح التركي واردوغان لكن لا أحد يتحدث عن إسرائيل وغاراتها شبه اليومية على سوريا. ومن هنا لا تأخذ دعوات المعلقين الأوروبيين إلى مدخل أوروبي يمزج ما بين نزعة الرئيس إيمانويل ماكرون العسكرية ودبلوماسية ميركل في مواجهة تركيا بعين الاعتبار عناصر المعادلة الأخرى ويهدف للعودة إلى الوضع القائم الذي أكدته معاهدة سيفر. ولكن تركيا باتت مستهدفة من كل الجهات، ففي الكونغرس تم خلال السنتين الماضيتين تجميد كل صفقات السلاح لتركيا. وفي المقابل أعلن وزير الخارجية مايك بومبيو هذا الأسبوع عن رفع حظر تصدير الأسلحة غير الفتاكة إلى قبرص. ويجري اليوم تسويق تركيا في إسرائيل على أنها أخطر من إيران، وهي فكرة التقطتها المعلق في “واشنطن بوست” ديفيد إغناطيوس عندما اتهم إدارة دونالد ترامب بترضية اردوغان، بنفس الطريقة التي يتهم فيها ترامب سلفه أوباما بترضية إيران. وفي عام انتخابي أمريكي وإمكانية تغير الوجوه ستواجه تركيا معركة حامية بدت ملامحها من تصريحات جوزيف بايدن، المرشح الديمقراطي ضد أنقرة. ولا يعرف أحد المدى الذي سيذهب إليه اردوغان في المواجهة، لكن تركيا التي تواجه تحديات اقتصادية وتداعيات كورونا لا يمكنها تحمل العزلة، وعقوبات اقتصادية تلوح بها أوروبا. ولا بد من خطة بديلة للخروج من الأزمة تحفظ حقوق أنقرة، وفي السياسة لا يوجد أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين.