وتأملت الخلاف الذي يشجر بين الناس فرأيته يتحدد عموما في أربع دوائر ، ولكل دائرة في حسم الاختلاف فيها قواعدها ، ومرجعيتها . ولو ثاب الناس إليها في حل خلافاتهم لثابوا إلى عقل ورشد .
الدائرة الأولى فيما يشجر من خلاف بين الناس :
في الاختلاف العلمي ، ومرجعها مظانها في كتب العلم . ولكل علم ثقاته . وفي العلم مجمع عليه ومختلف فيه . فالأول أول . والمختلف فيه يسع الآخر فيه ما وسع الأول . والعلوم فيها علوم للدين وعلوم للدنيا فكما الأصول علم والفقه علم ، فكذا الفيزياء علم والكيمياء علم . وقد فوض رسول الله للناس شؤون دنياهم فقال " أنتم أعلم بأمور دنياكم " وخص علم الشريعة فيما يبلغه عن مولاه . وقول الأثبات في كل علم مرجع . ومن أبى ذلك فصاحب هوى ، لا يسمع منه ، ولا يصغى إليه وإن ادعى ..ولا يبغي فريق على فريق . وقال فقهاؤنا في كتب المتون " ومن تطبب وهو لا يحسن الطب فهو ضامن " ضامن لما يتلف ، أو لما يتسبب به من أذى ، ويظل يجلس على العرندس ويقول لك : تحصن من كورونا بصلاة عاشوراء !! ولكل قوم رادود . والقصاص الذين طردهم سيدنا علي رضي الله عنه من مسجد البصرة ربما كانوا أحسن حالا من كثير من قصاص هذا الزمان .
الدائرة الثانية فيما يشجر من اختلاف بين الناس :
اختلاف المدارك في تقدير المصالح والمفاسد ، وتغليب هذا ، أو درء ذاك ، وفي مثل هذا يكثر تفاوت الناس ، وإنما يتفاوتون لثلاثة أمور : سعة الإحاطة بالواقعة أو بأشباهها ونظرائها ، و قديم التجربة معايشة أو مدارسة ، أو ملكة وهبية من بعد نظر وجميل استشراف . وقديما كان في الخيل المجلي والمصلي وكان فيهم الفسكل الذي تعلمون .. عمرَك الله كيف يجتمعان ؟!
الدائرة الثالثة فيما يشجر من اختلاف بين الناس :
الاختلاف الأخلاقي في صورته الحقوقية ، وفصله في قضاء يفصل فيه بقواعد النفي والإثبات ، وقاض ذكي أريب عادل مثل " كعب بن سُور " رضي الله عنه وما علمنا بكعب من سور ..؟! فَقِه الشكية وحلّ القضية ، أدرك الإشارة التي غابت عن أبي حفص ، وقال في وصف دعوى المدعية : ما رأيت مثل اليوم " شكوى أشد ، ولا عدوى أجمل " وودت أن أجد عجينة لوزينج فأحشوها بمثل هذه الكلمات ..
والدائرة الرابعة مما يشجر من الاختلاف بين الناس:
الاختلاف الذوقي ، وهو على ضربين عام وخاص ، ففي الأول الذوق ذوق العموم ، والعاقل أشد حرصا أن يظهر وكأنه " الشامة بين الناس " بلبسته ومشيته ومدخله ومخرجه ومأكله بينهم ومشربه ..
وفي الثاني - الذوق الخاص - فتحب ويحبون ، وتكره ويكرهون ، لا يحمل أحدٌ أحدا على ما لا يستسيغ ، ولا يدخل له فيم يحب ويكره ، ويقارب ويباعد ، ويؤانس ويفارق مادام في دارته الخاصة ، حتى لو صليت في بيته لزمك الاقتداء به إلا أن يؤثرك. وليس لك أن تسبق إلى محل كرامته إلا أن يأمرك . وعُرض على رسول ، الله صلى الله عليه وسلم ، الضب ، فعافه ، وقال : إنه ليس ببلاد قومي ، وأمعن فيه خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، أكلا ..مع أنه من مكة بل من ذوائبها .
وقد تغزل بهن صاحب طوق الحمامة شقراء وسمراء فأكثر وذلك ذوقه . وكنت أظن الظاهرية أصحاب جفاء ، وسماهم أصحابنا الحشوية تأشيرا على ذلك ، حتى قرأت طوق الحمامة في الألفة والآف .. فأدركت رقة طبع هذا الرجل ، الذي كانوا يقولون في لسانه : لسان ابن حزم وسيف الحجاج .
واستمع إليه يقول وأروي من حفظ بلا تثريب : ".لقد وطئت بساط الخلفاء ، وحضرت مجالس الوزراء والكبراء فما عاينت مجلسا أهيب من مجلس محب بين يدي محبوب "
اللهم اجعل حبك أحب إلينا من كل شيء ومن الماء البارد على الظمأ ..
وهذه قواعد أربع تضبط دوائر الخلاف بين الناس ، فمن أوى إليها فقد أوى إلى عقل ورشد ومن أبى وتعدى فلا يوتع إلا نفسه ..
لندن : 9/ شعبان / 1441
2/ 4 / 2020
_____________
*مدير مركز الشرق العربي