الرئيسة \  تقارير  \  “فورين بوليسي”: ماذا تريد روسيا من البوسنة؟

“فورين بوليسي”: ماذا تريد روسيا من البوسنة؟

29.11.2021
ساسة بوست


ساسة بوست
الاحد 28/11/2021
تناولت فيسنا بوسيتش، النائبة الأولى السابقة لرئيس الوزراء ووزيرة الشؤون الخارجية والأوروبية في كرواتيا، كيف يعمل الكرملين على زعزعة استقرار البوسنة والهرسك سعيًا وراء تحقيق أهداف إستراتيجية واسعة النطاق، وذلك في تحليل نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
تستهل الكاتبة مقالها بما ذكره الصحفي البوسني بورو كونتيك مؤخرًا أن واقع البوسنة والهرسك يبدو كأنه فيلم لا جديد في أحداثه يتكرر منذ عقود، إذ تُوقَّع الاتفاقيات وتُبنى المؤسسات، وتُقدَّم الطلبات، ويفوز بالانتخابات من يفوز ويخسر من يخسر، وتُعقد المؤتمرات، وتُثار القضايا، وتُجرَى عمليات التقييم، والمحصلة بعد كل ذلك صفر. وقد مضت 26 عامًا منذ توقيع اتفاقية دايتون للسلام، التي أجبرت عِرقية البوشناق والكروات والصرب على إنهاء حمام الدم.
هل عادت البوسنة 26 عامًا للخلف؟
وتوضح الكاتبة أنه تماشيًا مع الواقع الذي لم يتغير منذ عقود، فإن القوات التي فوَّضها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لحفظ السلام، كي يتسنى للبوسنة إحراز أي تقدم يبدو مرضيًا كي تترك تلك القوات البلاد، لا زالت قابعة في مواقعها. وعلى الرغم من الأموال والجهود والوقت المُستثمَر في بناء الدولة، يميل صانعو السياسة، كلما نشأ أي خلاف، للاعتقاد بأنه يُمكن إعادة البلاد 26 عامًا إلى الخلف، عندما كانت خارجة لتوها من أحد أقسى الصراعات. ويحاول بعض المسؤولين تبرير ذلك عن طريق تسميته “بالعودة إلى اتفاقية دايتون الأصلية”.
ويأتي ذلك في وقتٍ يحتاج فيه أطفال حصار سراييفو، الذين يقتربون حاليًا من منتصف العمر، إلى سردية جديدة. لكن لا توجد سردية جديدة أو واقع جديد. وتقع البوسنة في قلب أزمة حادة مرةً أخرى، مع استخدام ميلوراد دوديك، زعيم صرب البوسنة وعضو الرئاسة الثلاثية، خطابًا مثيرًا للحرب، ويهاجم مؤسسات البوسنة الهشة بوحشية في محاولة صريحة لتدمير البلاد، بحسب التحليل. ويحاكي دوديك بصورة مصغرة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي بدأ بصفته سياسيًّا ديمقراطيًّا، اختاره الغرب ودعمه، لكنه انزلق شيئًا فشيئًا إلى القومية ومن ثم إلى القومية المتشددة. وكما حدث مع أوربان، أصبح دوديك ثريًّا جدًّا خلال عمله في السياسة، وهذا ما أدَّى حتمًا إلى حكومة استبدادية، مما دفعه إلى البحث عمن يحميه ووجد ضالَّته في روسيا.
ويلفت التحليل إلى أن دوديك حقق قدرًا من السمعة السيئة من خلال معارضة وجود البوسنة ذاتها. وفي وقت سابق من حياته المهنية، عندما اعتقد دوديك أن مستقبله يقع على عاتق الغرب، اعترفَ علنًا بالإبادة الجماعية في مدينة سريبرينيتشا، وتخلى عن مجرمي الحرب الصرب البوسنيين، ونصَّب نفسه مؤيدًا قويًّا لوحدة البوسنة ومستقبلها في الاتحاد الأوروبي. وعندما حوَّل ولاءاته، أولًا إلى الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش ثم إلى موسكو من أجل الحصول على الحماية، تغيَّرت سياساته وخطابه إلى حد كبير.
عملاء سياسات روسيا
تُشير الكاتبة إلى أن دوديك أدَّى دور وكيل السياسات الصربية التي تزعزع استقرار البوسنة، وكان بمثابة خطة بديلة لتهدئة أوضاع الجزء الأكثر قومية من الجمهور الصربي في حال أبرمت صربيا اتفاقية واعترفت بكوسوفو. وفي هذه الحالة، قد تستخدم صربيا سياسات دوديك الانفصالية لتبرير مطالبتها بضم جمهورية صرب البوسنة على سبيل التعويض عن خسارة كوسوفو. ولكن بتحويل نفسه إلى أداة لتحقيق أهداف روسيا الجيوسياسية الأكبر، تغيَّرت علاقة دوديك بصربيا أيضًا. ولم يعد دوديك مجرد بيدق في السياسة الصربية، لكن السياسات الصربية أصبحت رهينة في يده.
وتؤكد الكاتبة أن دوديك بمفرده غير مهم إطلاقًا. ولا تزيد شجاعته وغطرسته وفائدته عن كونها نِتاجًا خالصًا للدعم الروسي. وكما قال بنفسه عندما هدَّد الجيش البوسني بالدمار طارحًا فكرة تشكيل جمهورية صرب البوسنة لجيشها الخاص، إنه: “إذا حاول أي شخص إيقافنا، فلدينا أصدقاء سيدافعون عنا”. وهذا هو السبب في أن الاجتماعات الأخيرة لزعماء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مع دوديك كانت مثيرة للشفقة نوعًا ما بحسب الكاتبة. فلم تؤدّ التنازلات والتسويات التي يقدمونها، مثل تقليص سلطات مكتب المندوب السامي الخاص بالاتحاد الأوروبي في البوسنة، أو عزل القضاة الأجانب الثلاثة من المحكمة الدستورية في البلاد، أو تعميم المقترحات المطروحة التي ستُطبع التغييرات الحدودية في البلقان، إلى استرضاء دوديك أو دفعه إلى تغيير خطابه المثير للفوضى. ويرجع ذلك إلى أنه ليس الشخص الذي يمكنه إتمام اتفاق.
وفي حقيقة الأمر، ترى الكاتبة أنه لا يمكن إلقاء اللوم على دوديك وحده، أو غيره من مثيري القلاقل، في العمل على زعزعة استقرار البوسنة ومنطقة غرب البلقان برمتها. فهم مجرد عملاء لسياسات روسيا التخريبية، من وجهة نظرها. ويجب على قادة الاتحاد الأوروبي، قبل أن يتعاملوا دبلوماسيًّا مع دوديك أو رعاته في الكرملين، التفكير مليًّا فيما تسعى موسكو لتحقيقه بالضبط من زعزعة استقرار البلقان، وهل هناك ثمة قرار يمكن أن يفيد كلا الطرفين أم لا. وكانت روسيا تتعامل لسنوات عديدة مع الاتحاد الأوروبي بوصفه ناديًّا سياسيًّا ذا تقدير ولكنه غير ضار في الغالب.
بيد أن هذا تغير إلى حد كبير بعد عام 2014، عندما وقَّع الاتحاد الأوروبي عددًا من الاتفاقيات الخاصة مع جورجيا ومولدوفا في قمة الشراكة الشرقية للاتحاد الأوروبي في فيلنيوس، في ليتوانيا خريف 2013، واتفاقية مع أوكرانيا في يونيو (حزيران) 2014. ومنذ ذلك الحين، بدأت روسيا ترى الاتحاد الأوروبي عدوًا مثل الناتو، وأعقب ذلك الحرب في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم. وتمثل رد الفعل الغربي في فرض عقوبات، ثم مزيد من العقوبات. ومن المؤكد أن تصرفات روسيا تستحق ردة فعل قوية، لكن الانهيار التدريجي للاتصالات بين روسيا والغرب سيكون، بحسب الكاتبة، إحدى النتائج لذلك.
اختفاء قنوات الاتصال بين روسيا والاتحاد الأوروبي
ألمحت الكاتبة إلى أن المجلس المشترك بين الناتو وروسيا كان أول من توقف عن العمل، وأخذت قنوات الاتصال الرسمية والقنوات الوطيدة غير الرسمية تختفي واحدة تلو الأخرى، وفي الوقت نفسه، أصبحت سياسات روسيا أكثر عدوانية وأكثر تدخلًا وأكثر تخريبًا وخطورة. وحدَّد الكرملين منطقة غرب البلقان على أنها ساحة مثالية لعمليات نفوذها واستفزازاتها السياسية. وكان للمنطقة عديد من المزايا من المنظور الروسي: فهي صغيرة نسبيًّا، ومُقسمة بين عديد من الدول الفقيرة، وبالنظر إلى تاريخها الحديث، لن يكون من الصعب إثارة الاضطرابات فيها وزعزعة استقرارها.
كما أن أراضي الاتحاد الأوروبي تطوق منطقة غرب البلقان، والتي تعج بدول تطمح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد يتفاجأ الدبلوماسيون والسياسيون الروس الرفيعو المستوى الذين يتعاملون مع هذه القضية من عدم وجود أي رد فعل من الاتحاد الأوروبي ضد جهودهم التخريبية في غرب البلقان وفي البوسنة تحديدًا. وقد تحولت المنطقة إلى رقعة شطرنج تريد روسيا أن تمارس عليها نفوذها وتتنافس مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكن روسيا حاليًا هي اللاعب الوحيد في المنطقة.
وتنوه الكاتبة إلى أن الاتحاد الأوروبي فقد إحساسه بالاتجاهات في منطقة غرب البلقان، بينما بدأت شعوب المنطقة تفضيل روسيا والصين، بصورة متزايدة، بوصفهما شريكين يُعتمد عليهما أكثر من الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، وعندما نتحدث عن سياسة الاتحاد الأوروبي في المنطقة، تقول الكاتبة إنه يبدو أن اثنين من اللاعبين الرئيسين قد خرجا من المشهد: المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يصب تركيزه على الانتخابات الرئاسية المقبلة.
مصير الحلول الدبلوماسية
تخلُص الكاتبة إلى أن روسيا ليست بحاجة إلى دوديك أو سياسيين آخرين في البلقان، وما يحتاجه الكرملين هو إعادة فتح قنوات الاتصال مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وإذا أدَّى ذلك إلى حل كثير من مشاكله، فإن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى ذلك أيضًا. أما مشكلات دول غرب البلقان، والبوسنة تحديدًا، فلا يمكن حلها إلا بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. وليس هناك شك في أن روسيا هي المثير الأساسي للقلاقل في البلقان، مستخدمة بيادقها المحلية لتنفيذ تلك السياسة. ومع ذلك، فقد تتجاوز أهدافها المنطقة وتشمل إيجاد حل توافقي أوسع مع الاتحاد الأوروبي.
وتؤكد الكاتبة أن روسيا لديها حساسية خاصة بشأن ما يُسمى بـ “البلدان المجاورة” (الجمهوريات السوفيتية السابقة). وأصبحت دول البلطيق الثلاث الآن أعضاءً ثابتين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسوف يؤدي العدوان السافر هناك إلى جلب مشكلات أكثر بكثير من أي فائدة محتملة لروسيا. وتشير الكاتبة إلى تدخل روسيا العسكري، خلال 13 عامًا مضت، في جورجيا وأوكرانيا، وإعادتها بيلاروسيا إلى حظيرتها من خلال دعم ديكتاتور البلاد المعزول دوليًّا، ألكسندر لوكاشينكو. وتنظر روسيا إلى هذه الدول على أنها ذات صلة مباشرة بأمنها. ولا شك أن إبقاءها في حالة دائمة من النزاعات الكامنة أو المنخفضة الحدة يتعارض مع عدد من مصالح روسية أخرى، مثل بناء خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي يربط روسيا بألمانيا. وهذه هي القضايا الرئيسة التي تحتاج روسيا إلى تحقيق بعض التفاهم مع الغرب بشأنها.
وتختتم الكاتبة مقالها بالتأكيد على ضرورة اجتماع قادة روسيا والاتحاد الأوروبي معًا ومناقشة الأوضاع الأمنية ​​في أوروبا. لكن هل سيحدث ذلك قبل أم بعد تدمير المستقبل الأوروبي الديمقراطي لدول غرب البلقان؟ وفتح قنوات اتصال مع موسكو لا يعني الموافقة على سياسات روسيا، لكن بدون التواصل لا توجد فرصة لإيجاد حلول دبلوماسية.