الرئيسة \  تقارير  \  “فورين بوليسي”: كيف يُهزم الاستبداد وتنتصر الديمقراطية؟

“فورين بوليسي”: كيف يُهزم الاستبداد وتنتصر الديمقراطية؟

18.01.2022
ساسة بوست


ساسة بوست
الاثنين 17/1/2022
المستبدون اليوم في موقف دفاعي مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، إلا أن مصير الديمقراطية يعتمد على القادة الذين يحققون النتائج الملموسة.
نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية مقالًا لكينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، تحدث فيه عن الصراع بين الديمقراطية والاستبداد وما الذي يمكن أن يجعل الديمقراطية تنتصر حقًّا في نهاية المطاف.
ديمقراطية أم استبداد؟         
يقول كينيث في مستهل تقريره إن الحكمة المتداولة هذه الأيام تقول إن الاستبداد في صعود بينما الديمقراطية آخذة في التدهور. ولكن هذا الحُكم السطحي لأطروحة صعود الاستبداد يناقض حقيقة أعقد ومستقبلًا أكثر قتامة يواجِهه الحكام المستبدون، وبما أن الناس يرون أن الحكام غير المسؤولين يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالح الشعب، فإن المطلب الشعبي بديمقراطية تحترم الحقوق لا يزال قويًّا.
وبدا أن بلدانًا عديدة من ميانمار والسودان وروسيا وبيلاروسيا ونيكاراجوا وبولندا وأوغندا وحتى كازاخستان، قبل اندلاع الاحتجاجات، قد اختُطفت في صراع حكومي على السلطة، ولذلك نزل عدد كبير من الناس إلى الشوارع مؤخرًا مواجهين خطر الاعتقال أو إطلاق النار، بينما هناك قليل من التجمعات لدعم الحكم الاستبدادي.
وفي بعض البلدان التي تمارس على الأقل ما يشبه الانتخابات الديمقراطية بعيدًا عن الميول الاستبدادية لحكامها، بدأت الأحزاب السياسية المعارضة في تخطي خلافاتها وإنشاء تحالفات لتحقيق هدفهم المشترك، وهو إطاحة الحاكم، وبما أن الحكام المستبدين لم يعُد بإمكانهم الاعتماد على الانتخابات المُتلاعب بها، يلجأ عدد منهم إلى التمثيليات الانتخابية لتحقيق النصر، بيد أنها تفشل في منحهم الشرعية.
هل تخدم الديمقراطية الاستبداد؟
يرى الكاتب أن الحكام المستبدين لا يزالون يستمتعون بحكمهم بسبب إخفاقات القادة الديمقراطيين. والديمقراطية هي أقل أشكال الحكم سوءًا كما قال ونستون تشرشل، لأن الناخبين بإمكانهم التصويت لإقصاء الحكومة، ولكن القادة الديمقراطيين اليوم لا يستجيبون للتحديات التي تواجههم، وسواء كانت أزمة التغير المناخي، أو جائحة كورونا، أو الفقر وعدم المساواة، أو التحيز العنصري، أو التهديدات التي تمثلها شركات التكنولوجيا الكبرى، فهؤلاء القادة غالبًا ما يكونون غارقين في المعارك الحزبية والمشكلات قصيرة المدى.
ولكن إذا كان يجب على الديمقراطيات أن تسود، فعلى قادتها أن يفعلوا أكثر من مجرد فضح عيوب الحكام المستبدين، فهم بحاجة إلى تقديم حُجج أقوى وأكثر إيجابية حول الحكم الديمقراطي، وهذا يعني القيام بعمل أفضل لمواجهة التحديات المحلية والعالمية لضمان المكاسب الموعودة للديمقراطية.
ويعني أيضًا الدفاع عن المؤسسات الديمقراطية مثل المحاكم المستقلة، والصحافة الحرة، والهيئات التشريعية القوية، والمجتمعات المدنية الحية، حتى وإن أدَّى ذلك إلى تحديات غير مرحَّب بها للسياسات التنفيذية، ويتطلب أيضًا رفع الخطاب العام والعمل بموجب المبادئ الديمقراطية وتوحيد المواطنين في مواجهة التحديات القادمة.
ويتطلع معظم العالم اليوم إلى القادة الديمقراطيين لحل مشكلاته الكبرى؛ إذ لم يكلف القادة الصينيون والروس أنفسهم حتى عناء حضور قمة المناخ للأمم المتحدة في مدينة جلاسكو في أسكتلندا العام الماضي، ولكن إذا كان المسؤولون الديمقراطيون غير قادرين على استحضار القيادة الحكيمة التي تتطلبها هذه الحقبة الصعبة، فهم يخاطرون بتأجيج الإحباط واليأس اللَّذَين يشكلان تربة خصبة لحكم المستبدين.
الديمقراطية في معناها الحقيقي
يلفت الكاتب إلى أن الهدف الأول لكل المستبدين يكمن في التخلص من الضوابط على حكمهم، والديمقراطية الحقيقية لا تتطلب انتخابات دورية فقط، بل نقاشًا عامًّا حرًّا، ومجتمعًا مدنيًّا سليمًا، وأحزابًا سياسية تنافسية، وقضاءً مستقلًا قادرًا على الدفاع عن الحقوق الفردية ومحاسبة المسؤولين، وعادةً ما يهاجم الحكام المستبدون هذه الضوابط على حكمهم من خلال ملاحقة الصحافيين المستقلين والناشطين والقضاة والسياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وبدت أهمية هذه الضوابط واضحة في الولايات المتحدة عندما استطاعت أن تعوق محاولة الرئيس آنذاك، دونالد ترامب، لسرقة انتخابات عام 2020، وفي البرازيل حيث تعمل على إعاقة تهديد الرئيس جايير بولسونارو بفعل الشيء نفسه في الانتخابات المقرر عقدها في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
إن عدم وجود إجراءات ومؤسسات ديمقراطية يترك المستبدين دون مساءلة أمام الشعب، وهذا يجعلهم منحازين لخدمة مصالحهم الشخصية ومصالح مؤيديهم، ويزعم المستبدون أنهم يحققون نتائج أفضل من الديمقراطيين ولكنهم يقدمونها لأنفسهم في الحقيقة وليس للشعب.
وأوضحت جائحة كوفيد-19 اتجاه الخدمة الذاتية هذا أكثر؛ إذ قلل الحكام المستبدون من خطورة الجائحة وأداروا ظهورهم للأدلة العلمية ونشروا المعلومات الخاطئة وفشلوا في اتخاذ الخطوات الأساسية لحماية صحة الشعب. ومع ارتفاع معدلات الإصابات والوفيات من جراء الجائحة، هدد بعض هؤلاء القادة العاملين في المجال الصحي والصحافيين أو أسكتوهم أو حتى سجنوهم، وظهر هذا السيناريو في مصر والهند والمجر والبرازيل وتنزانيا في عهد الرئيس الراحل جون ماجوفولي، وفي الولايات المتحدة في عهد ترامب، واستخدم بعض المستبدين الوباء حجة لوقف المظاهرات ضد حكمهم وسمحوا بتجمعات أخرى لصالحهم، كما حدث في أوغندا وروسيا وتايلاند وكمبوديا وكوبا.
الاستبداد وما يفعله بالبلاد
وحتى في الصين أسهم التستر الرسمي في انتشار الفيروس بين الناس في الثلاثة أسابيع الحرجة الأولى من شهر يناير (كانون الثاني)، بينما خرج ملايين الأشخاص من المدينة ودخل غيرهم، الأمر الذي أسهم في انتشار الفيروس عالميًّا، وحتى يومنا هذا، ترفض بكين التعاون مع تحقيق مستقل ينظر في أصل الفيروس، وفقًا للكاتب.
ويستخدم المستبدون موارد البلاد لخدمة مصالحهم الذاتية بدلًا من تحقيق مصالح الشعب، وحدث ذلك في المجر عندما أنفق رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، إعانات الاتحاد الأوروبي المخصصة لملاعب كرة القدم على دفع رواتب أصدقائه، فيما ترك المستشفيات في حالة يُرثى لها، وفي مصر، ترك الرئيس السيسي المنشآت الصحية في حالة من التدهور بينما ازدهر الجيش ومؤسساته التجارية، وبالرغم من تراجع الاقتصاد الروسي، زاد الكرملين الإنفاق على الجيش والشرطة.
وهذا التصرف السريع لحكومات المستبدين غير المقيدة بالضوابط سيؤدي إلى تراجعها؛ إذ إن النقاش الحر في الحكم الديمقراطي قد يؤدي إلى إبطاء اتخاذ القرار إلا أنه يضمن الاستماع إلى كل الآراء، ويميل المستبدون إلى قمع الأصوات المعارضة؛ ما يؤدي إلى إصدار قرارات غير مدروسة، وأشار الكاتب في هذا الصدد إلى ما فعله الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عندما خفض سعر الفائدة لمواجهة التضخم المتصاعد.
وبنى الرئيس السريلانكي السابق، رئيس الوزراء حاليًا، ماهيندا راجاباكسا، ميناءً بقروض صينية، ما أدَّى إلى خسائر اقتصادية كبيرة لدرجة جعلت الصين تسيطر على إدارة الميناء لمدة 99 عامًا. ولم تتعافَ الهند بالكامل بعد القرار المفاجئ لحكومة رئيس الوزراء، نارندرا مودي، بإلغاء العملات الورقية ذات القيمة العالية في محاولة منه لاحتواء الفساد، وهي خطوة تؤذي الأشخاص المهمشين الذين يعتمدون على النقود للعيش ومواصلة الحياة.
المستبدون والانتخابات
يشير الكاتب إلى أن المستبدين اعتقدوا أنهم تمكنوا من التلاعب بالمصوِّتين في الانتخابات؛ إذ يسمحون بالاقتراع الدوري ولكن بعد التلاعب في الانتخابات بما يكفي لضمان الفوز لهم، ولكن عندما أصبح الفساد واضحًا في الحكم الاستبدادي، أصبح الناخبون أكثر تنبهًا لهذا التلاعب.
وفي البلدان التي تسمح بالتعددية، بدأت الأحزاب تتحالف لتحقيق مصالح مشتركة، كما حدث في التشيك حيث هزم تحالف كهذا رئيس الوزراء أندريه بابيس في صناديق الاقتراع، وأنهى التحالف في إسرائيل الحكم المطوَّل لبنيامين نتنياهو. وأسهم اتجاه مماثل داخل الحزب الديمقراطي في اختيار جو بايدن لخوض انتخابات 2020.
ثم استخدمت الحكومات المستبدة القمع والتخويف لضمان الفوز في الانتخابات، ففي الانتخابات البرلمانية الروسية، استبعدت السلطات بالفعل المرشحين المعارضين وحظرت الاحتجاجات وأسكتت الصحافيين والناشطين، كما سجنت الشخصية المعارضة البارزة أليكسي نافالني، ووصفت منظمته بأنها متطرفة.
وفي آخر اقتراع حر نسبيًّا في هونج كونج، في انتخابات مجلس المقاطعة عام 2019، فاز المرشحون المؤيدون للديمقراطية بأغلبية ساحقة. وعندما برز تهديد مماثل في انتخابات المجلس التشريعي عام 2021، مزقت الحكومة الصينية ترتيب “دولة واحدة ونظامان”، وفرضت قانونًا صارمًا للأمن القومي أنهى الحريات السياسية للإقليم، وسمحت للوطنيين بالترشُّح للمناصب فقط.
وفي نيكاراجوا، سجن الرئيس دانيال أورتيجا جميع المعارضين البارزين والعشرات من منتقدي الحكومة، وألغى الوضع القانوني لأحزاب المعارضة الرئيسة، وفعل الأمرَ نفسه الرئيسُ البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو مع خصومه الرئيسين، واستبعد رجالُ الدين الحاكمون في إيران الجميعَ باستثناء المتشددين في الانتخابات الرئاسية، ورفضت قيادة أوزباكستان تسجيل أي أحزاب معارضة لضمان عدم وجود تحدٍّ حقيقي لحكم الرئيس شوكت ميرزيوييف.
تنويعات على معزوفة الاستبداد
يلفت الكاتب إلى أنه بعد هذا التقويض الصارخ للانتخابات أصبحت الديمقراطية تمثيلية لا تمت للمنافسة الحرة بصلة، وانتقل هؤلاء المستبدون من التلاعب باختيارات الناس إلى الحكم بالقمع والتخويف، ويرى بعض المعلِّقين هذا على أنه دليل قوة لهؤلاء المستبدين، إلا أنه على العكس تمامًا من ذلك؛ إذ فقد هؤلاء الحكام أي احتمال لوجود دعم شعبي لهم.
وتقدم الحكومة الصينية تنويعة على هذا الموضوع؛ إذ لا تسمح بالانتخابات على أراضيها، ويفرض الدستور ديكتاتورية شيوعية تراها الحكومة على أنها تفوقت على فوضى الديمقراطية، وتبذل الحكومة قصارى جهدها لتجنب المرور بهذا الأمر، حيث تفرض رقابة على النقاد، وغالبًا ما تعتقلهم.
وهناك بلدان أخرى تخشى على حكوماتها الديكتاتورية أو الملكية إلى حد أنها لم تسمح حتى بعقد انتخابات تتلاعب بها كما هي الحال في كوبا وفيتنام وكوريا الشمالية والسعودية والإمارات.
ومعظم الديمقراطيات اليوم لا تتمتع بسجل جيد في معالجة العلل الاجتماعية أو التعامل مع المشكلات بسرعة؛ إذ إن تقسيم السلطة لا بد وأن يؤدي إلى إبطاء ممارساتها، ولكن هذا هو ثمن تجنب الاستبداد، ولكن الديمقراطيات اليوم فشلت بطريقة تتجاوز تلك القيود المتأصلة في الضوابط الديمقراطية.
المعركة بين الديمقراطية والاستبداد
تمثل أزمة التغير المناخي تهديدًا خطيرًا، ومع ذلك يبدو أن القادة الديمقراطيين غير قادرين على تجاوز الخلافات المحلية واتخاذ الخطوات المطلوبة. وصحيحٌ أن الديمقراطيات استجابت للجائحة وأنتجت لقاحًا ذا فعالية كبيرة وبسرعة ملحوظة، إلا أنها فشلت في التأكد من حصول شعوب البلدان الفقيرة على هذا الاختراع المنقذ للحياة، وهو الأمر الذي أدَّى إلى وفيات لا حصر لها.
واتخذت بعض الحكومات الديمقراطية خطوات للتخفيف من العواقب الاقتصادية لجائحة كوفيد-19، بيد أنها لم تعالج بعد المشكلة الأكبر والمستمرة المتمثلة في انتشار الفقر وعدم المساواة أو بناء أنظمة حماية اجتماعية مناسبة لتجاوز الاضطراب الاقتصادي المقبل الحتمي.
ولا تزال المعركة بين الديمقراطية والاستبداد غير محسومة؛ إذ إن المستبدين اليوم في موقف دفاعي مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وظهور تحالفات سياسية واسعة مؤيدة للديمقراطية، وفشل الانتخابات المتلاعب بها، بيد أن مصير الديمقراطية معلَّق في جزء كبير منه على تصرفات القادة الديمقراطيين: هل سيتصدون للتحديات التي نواجهها ويرفعون من مستوى النقاش العام والتعامل بموجب مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يدَّعون الدفاع عنها؟
ويختم الكاتب بالقول: كون الديمقراطية أقل الأنظمة سوءًا ربما لا يكون كافيًا إذا أدَّى اليأس العام من فشل القادة الديمقراطيين في مواجهة تحديات اليوم إلى اللامبالاة العامة، إن لم يكن اليأس من الديمقراطية نفسها، وربما يفتح الباب أمام القادة الاستبداديين الذين يتمتعون بشخصيات آسِرة، ففي نهاية المطاف، لا يتطلَّب الدفاع عن حقوق الإنسان كبح القمع الاستبدادي فقط، بل يتطلب أيضًا تحسين القيادة الديمقراطية.