الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ورحل سيزكين

ورحل سيزكين

04.07.2018
علي رافع


ساسة بوست
الثلاثاء 3/7/2018
كالعادة حينما ننسى علماءنا ومفكرينا ومبدعينا ولا نذكرهم حتى رحيلهم، أو لا نذكرهم أبدًا، رحل العالم التركي فؤاد سيزكين بعد أن ناهز من العمر الخامسة والتسعين، وهو ينقب عن الآثار العربية والإسلامية، ويخرج للعالم حضارة نسوها أو تعمدوا نسيانها.
فهو المولود في عام 1924 في بطليس، تركيا، وفيها أكمل دراسته الابتدائية والثانوية، وكان ينوي الدراسة في الجامعة التكنولوجية، إلا أن واحدًا من أقربائه اصطحبه إلى المستشرق هلموت رئر والذي كان يدرس هناك منذ عام 1926، وهو من أنشأ سلسلة (النشريات الإسلامية) التي نشرت عيون التراث العربي وما زالت. أقنع رئر المحب للتراث العربي فؤاد سيزكين بدراسة التاريخ العربي الإسلامي فضلًا عن الرياضيات، لكي يرضي الرغبة العلمية الملحّة.
بدأ سيزكين رحلته في تراث العرب بتعلم لغتهم جيدًا إلى حدّ أصبح فيه متحدثًا متقنًا للحوار بها مع أساتذته وهو لا يزال في الفصل السابع من الدراسة. وبقي تحت ظل البروفيسور هلموت رئر، لكي يحصل في عام 1954 على الدكتوراه بأطروحته الموسومة "مصادر البخاري". دافع فيها عن وجهة نظره المخالفة لرأي الكثير من المستشرقين الذين كانوا يرددون ما كان يشيع بينهم من روايات وآراء رأى أنها غير صحيحة، وأثبت أنّ المجموع من الحديث في صحيح البخاري كان يعتمد على مصادر مكتوبة تعود إلى القرن السابع الميلادي وكذلك على التواتر الشفهي.
ثم أصبح سيزكين أستاذًا في جامعة إسطنبول في عام 1954، وكان اهتمامه منذ وقت مبكر منصبًّا على مسألة نشر التاريخ الحقيقي للعلوم العربية في العصر الذهبي الإسلامي وتأثيرها على بلاد الغرب.
في عام 1961 كان العالم العاشق للتراث العلمي العربي قد اختار ألمانيا موطنًا جديدًا له. وبدأ العمل على تحقيق الحلم المتمثّل بمشروعه في جمع وإعادة نشر تاريخ العلوم العربية. في بادئ الأمر كتب بجامعة فرانكفورت عمله الأول للحصول على لقب برفيسور في تاريخ العلوم الطبيعية، وسرعان ما أدرك أن جامعة فرانكفورت لا تلبّي رغبته لتنفيذ خططه، وبعد ذلك بعامين، أي في العام 1963 أصدر المجلّد الأول من (تاريخ التراث العربي) والتي وصل عددها بعد ذلك إلى 12 مجلدًا في علوم العرب التي شملت العلوم الأدبية والطب والكيمياء والجغرافيا، ليكون بذلك أهم مستدرك لكتاب أستاذه الشهير كارل بروكلمان (تاريخ الأدب العربي).
سعى لدى الدول العربية إلى تطبيق فكرته الداعية إلى تأسيس معهد دولي متخصص بتاريخ العلوم العربية الإسلامية، وقد شارك 14 بلدًا عربيًا فضلًا عن المنظمات والأصدقاء والمشجعين من العالم الإسلامي بالتبرع بثلث الأموال المقترحة كرأس مال أولي للجمعية ومنها كان العراق، وتبرعت الكويت وحدها بتأسيس المبنى المناسب قرب الجامعة وتجديده بالشكل الذي يلبّي متطلبات المعهد من قاعات ومتاحف ومراكز وخزائن للمخطوطات التي يجب أن تكون حسب مواصفات محددة ومقاسات معينة وتوفير الجو المناسب لحفظ التراث الضخم الذي بدأ بجمعه العالم الشاب.
وفي عام 1982 تحقق الحلم ولاح في سماء العلوم وتأسس (معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية) في إطار جامعة فرانكفورت، وقد منح فؤاد من قبل رئيس دولة ألمانيا وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى في العام نفسه، وفي سنة 1978 كان أول شخص يحصل على جائزة الملك فيصل للعلوم الإسلامية، وتلا ذلك سنة 1979 حصوله على ميدالية غوته من مدينة فرانكفورت الألمانية.
يقول سيزكين: "إن المسلمين قد بدؤوا في القرن الأول من دخولهم ساحة التاريخ العالمي بنقل المعارف المتوفرة لدى أبناء الثقافات الأخرى التي كانت في هذه الأثناء قد خضعت لسيطرتهم. وما لبثت أن تبعت الاتصالات الشخصية – التي أجراها رجال العلم – عملية واسعة النطاق لترجمة الكتب من اللغات اليونانية والفارسية إلى اللغة العربية. ومما يستحق الإعجاب في هذا الصدد أن تبني الأفكار والإنجازات الغربية قد تم دون تحفظات دينية. وبعد مرحلة الجمع والاطلاع التي استغرقت نحو 200 عام، وتمكن العلماء العرب خلالها من دراسة المعارف العلمية التي كانت موجودة في العالم آنذاك، بدأت مرحلة الإبداع والتأليف في صفوف العلماء العرب. وفي هذه المرحلة وصلوا في كل حقل من حقول العلم إلى مستوى أعلى، ودفعوا الفروع العلمية نحو مزيد من التخصص، ووضعوا كثيرًا من المصطلحات العلمية الجديدة.
وأخيرًا فإن العالم مدين لأولئك الباحثين العرب القدامى باعتماد التجربةِ وسيلةً للبحث العلمي تطبق بصورة منهجية".
معهد تتلمذ فيه طلاب من جميع شعوب العالم التي سُكنت بحبّ العربية وأهلها، ماضيها وحاضرها، شعوب عشقت مجدًا بناه الأجداد، فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا كل ما مضى وكان.
في الثلاثين من يونيو (حزيران) عام 2018، رحل العالم فؤاد سيزكين عن عمر ناهز الخامسة والتسعين. بعد أن وافته المنية في أحد مشافي إسطنبول، لينعاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر حسابه الرسمي في مواقع التواصل الاجتماعي. ويأفل نجم مكتشف كنز من كنوز العرب المفقودة.