الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل نعيد الكرّة مع كيان جديد؟

هل نعيد الكرّة مع كيان جديد؟

17.12.2018
سهير الأتاسي


سوريا تي في
الاحد 16/12/2018
لقاءات تشاورية وندوات وورشات عمل تنعقد بشكل مستمر، وعلى وجه الخصوص في الآونة الأخيرة للبحث عن جوابٍ لسؤال يطرحه من يؤمن بضرورة استمرارية الثورة السورية وانتصارها في نهاية المطاف، ومن يبحث عن الطريقة المثلى للخروج من الاستعصاء الحالي: "ما العمل"..؟؟ خصوصاً بعد أن وصلت القضية السورية إلى حالة من التعقيد الشديد، وبعد مرورها بالمشاهد التي تحاول بعض الأطراف الخارجية بالتعاون مع بعض السياسيين السوريين، أن يجعلوا منها المشاهد الأخيرة. لم تخرج تلك اللقاءات والندوات والورشات عن المألوف في اقتصارها على الدور التحليلي الذي بتنا نستسهله، نحن وبعض شخصيات المعارضة حتى ممّن عهدنا جذريتهم في الدفاع عن مبادئ الثورة السورية، حيث تبدأ تلك الندوات كما تنتهي: قراءة المشهد الحالي وتحليله وسرد مسبباته الذاتية والموضوعية، نقد المسار الرسمي الذي تنخرط فيه المؤسسات الرسمية لقوى الثورة والمعارضة وهو نقد له موجباته، ولكنه لا يمكن أن يكون كافياً لتبرئة أنفسنا من التدهور السريع الخطير للقضية السورية، الأمر الذي يمكن أن يأخذ أيضاً شكلاً من أشكال التنصُّل من المسؤولية في الحاضر والمستقبل. بينما تقع على عاتقنا مسؤولية محاولة العمل على صناعة مشهدٍ آخر ومسارٍ آخر بدلاً من التخفّي وراء ذريعة أننا مازلنا بحاجة للمزيد من الوقت لاستيضاح المشهد الذي يصنعه الآخرون: دولاً وشخصيات لم تكن سوى أداة إخراج سوريّة ذلك المشهد. وبعض تلك اللقاءات تناقش السؤال الحتمي: "هل نحتاج كياناً جديداً يمثّل الثورة والمعارضة، ويحلّ محلّ الكيانات القائمة في مخاطبة المجتمع الدولي والانخراط في العملية السياسية؟". فهل نعيد الكرّة من جديد؟
ومع تلك السلسلة بدأنا نتوه، وصار شغلنا الشاغل ضمان كسب الشرعية الدولية واستمراريتها بدلاً من الحفاظ على الشرعية الشعبية الثورية التي منحنا إياها الثوار على الأرض في البدايات
لقد بدأت سلسلة تشكيل الأجسام السابقة لقوى الثورة والمعارضة على أساس ضرورة وجود كيان تمثيلي يخاطبه المجتمع الدولي ويدعم الثورة من خلاله، ثم توالت الأجسام للتكيّف مع المراحل التي فرضتها المبادرات الدولية والمجتمع الدولي على القضية السورية: فمن إسقاط نظام الأسد ورفض الحوار أو التفاوض معه، إلى مرحلة المفاوضات للوصول إلى حل سياسي شامل عبر انتقال سياسي جذري يبدأ بتأسيس هيئة حكم انتقالي لا وجود للأسد وزمرته القاتلة فيها، إلى عمل مشترك مع النظام القائم في لجنة دستورية تتجاوز المرحلة الانتقالية وتقزّم العملية السياسية لتصبح عملية دستورية ثم انتخابية ثم تقاسم سلطات. ومع تلك السلسلة بدأنا نتوه، وصار شغلنا الشاغل ضمان كسب الشرعية الدولية واستمراريتها بدلاً من الحفاظ على الشرعية الشعبية الثورية التي منحنا إياها الثوار على الأرض في البدايات، وبدلاً من إعطاء الأولوية لترتيب البيت الداخلي والعمل على مشروع وطني بتوافقات حقيقية وبرامج عمل قابلة للتطبيق، أصبحت تلك الكيانات هدفاً قائماً بذاته لا يمكن استمراره دون الرضى الدولي الذي بات هو المعيار والأساس. فهل نعيد الكرّة أيضاً ومن جديد؟
لستُ ممن يعتقد بصوابية البحث من جديد عن صنع كيانٍ يسعى للتنافس على الشرعية الدولية مع الكيانات القائمة لقوى الثورة والمعارضة، ويشغل نفسه بالعمل على انتزاع صفة تمثيل الثورة منها، والحلّ محلها في المسارات التفاوضية: الآستانية والسوتشية والجنيفية، بل ولستُ ممن يدّعي امتلاك أجوبة استباقية حول مقتضيات المرحلة الحالية بما تحملها من تحديات وتراجعات وانتكاسات، وبما تتضمّنها أيضاً من فرص وآمال بأن نبحث للمرة الأولى عما تحتاجه الثورة السورية فعلاً وحقاً لتستعيد أنفاسها وتحقق انتصارها، وليس عما يحتاجه المجتمع الدولي ليدعمها خصوصاً بعد تجاوز حالة الوهم بأن المجتمع الدولي يمكن أن يعطي الأولوية لنصرة حقوق الشعب السوري على حساب استغلال تلك الحقوق واستخدامها كمجرد ورقة تساومية لتقاسم المصالح والنفوذ الدولي.
لا يجوز اليوم أن نعيد الكرّة من جديد، بل لا بدّ من بحث جدّي ومسؤول، معمّق ونوعيّ، للاستراتيجية التي من شأنها أن تمكّننا، على المستوى الوطني أولاً، من وقف التدهور السياسي للقضية السورية، ولا بدّ من السير باتجاه الخطوات الأولى لدراسة هامش حركتنا وتأثيرنا وفعّاليتنا، أدواتنا وخارطة طريقنا، كذلك دراسة مرتكزات خطة عملية تنفيذية قابلة للتطبيق والقياس، حيث لم يعد من الممكن الاستسلام للخوف من الفشل الذي يُؤجّل دوماً الخطوة الأولى. ففي ساحة العمل السياسي والمدني وفعالياته هناك تعبيرات مستمرة للحاجة إلى جهة وطنية مستقلة تتمسّك بأهداف الثورة وتمسك بزمام المبادرة، تعبّر عن إرادة الشعب السوري في الحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة والتحرر والاستقلال دون ادّعاء تمثيله، وتحافظ على استقلالية القرار الوطني أو بالأحرى تعيد التأسيس لهذا المفهوم، فتذهب إلى ما بعد الأطر الجنينية غير المكتملة التي أسست لها تلك التعبيرات التي بقيت، في غالبها، في إطار إعادة الاعتبار للمبادئ والأهداف المتفق عليها لدى قوى الثورة والمعارضة دون الإجابة على الأسئلة الجوهرية المطروحة.
الاستحقاقات والتحديات تزداد تعقيداً، وتحتاج إلى ذهنية مختلفة ومنهجية وآليات عمل جديدة، سبقتنا فيها وإليها بعض المبادرات المدنية والاجتماعية التي تجترح اليوم مساراً حديثاً يستمرّ بعمله الثوري ويتجذّر عميقاً في الساحة السورية الداخلية والخارجية. وما نفتقده اليوم المبادرة في المسار السياسي وتحمّل مسؤولية القيام بمهام راهنة يجب أن تذهب في جوهرها وآنيّتها وراهنيّتها إلى ما بعد التأكيد على المبادىء العامة التي رافقت ومن الطبيعي أن ترافق أسس تشكيل كل التيارات والبنى الوطنية، ومن تلك المهام البحث في أولوية وكيفية التأسيس لمسار وطني شعبي مستقل يستعيد الثورة ويدافع عن جذرية أهدافها ليكون بمثابة بوصلة الرأي والموقف، وكذلك التأسيس لكتلة حرجة منظّمة تعمل على توسيع قاعدة الموقف وصولاً لبلورته وبناء توافقات حوله وتشكيل رأي وموقف وطني عام رافض للحل الاستسلامي الانهزامي وضاغط لتصويب مسار المعارضة المنخرطة في العملية السياسية، يتحمّل مسؤولية الوضوح في رفض المسار السياسي الرسمي الحالي الذي يتجاوز الشرعية الدولية ويخترق قراراتها ويشوّهها. وبذلك يمكن أن تعود فعاليات الثورة إلى دائرة التأثير والفعل والمشاركة في صناعة القرارات المصيرية.
لن يكون كل ما سبق ممكناً دون مشاركة حقيقية فعلية، وليست شكلية، لشخصيات شبابية لها تأثيرها في الداخل السوري والمناطق المحاصرة والمهجَّرة، أثبتت مصداقيتها في العمل وثباتها على الموقف الجذري، وبعضها تمّ انتخابه من حاضنته الشعبية والثورية. فوجود تلك الشريحة هي الأساس في الخطوات الجوهرية الأولى لبناء هذا المسار، ومن تلك الخطوات: التوصّل إلى قراءة توافقية للمشهد الحالي السوري ورؤية مشتركة لما يواجه فعاليات الثورة من استحقاقات ومواقف لا بدّ من اعتمادها، القيام بمراجعة ونقد ذاتي للمرحلة السابقة وتحديد الأسباب الذاتية لما وصلنا إليه دون الاكتفاء بالأسباب المتعلقة بالممانعة الإقليمية والدولية للتغيير في سوريا، صياغة وثيقة المبادئ والمرتكزات الأساسية للإبقاء على الثورة حية ومستمرة وتجديد روحها وحماية خطها الوطني التحرري، تحديد المهام الحالية الراهنة والمرحلية والمستقبلية، بلورة وإنضاج المشروع السياسي الذي يضمن استقلالية القرار الوطني ويمكن من خلاله القيام بتلك المهام وعدم الاكتفاء بالمقاربات العامة والسطحية، خارطة طريق تنفيذية عملياتية ذات أُطر زمنية محددة، ثم البحث في الشكل والهيكل التنظيمي وآليات العمل القادرة على القيام بتلك المهام المطلوبة بمرونة وتفاعلية وديناميكية.
ليس للمشاركين في ذلك المشروع الوطني السوري الخالص مغنماً اليوم، إذا كان سياق الحديث عن المصالح الشخصية الضيقة، بل هو مَغرم بهذا المعنى وبما يمكن أن يواجهه من تحديات ومصاعب على كافة المستويات، لن يكون آخرها المستوى الدولي، ولكنه بارقة الأمل الممكنة لمشهد مختلف تستحقه تضحيات الشعب السوري، لمشهدٍ لا يعيد الكرّة من جديد.