الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل سافرت القضية السورية مع العاصفة الراهنة؟

هل سافرت القضية السورية مع العاصفة الراهنة؟

30.04.2020
موفق نيربية



القدس العربي
الاربعاء 29/4/2020
ما زالت آفاق تطور الجائحة وآثارها الصحية على العالم، وعلى كلّ طرف أو بلدٍ فيه مجهولة، ولكن التوقعات غامرت وتوقفت قليلاً عند احتمال تراجع الاقتصاد العالمي بمقدار 15% مقارنة مع نسبة 4.5%، التي كانت نتيجة أزمة عام 2008 المالية. لنتخيل آثارها على القوى والمحاور والميزانيات والطبقات والسياسات في الدول "العادية"، أو انعكاسات ذلك على الدول والمجتمعات الأكثر فقراً وحرماناً وتوتراً، والأقل استقرار اًو توازناً، وهذه مجرد نظرة قصيرة، عاجزة عن الرؤية إلى الأمام كثيراً.
في ما يلي مغامرة بتلمّس آثار هذه العاصفة، التي تلفّ الكوكب على القضية السورية، ابتداءً من الوضع الراهن، وما نحن مقبلون عليه، فربّما تتغلب الحكمة وروح الوحدة والتضامن على دول العالم وقواه الكبرى، بعد هذه "الحرب العالمية"، وقد تنتفض شعوب العالم، لتطالب بالتغيير في السياسات، تجاه البيئة والنزاعات والكوارث الطبيعية والصناعية، وعلى ميول الشعبويين واليمينيين والقوميين، التي تصلبت في العقدين الأخيرين، فلا تعطيهم فرصة للتمدّد وبذر الفرقة والتنافس القاتل وتغيير العالم نحو الأسوأ فالأسوأ.
ولكن الاستنتاج الأوليّ المتاح حالياً هو، أن القوى القادرة على الدفع باتجاه حلحلة أمور أزمات المنطقة، ستنشغل بقوة عنّا، غالباً. لا يمكن استثناء أحد، لا الولايات المتحدة ولا روسيا ولا أوروبا ولا تركيا، ولا إسرائيل ولا إيران أيضاً.. كلها تندفع نحو المأزق، صحيا" ( بشرياً واجتماعياً) واقتصادياً، وسياسياً بالنتيجة والضرورة.
هذا من جهة الخارج، أما من الداخل فالحالة أشدُّ سوءاً. فرغم التفاؤل السطحي بين الموالين للنظام السوري مثلاً بأن يستثني الفيروس البلاد من مروره العادي، والإسلاميين شبه المعارضين بأن يكون الأمر عقاباً لغيرهم من المارقين، إلا أن هنالك جزعاً من انفجار في انتشار المرض بشكل واسع، والسوريون ضعفاء تحت جناح النظام الفاقد لأي شرعية أو ضوابط لعنفه العاري وقمعه وفساد عناصره، التي لا ترى في الكارثة المحدقة إلا مصدراً محتملاً للمزيد من النهب والسلب.. في حين يرزح السوريون "العاديون" تحت حالة حرمانٍ وعوزٍ لم يعرفوا مثيلاً لها إلا أيام "سفر برلك" في الحرب العالمية الأولى.
مع ذلك، ربما هنالك جوانب أخرى قد تساعد قليلاً على حلحلة الأزمة السورية (ومعها بتبادل التأثير تلك العراقية واللبنانية أيضاً)، وإن كانت هذه الجوانب ذاتها قابلة للضياع في موجة كورونا العالمية الراهنة، خصوصاً عند وصول الموجة الثانية المحتملة، وربما الثالثة من خلفها.
 
القوى القادرة على الدفع باتجاه حلحلة أمور أزمات المنطقة العربية، ستنشغل بقوة عنّا بسبب الجائحة
 
أتاحت – مثلاً- الديناميات الداخلية المتماسكة للنظام الديمقراطي مؤخراً للمؤسسة القضائية في ألمانيا، أن تبدأ محاكمات لبعض ضباط الأمن المنشقين في دعاوى ضدهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ليترك هذا هامشاً مضيئاً في عتمة السرد أعلاه، يمكن أن يساعد على تكريس المساءلة ومنع إفلات "نجوم" نظام الأسد القاتل من العقاب، ومن ثم وخصوصاً على فتح الأبواب باتجاه عملية سياسية فعلية لاحقاً. جاء ذلك في أجواء من الغضب المكتوم أحياناً، والمعلن في أحيان أخرى من عناد الأسد، وتمسكه بسياساته وسلطته، واستمراره بالسخرية من المطالبة الدولية بالتغيير والتخلي عن استراتيجية الحرب المستمرة. وربما وصل هذا التيّار الساخن، في ما يبدو إلى الروس أهم حلفاء النظام. فبعد الهجوم الكاسح من وكالة الأنباء الفيدرالية على الأسد (وهي وكالة تابعة لجناح من" شبيحة" بوتين الدوليين، الأكثر انفضاحاً وانفلاتاً)، أعلنت أن موقعها الإلكتروني تعرض للقرصنة لعدة أيام، وسحبت تلك المقالات التي هاجمت الأسد. ثم قامت شركة "أوروبوليس" بتعويض النظام بهدية من التجهيزات اللازمة لمواجهة الجائحة، وهي شركة يرى البعض فيها غطاءً مكشوفاً للجهة ذاتها التي تملك الوكالة، حصلت سابقاً باسمها على عقود "تشبيحية" تتعلق بالنفط والغاز، مقابل خدمات المرتزقة الذين ينتمون إلى المؤسسة الأم، المرتبطة بالرمز الكاريكاتيري "طباخ بوتين". هذا التراجع عن الهجمات، لم يكن ممكناً إخفاء ارتباطه بأجواء ناقدة فعلية في موسكو، ظهرت – على سبيل المثال- في دراسات لمعهد فالداي السياسات المعروف، وفي مقالات في موقع "البرافدا" الإلكتروني. وهذا كله في إطار موجة لافتة في الإعلام الروسي، توحي بإمكانية التخلي عن ديكتاتورها المدلل في دمشق، أو تلوّح بذلك على الأقل.
ومن جهة الحليف الثاني، تهرب السلطة الإيرانية المحاصرة بشراسة إلى أمام، كما كانت تفعل دائماً، ويُستبعد أن يكون احتمال النجاح في ذلك هذه المرة كبيراً كما كان في السابق. هنالك حصار من الداخل بالأزمة السياسية الاجتماعية، تضاعف من آثاره هجمة فيروس كورونا المجهولة الآفاق، مع انقطاعٍ نسبي أيضاً في التنفس عن طريق العراق، كما في السابق، ومن ثَمّ احتمال الانقطاع في طريق دمشق. وفي النتيجة سوف تكون إيران غالباً غارقة في مشاكلها الداخلية، محاصرة بأزماتها الخارجية، التي طالما حمّلت أزماتها الداخلية عليها. وإذا كانت مغامراتها المتواترة في الخليج متنفّساً لهذا المأزق، إلا أنها خطيرة العواقب في الوقت ذاته، على نظام الولي الفقيه وعلى الشعب الإيراني وشعوب المنطقة.
وبالطريقة وعوامل التأزم نفسها، يقف حزب الله متوتراً ومحاصراً بخسائره في سوريا، وفي تسببه المكشوف بكل ما يحيط بالدولة اللبنانية واللبنانيين عموماً من أزمات اقتصادية ومعيشية وسياسية خانقة، بسبب العقوبات الدولية التي تُطبق عليه فتعمّ بعقابيلها البلاد، وكذلك فيما يبدو سبباً لوجستياً بحركة عناصره بحرية بين إيران وسوريا ولبنان، لتسريع العدوى وتصاعد حالات الإصابة بفيروس كورونا.
لن تكفي هذه المؤثّرات لتغيير ميل عالم ما بعد الجائحة إلى إشاحة الوجه عن مشاكل الآخرين، بعد أن تفعل فعلها الدافع نحو الانعزال، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، من ثَمّ، على متغيرات الانتخابات المقبلة في كلّ بلدٍ بعينه. فربّما تهتز الولايات المتحدة وقيادتها للعالم؛ خصوصاً من حيث تأتيها الكارثة في عهد أكثر الإدارات غرابة وانحرافاً؛ وتهتز روسيا والصين، وأوروبا بالطبع. ولن يستطيع أحد حالياً التنبؤ بما يمكن أن يحدث في ما بعد في جنوب العالم، ببشره وبناه السياسية الأكثر هشاشةً، لذلك كله، لا يمكن تماماً معرفة مستقبل قضايا المنطقة، والأزمة السورية بعينها.
ولن يكون هذا كله تعقيداً لمساهمات العالم في فكفكة القضية السورية وحسب، بل يبدو أن بعض مستلزمات تلك المساعدة تتآكل مع الوباء، لتتبلور في ما بعد حالة مجهولة التأثير في تلك القضية، أو لعلها مجهولة في حجم سلبيتها على الأصح، ما دام الحال على ما هو عليه ذاتياً أيضاً. فكما يرتبط اندفاع القوى الخارجية للقيام بدور في حلّ المشكلة بقدراتها وأولوياتها ومدى تفرغها، يرتبط أيضاً بحصيلة كلفة الوباء من جميع النواحي، وما تفرزه من مشاكل تتعلق باللاجئين والإرهاب. ولكن اندفاعها للمساهمة يعتمد على إمكانيات وقف إطلاق النار، والتوصل إلى أجندة للعملية السياسية، خصوصاً على خطط إعادة الإعمار التي هي النتيجة اللاحقة للتسوية وأساسها المسبق الصنع. فإعادة الإعمار هذه وميزانيتها سوف تتأثر أيضاً بحجم الإنفاق الحالي والمستقبلي، على امتصاص نتائج الجائحة اقتصادياً هنا وهناك، وبحجم ونوع برامج الخروج منها في ما بعد، أو ربما منذ الآن. برامج إعادة الإعمار هي دينامو العملية السياسية، ولن تكون على ما كانت عليه، أو ما كان يمكن أن تكون.
وعلى الرغم من تنشيط دعوة ثلاثي أستانة إلى جولة من جولات اللجنة الدستورية، لأسباب يغلب أن تتعلق بأحوال أطرافه الخاصة، إلا أنه لن يكون ممكناً في المدى المنظور إلا تثبيت حدود المناطق الثلاث القائمة حالياً في سوريا، وتنظيم الخلافات المحتملة وتحديد المصالح المتداخلة أو المتعارضة، إذا تحقق وقف إطلاق النار بطريقة مستدامة إلى هذا الحدّ أو ذاك… في انتظار "غودو"، أو انبعاث حراك السوريين واستعادة قرارهم وقوة تمثيلهم، بعد أن تهلهل الائتلاف في أيدي رعاته، وتمزقت هيئة التفاوض بين شمالها التركي وجنوبها السعودي، وحلقتها الروسية التي ما انفكت تبحث عن سياسة محددة وواضحة منتجة.
*كاتب سوري