الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل الوحدة الوطنية السورية حقيقة واقعة؟

هل الوحدة الوطنية السورية حقيقة واقعة؟

14.04.2019
عبدالباسط سيدا


جيرون
السبت 13/4/2019
من الأمور الكثيرة التي كشفت عنها الثورة السورية، وقائعُ تخصّ طبيعة وبنية الاجتماع السوري، وما نعنيه بذلك ظهور التنوع السوري، بأبعاده الانتمائية المختلفة، وهشاشة مفهوم الوحدة الوطنية التي ما زالت تُعدّ من المصطلحات التي تجمع بين السوريين على الصعيد النظري، إلا أنها على الصعيد العملي مجرد تعبير رغبوي، يُستخدم في إطار المجاملات الخالية من أي مضمون، وتكون عادة وسيلة للتغطية على ظاهرة التهرّب من الاستحقاقات، أو التركيز على الولاءات ما قبل الوطنية، وإن اقتضى ذلك التفاعلَ مع المشاريع العابرة للحدود التي لا تقيم أي اعتبار أو احترام للحدود الوطنية السورية، وهي حدود لا ينكر أحد أنها تشكلت بمعزل عن إرادة السوريين، قبل نحو قرن من الزمان.
ولعل هذه النقطة هي التي تفسر تطلع التيارات السياسية التي شهدتها الساحة السورية نحو الخارج. فالاتجاهات الإسلاموية كانت ترى أن الحل يتمثل في الدول الإسلامية، دولة الخلافة، التي توحّد الأمة، وتمنحها العزة والثقة. في حين أن التيارات القوموية، سواء العربية منها أم الكردية، كانت تعتبر الوحدة القومية الهدف المبتغى، ولا ترى في الحالة الراهنة سوى مرحلة اضطرارية، مفروضة، لا بد من العمل على تجاوزها.
أما التيار الشيوعي، الاشتراكي، فقد كان يتعالى فوق الأطروحات القوموية والإسلاموية “الرجعية” وفق تقييماته ونظرياته، ويؤكد أن الحل الأمثل، وربما الحتمي، وفق توجهه الستاليني المتكلس، هو الاندماج في المشروع الاشتراكي الأممي بقيادة الاتحاد السوفييتي، وفي بعض الدوائر الضيقة كان القيادة تُمنح للصين.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وقبله كان انهيار المشروع القومي العربي ببعديه الناصري والبعثي عام 1967، ومع انهيار هذا وذاك، خرج علينا من يقول: “إن الإسلام هو الحل”، من دون أي تخصيص أو تحديد لطبيعة الإسلام المعني، أو ماهية الحل المقترح.
لعل من الملاحظ أن القاسم المشترك بين الاتجاهات أو التيارات الثلاثة هو تغييب المشروع الوطني، وذلك بناء على توجهات أيديولوجية نكوصية، أو مستقبلية تبشيرية. وهكذا ضاع الوطن المعاش وأهله بين مشاريع حالمة، وأخرى لم تتمكن من تجاوز عُقد الماضي “الذهبي”.
وعلى الرغم من الجهود الجادة التي بذلها رواد الاستقلال السوري، في السنين الأولى بعد جلاء الفرنسيين عن البلد، وقد استهدفت بناء دولة وطنية، تحرص على طمأنة سائر مواطنيها، فإن تلك الجهود سرعان ما تعثرت مع أول انقلاب عسكري وكان بقيادة حسني الزعيم عام 1949.
توالت الانقلابات التي قام بها ضباط الجيش الذي كان من المفروض أن يكون مؤسسة وطنية جامعة، إلا أنه أصبح الأداة الأكثر حسمًا في إطار المساعي الرامية إلى السيطرة على السلطة، والتحكّم بمصاير الدولة والمجتمع والأفراد، شرط مراعاة الخطوط المرسومة دوليًا، وذلك بموجب عملية مقايضة ألقت الثورة السورية الضوء الساطع على أسرارها، وتداخلاتها ومآلاتها.
فالمشروع البعثي الذي فُرض على السوريين، عبر انقلاب عسكري في الثامن من آذار/ مارس 1963 تحت ستار شعار الأهداف الثلاثة الكبرى: وحدة حرية اشتراكية، لم يكن سوى مجرد مشروع تضليلي للتغطية على الصراعات المزمنة بين أجنحة الحزب المعني، وهي الأجنحة التي كانت تلتقي حول كيفية الانقضاض على الداخل الوطني.
نحن هنا لا ننكر أن قِطاعات واسعة من الشعب السوري قد آمنت بهذا المشروع، وعملت وضحّت وتحمّلت من أجله، لتكتشف في ما بعد أنها استُخدمت لتكون مجرد حشود شعبية لا وزن لها في حسابات المتصارعين على السلطة في سورية، هؤلاء الذين كانوا يحرصون أشد الحرص على تحقيق الانسجام بين حساباتهم وحسابات القوى الدولية المتصارعة هي الأخرى على سورية. فالوحدة العربية، التي أُعلنت هدفًا، ظلت حلمًا، وكانت قيادات البعث على دراية تامة بأن مثل هذه الوحدة لن تتحقق أبدًا في ظل طبيعة العلاقة بين واقع الأنظمة العربية من جهة، والاستراتيجية الدولية من جهة أخرى.
كما أن الصراعات الداخلية، والممارسات الفعلية لتلك القيادات كانت تؤكد أن همّها الأساس قد تمحور حول كيفية المحافظة على السلطة، والاستفادة منها على الصعيد الفردي والشللي، والجهوي، والطائفي، والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تُحصر.
أما الحرية، فقد كانت مجرد شعار للتستر على الطابع الدكتاتوري الذي التزمته السلطات العسكرية والأمنية في سورية، منذ منتصف القرن المنصرم، حتى يومنا هذا. بينما كانت الاشتراكية مجرد عنوان للتغطية على حالات الفساد والإفساد، والسرقة من المال العام والخاص، وهي حالات بدأت متواضعة، وأصبحت مع الوقت وباء قاتلًا على المستوي الوطني، أفقيًا وعموديًا.
لقد أدرك السوريون، بعد عقود من حكم الأجهزة الأمنية تحت يافطة حزب البعث، أن كل الشعارات الكبرى التي دغدغت مشاعرهم لم تكن سوى وسيلة للانقضاض على الداخل الوطني.
مع انطلاقة الثورة السورية، شدد المتظاهرون على الوحدة الوطنية، وأهمية مراعاتها. ولكن النظام من ناحيته كان قد أتقن لعبة تمزيق النسج المجتمعي الوطني، وراهن عليها في استراتيجيته التي بنيت على أساس إعطاء انطباع زائف عن الثورة السورية، مفاده أنها لا تخرج عن دائرة صراع بين القوى المتشددة المتطرفة، التي تمثل الأغلبية السنيّة، في حين أن النظام نفسه، من موقعه العلماني، هو ضمانة المحافظة على الأقليات.
وعلى الرغم من معرفة السوريين بعدم صحة مثل هذه المزاعم، فإن الخطوات الميدانية التي اتخذها النظام من جهة، والأخطاء التي وقعت فيها المعارضة من جهة ثانية، قد أوصلت الأمور إلى درجة بات الحديث عندها، عن وحدة وطنية سورية، أشبه بحديث التمنيات. فقد انخرط السوريون -على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم- في مشاريع عابرة للحدود لا تقيم أي وزن أو احترام للوطنية السورية، وإن كانت تتاجر بها.
اليوم، بعد مرور ثمانية أعوام على بداية الثورة، تبدو الوضعية السورية، على الرغم من كل ما حصل من قتل وتغييب وتدمير، أكثر قابلية للتفكير جديًا في مشروع وطني سوري، يكون بكل السوريين ولكل السوريين على أساس احترام الخصوصيات والحقوق. فسورية بلد متعدد الأديان والطوائف والقوميات والتوجهات، وهذه خاصية أصيلة في الاجتماع السوري، لا بد أن نأخذها بالحسبان، لنبني عليها ثقافة وطنية جامعة، تساهم في توحيد المتنوع السوري في صيغة بنّاءة، تفتح المجال أمام جميع الطاقات للمشاركة في إدارة البلد، وحل مشكلاته، والعمل من أجل تنميته وتطويره نحو الأفضل. وسورية تمتلك إمكانات كبرى متكاملة، يمكن أن تكون أساسًا لنهضة حقيقية. ولدينا أمثلة كثيرة في العالم، تؤكد تمكّن العديد من الدول الصغيرة من فرض احترامها على الجميع، وذلك حينما استطاعت قطع الفساد، واعتمدت الشفافية والنزاهة نهجًا لها؛ فتمكنت من استقطاب رؤوس الأموال الاستثمارية، وارتقت إلى أعلى المراتب بين الدول المتقدمة. وسنغافورة الدولة التي لا تتجاوز مساحتها 720 كليو مترًا، وعدد سكانها نحو خمسة ملايين ونصف، خيرُ مثال، في هذا السياق.
سورية لديها مخزون مقبول في قطاع النفط والغاز، وتمتلك سهولًا زراعية واسعة صالحة للزراعات الاستراتيجية. كما أن خبراتها الصناعية والحرفية هي مثار إعجاب العالم بأسره. ولدى ناسها خبرة تجارية مصرفية، ومؤهلات علمية متميزة، ولديها بيئة سياحية مناسبة لكل فصول السنة. ولكن إلى جانب ذلك كله، أثبت أبناؤها وبناتها قدرتهم على بلوغ أعلى المراتب العلمية والبحثية، في مختلف بلدان اللجوء القسري.
ما نحتاج إليه في سورية هو إدارة مخلصة لشعبها ووطنها.. إدارة شاغلها هو الهمّ الوطني، ولا تجعل سورية ساحةً لمعارك الآخرين، ومشاريعهم الماضوية، وميدانًا لتصفية الحسابات البينية، بل تجعل سورية جسرًا للتواصل بين الجميع، على أساس احترام حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة.. إدارة تمتلك المشروعية الشعبية عبر انتخابات ديمقراطية سلمية، لتتمكن من اتخاذ القرارات المطلوبة للحفاظ على الوحدة الوطنية، وضمان الاستقرار والأمن الإقليميين عبر مبادرات جريئة مسؤولة، تتعامل مع الوقائع بعقلانية بعيدة النظر، وذلك على النقيض من العقلية الشعبوية التي تكتفي بإطلاق الشعارات، وتوجيه الاتهامات والأوصاف القدحية يمينًا وشمالًا، من دون أن تقدم حلًا واقعيًا مفيدًا لأبسط المشكلات.
ما تحتاج إليه سورية هو ثقافة وطنية جامعة، تعمل على ترسيخها وتوسيع مداها نواةٌ صلبة من مختلف المكونات السورية، تجمع بين من يؤمنون بالمشروع الوطني السوري، بل يعشقونه، إذا صح التعبير، ويسعون بكل طاقاتهم لمدّ جسور التواصل مع سائر السوريين الذين يرون أن الملاذ هو الوطن السوري المشترك، الذي يكون إطارًا جامعًا لكل التنوع السوري.
ما لم نتحرر من أوهام القبيلة والكهف والمسرح والسوق؛ فإن البلد في طريقه نحو الضياع، والسوريون سيشهدون مزيدًا من التشتت والتشرذم، والاندماج في مشاريع الآخرين.