الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هزيمة 67 بين خيانتين!

هزيمة 67 بين خيانتين!

12.06.2017
بول شاوول


المستقبل
الاحد 11/6/2017
ماذا يمكن أن يتبقّى من ذكرى أكبر هزيمة عربية عسكرية أمام الجيش الإسرائيلي، بسقوط ثلاث جبهات مواجهة: المصرية، السورية والأردنية. قد يتبقى الكثير وأقلّه، أو القليل وأكثره، في جيل كان ما زال يؤمن بالعروبة، وبعبد الناصر، وبقدرة العرب على دحر الجيش الصهيوني ورمي الإسرائيليين في البحر بست ساعات! تبقى الخيبة، والمرارة، وتهاوي أحلام كبرى آمنت بها الجماهير العربية. تلك اللحظة السوداء الحاسمة عبّر عنها عبد الناصر بخطاب الاعتراف بالنكسة من وراء الشاشة التلفزيونية: "أنا أتحمّل كل المسؤولية وأعلن استقالتي". أول وآخر رئيس عربي يعترف بالهزيمة. والكل، من الجيل المعاصر للنكسة، صعق مرّة جديدة باستقالة "بطل العروبة": لاّ وتدفّقت الملايين في الشوارع المصرية يصرخون "كلنا عبد الناصر". (فيلم يوسف شاهين "العصفور" ينقل هذه الصورة المُذهلة).
كان كاتب هذه السطور من بين الذين ثكلوا بهذا الحدث الجلل. "إسرائيل التي لم يمضِ على قيامها أكثر من عشرين سنة، تهزم أمة من مئات الملايين! الذهول. الحزن. الخيبة. كأنّ عالماً بكامله، بخطبه، وآماله، وأفكاره، وغضبه، سقط على الجميع". كيف يحدث ذلك؟ ما هي أسبابه؟ ما هي أسراره التي ما زالت خفيّة؟ مَن كان مع مَن، ومَن كان ضدّ مَن؟ هل كان السوفيات وهم الحلفاء "الراسخون" الى جانب حليفهم؛ الى جانب العرب، الى جانب الحق، أم أن وراء الأكمّة السوداء ما وراءها؟
لكن، لم يكن سقوط مصر مسألة عربية فقط، بل للعالم الثالث كله. وتساقط هذه العالم (عدم الانحياز)، بكل نجومه وراء النكسة. انتصرت إسرائيل وأميركا وأوروبا: تخلصت من زعيم عربي كبير، تمرّدَ على هذه الدول، وواجهها (العدوان الثلاثي: فرنسا، إسرائيل، إنكلترا)، وطرد الاستعمار الإنكليزي، وأمّم قناة السويس، واستقل زعيم للمرة الأولى بقرار شعبه منذ مئات السنين. والتمرد على "آلهة" الغرب، كان يومها، بمثابة تمرد على "الحقائق التاريخية": وعلى الشعب العربي أن يبقى تحت سلطة الاستعمار، وأن يكون استقلاله، أقل من تبعية، وأكثر من خضوع. إنها اللحظة الاستقلالية التي هوت. وها هو زمن جديد يُطل: ما قبل الهزيمة شيء، وما بعدها شيء آخر. لن يكون الحال بعد الهزيمة كما كان قبلها: لا ثقافة تحرير، ولا مواجهة، ولا مشاريع وحدة، ولا علمانية، ولا جماهير، ولا آمال: على العرب أن يعترفوا بنكستهم، وعلى إسرائيل أن تعلن انتصار "شعبها الإلهي المختار".
لكن هذه المشاعر الصاخبة، لم تخفِ ما وراءَها من أسئلة، كيف تمَّ ذلك، وبهذه السرعة، هل من مؤامرة عالمية؟ أين السوفيات؟ أين النظام البعثي السوري؛ أين الجيوش؟
المعلومات والأحداث التي أعقبت ذلك السقوط، أظهرت عوامل عديدة، جعلت إسرائيل تستفرد العرب!
] السوفيات
ما هو دور السوفيات؟ هل دعموا مصر بجسر جوّي مثلاً أو بمعلومات من أقمار فضائية تحدد حشود إسرائيل؟ أو أخرى تمدّ مصر بمعلومات عن نيات العدو بالهجوم، أو بالمناورة؟ أو بالتكتيك؟
هنا أحد المفاصل: خيانة السوفيات، التي بيّنت أنّ هذا النظام الشيوعي كان يريد هذه الهزيمة للعرب (يكرر تأييده لقيام إسرائيل عام 1948). والحيثيات المؤكدة والمعروفة تقول بخدعة سوفياتية خبيثة دسّتها المراجع الشيوعية عند عبد الناصر: بلاغ سوفياتي ملغوم، عن حشد إسرائيلي على الجبهة السورية، والذي ثبت بعدها أنه غير صحيح. وأعلن الرئيس السوفياتي بودغورني لأنور السادات أثناء وجوده في موسكو "هدف إسرائيل هو احتلال سوريا، وأن على مصر أن تبادر لكي لا تفاجأ". وقد نفت إسرائيل نفسها هذه المزاعم، بإنكار أي حشود لها على الجبهة السورية. وربما هذا ما جعل عبد الناصر يطلب انسحاب قوات الطوارئ من سيناء في 23 أيار 1967.
كل هذا من ممهّدات الحرب التي وقعت كالصاعقة بهجوم شامل على الجبهات المصرية، والأردنية والجولان. وكانت الهزيمة الثلاثية المدوّية. وعرف عندئذِ عبد الناصر خدعة السوفيات؛ فأعلن المشير عامر "الإنذار السوفياتي لم يكن صحيحاً" وكان ذريعة لحث المصريين على بدء الهجوم، معتبراً "أنّ هذا أقل ما يمكن وصفه بأنّه تواطؤ".
] الجبهة السورية
هذا على الجبهة المصرية، فماذا حدث على الجبهة السورية؟
كل المراجع والمصادر تؤكد "أنّ القنيطرة لم تكن قد سقطت عندما تمّ إعلان سقوطها من إذاعة دمشق وبصوت وزير الدفاع آنئذٍ حافظ الأسد. وفي تلك اللحظة لم يكن أي جندي إسرائيلي قد لامست قدماه القنيطرة" ولهذا دخلت إسرائيل القنيطرة من دون مواجهة مع أحد. دخلت فوجدت ساحاتها خالية من أي جندي سوري! لا معارك. لا ضحايا. منطقة مفتوحة للجيش الإسرائيلي. هل هرب الجنود؟ هل جاءهم أمر بالانسحاب؟. تقول المعلومات إن وزير الدفاع حافظ الأسد هو الذي أمر اللواء السويداني بصفته قائداً للجيش "انسحب مع كل جنودك واحضرْ الى دمشق".
أما لماذا دمشق؟ فلأنّ النظام السوري زعمَ أنّ إسرائيل ستجتاح العاصمة وتحتلها! وهذا ما نفاه السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة "لم يكن في نية حكومتنا احتلال دمشق!"، والهدف من هذه الخطوة الخيانية (تسليم الجولان لإسرائيل تسليم اليد)، هي الدفاع عن النظام. خشي الأسد وعباقرته العسكريون والسياسيون من أن تؤدي هزيمة جيشهم في الجولان، الى انقلاب شعبي (أو حزبي) يطيح نظامهم العلوي: فلينتصر نظامنا ولتذهب الأرض". والذين عاصروا تلك المرحلة يتذكرون عناوين جرائد النظام الخائن "فشلت إسرائيل في تغيير النظام"!
انتصار إذاً، عال! والمتابعون يعرفون أنّ هذه الانتصارات البعثية توالت... وتتوالى حتى اليوم، على حساب الأرض والسيادة، والاستقلال، لمصلحة بقاء "الكيان" المذهبي.
إن الخطوة البعثية هذه، جعلت إسرائيل تستفرد مصر، والجبهة الأردنية، وتحتل أرضاً بلا خسائر مادية أو بشرية، أو في العتاد والأسلحة. لحظة السلام المقبلة بين الكيانين السوري والإسرائيلي بدأت تطل بشائرها.
لكن السؤال الأهم يبقى هل كان الجيشان المصري والسوري على أتم استعدادهما المناقبي، والقتالي، والتسليحي، والنفسي والقيادي، ليخوضا هذه الحرب.
] الجيشان قبل الحرب
الواقع أن الجيش المصري (على أهبته)، كان يعاني، بعد حرب اليمن التي أرادها عبد الناصر لإسقاط "النظام الرجعي"، متعباً مستنفداً طاقاته وجهوزيته، وقد يكون أحد هذه الأسباب التي أدت الى انهياره السريع.
أما الجيش السوري (وابتداء من 1963)، فلم يعد جيشاً وطنياً جامعاً، ذا خبرة ودُربة وعقيدة قتالية:
فعندما بدأ البعث يُمسك بزمام السلطة في سوريا، عبر انقلابات وأخرى مضادة "بدأ بتطهير هذا الجيش تطهيراً مذهبياً: في البداية تمّ طرد ألوف الضباط السنّة من صفوفه، أي ما عادل أكثر من الثلث (على حد ما تشير المعلومات) واستبدالهم بطلاب ضباط، وجلهم علَوي، ثم جاء دور الضباåط الدروز، فطرد منهم العشرات. إذاً، جيش هجين، يتمتع بعقيدة مذهبية، وبموقع أقلوي على حساب الأكثري، وتنقصه التجارب والخبرات، من الصعب أن يكون مستعداً لخوض حرب مثل تلك التي اندلعت. فهذا الجيش الفئوي، خرّبت عقيدته المذهبية انتماءه الوطني. فهو يدافع عن النظام لا عن الأمة. وعن الطائفة لا عن الحدود. فكيف له أن ينخرط في حرب لم تعد تعنيه بقدر ما يعنيه بقاء نظامه. وهذا ما استمر طيلة فترة الأسد الأب، وحتى سقوط الأسد الابن: الجيش ملك للعائلة، أو الطائفة،"وما بعدي الطوفان". وها هو الطوفان اليوم يجتاح كل سوريا.
] 1973
وكان علينا أن ننتظر حرب تشرين 1973، ليتبين لنا أمران: الأول أن الجيش السوري بقي على حاله، في أيدي زمر مذهبية، وفي خدمة العائلة الحاكمة. فماذا تأمل من جيش ضُربت فيه التراتبية، واختلطت الأدوار، وتقاسمته جماعات من النظام: فصار عدة جيوش علوية: واحد لحافظ الأسد وآخر لشقيقه رفعت. وكلنا يتذكّر كيف حاصر رفعت دمشق ليُسقط أخاه، الذي استنجد بوالدته لحل تلك المسألة. فالولاء معدوم. والجهوزية معطّلة.
ولذا كانت نتيجة الحرب ضد إسرائيل في 1973 شبيهة بحرب الأيام الستة: هزيمة مدوية جعل منها النظام انتصاراً لتحرير بعض الأمتار من الجولان الذي بقي في معظمه تحت سلطة الاحتلال.
أما مصر عبد الناصر، فاستفادت من دروس الهزيمة وأعلنت حرب استنزاف ضد العدو المحتل؛ وعزّزت قدرات جيشها، لتأتي اللحظة الحاسمة في حرب 1973 وينهزم فيها الجيش الإسرائيلي للمرة الأولى. انكسرت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، واسترجعت مصر ما تبقّى من أراضيها المحتلة بواسطة المفاوضات....
والمسألة لا تتعلق فقط بتهيئة الجيوش والأسلحة، بل بمواقع الشعبين المصري والسوري: فالأول وقف وراء جيشه وقياداته كما كان في 1967، وعزّز معنويّاته، لأنه كان مؤمناً بهما. أما الشعب السوري فحملته وظيفته التاريخية الى الوقوف وراء جيشه، لكن الجيش المصري حارب وهذا الجيش تفرّغ لمحاربة هذا الشعب العظيم... وقفوا كلهم وراء السادات الذي سجل أول انتصار عربي منذ ألف عام! رائعّ لكن بعد موت عبد الناصر ومجيء السادات، تغيّرت أمور كثيرة: لعب السادات الورقة الدينية فلقّب نفسه "الرئيس محمد أنور السادات المؤمن"، وزار إسرائيل وعُقدت معاهدة سلام مع إسرائيل.
لكن هذا الموقف الفظيع لم ينل من وطنيّة الشعب المصري أيام هذا الرئيس المؤمن، الذي حاول بكل قحة تشويه صورة عبد الناصر وعهده وزرع بذور الفتنة بين الإسلامويين (الذين استنهضهم) وبين الأقباط...
النظام السوري بعد 1974 عقد استراتيجية مع إسرائيل تقوم على ضرب القضية الفلسطينية وتصفية منظمة التحرير ومقاومتها في لبنان، لقاء تسلمّه لبنان بديلاً من الجولان!
اليوم، وبفضل هذا النظام الخائن، لم يبقَ الجولان وحده محتلاً... بل كل سوريا، مقابل الثمن "التاريخي" لآل الأسد والمعروف: قصر المهاجرين مقابل الشعب السوري، والأرض السورية والتاريخ السوري!