الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هزيمة حزيران والكلام "بالعربي"

هزيمة حزيران والكلام "بالعربي"

11.06.2017
ناصر الرباط


الحياة
السبت 10/6/2017
كنت طفلاً عندما حلت بنا هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) عام ١٩٦٧. واليوم، أصبحت كهلاً في ذكراها الخمسين، لكني ما زلت، كغالبية العرب الذين عايشوها وعانوا من نتائجها، لا أعرف ماذا حصل فعلاً في تلك الأيام الستة المأسوية في مصر وسورية والأردن. كيف هُزمنا وكنا نُبّشَر بنصر مؤزر؟ وكيف مات الآلاف من خيرة شبابنا عبثاً من دون أن تتاح لهم حتى فرصة القتال؟ ولماذا طويت صفحة الهزيمة من الحياة السياسية مباشرة بعد حصولها كأنها لم تكن؟ ولماذا بقيت الأنظمة المسؤولة عنها في مكانها كأنها لم تتسبب في أفظع مأساة في التاريخ العربي الحديث؟ هذه كلها أسئلة ما زالت في حاجة إلى إجابات ليس فقط لاستكمال سجل التاريخ، لكن أيضاً، وربما في شكل أهم، لكي نتمكن كدول وشعوب تتكلم العربية، وكانت يوماً ما تدين بالعروبة، من فهمها وتجاوز آثارها التي ما زالت تضرب بجذورها في وضعنا الحالي بانكساره وتخلفه وتشرذمه وخضوعه لاستبداد سياسي وفكري واجتماعي وديني قل نظيره في العصور الحديثة.
فهزيمة الخامس من حزيران كانت فعلاً هزيمة في العمق لفكرة الدولة العربية الحديثة نفسها وللثقافة القومية التي نشأت في ظلها. ومع ذلك، فنحن ما زلنا لا نعرف كيف نتحدث عنها أو نتعامل مع آثارها. هل نكابر ونستمر في تسميتها نكسة كما اقترح جهابذة المدافعين عن النظام العربي المتعفن عقب الهزيمة مباشرة؟ هل نستمر في النواح على ما خسرناه نتيجة هذه الهزيمة وما تبعها من مصائب ونلوم الغرب والاستعمار والصهيونية على فشلنا؟ هل نداري نرجسيتنا بالادعاء أن حرب تشرين (أو أكتوبر، حسب المتكلم) ١٩٧٣ قد قومت الوضع وأعادت لمصر وسورية بعضاً من عزة نفس وبعضاً من أرض خسرتاها بعد هزيمة حزيران؟ أم هل نقوم كثقافة عربية حديثة بتحليل ما حدث ومصارحة الذات عن أسبابه التي طالب بها مفكرون وأدباء ومضوا يوماً ما عندنا من أمثال المرحومين صادق جلال العظم ونجيب سرور وسعد الله ونوس؟
هذه المراجعة مطلوبة قطعاً، وقد استوفى المعلقون في هذه الذكرى الأليمة تذكيرنا بذلك. لكن دعونا نتكلم بشيء من صراحة نسيناها في العقود القلقة الماضية: المطلوب من ثقافتنا أعمق بكثير من مجرد نقد الذات وأصعب وأمر. فهي تتطلب العودة إلى جذور وعينا واجتماعنا وهويتنا، إلى لغتنا نفسها بحكم كونها الوعاء الذي يحوي ليس فقط تراثنا المتراكم والذي يشكل أساس معرفتنا بأنفسنا وبالعالم، لكنها أيضاً الأداة الأولى لتعبيرنا عن أنفسنا ولتفاعلنا مع ما يحصل حولنا ولفهمه عبر إعادة صياغته من لغات أخرى إلى اللغة العربية أو إيصاله من العربية إلى اللغات الأخرى. الشعوب التي تتكلم العربية في حاجة إلى تجديد لغتها وتنقيتها من الكثير من الإنشاء والبلاغة والتعبير مسبق - التفكير وغيرها من الزوائد التي لحقت بها خلال قرون طويلة من الاجترار المعرفي، التي لم تتمكن أجيال نهضة القرن التاسع عشر من تجاوزها تماماً على رغم مجهوداتها المتميزة. ثم عادت أجيال كبوة الحاضر لاستحضارها تقاعساً أو استسلاماً أو تراجعاً.
لغتنا العربية لغة كليلة اليوم على رغم غناها وسعة انتشارها، بسبب كونها لغة الإسلام. وقد هزمها تضافر عوامل عدة بعضها تراثي وبعضها حديث، بعضها مقصود، وربما أيضاً مُخطط له، وبعضها الآخر عرضي. لكن النتيجة أن لغتنا العربية الشائعة اليوم تشوه وتحرف وتموه وتعكس المعاني لتخفي الحقيقة ولتجعل الواقع غامضاً أو ملتبساً أو مقلوباً رأساً على عقب. وهي بذلك تتبع مفهوم "الكلام الازدواجي" Doublespeak الذي اجترحه الروائي البريطاني جورج أورويل في رائعته الرهيبة "1984"، والتي كتبها عام ١٩٤٨ وتخيل فيها مستقبلاً قاتماً وديستوبياً يسيطر فيه "الأخ الكبير" (كناية عن قائد النظام الشمولي) على حياة وأفكار الأفراد ومشاعرهم، ويعيد صياغة التاريخ باستمرار وفق تغير مصالحه وأهدافه وظروفه. هذا القائد الديكتاتوري ونظامه العتيد في حالة حرب دائمة مع دولة مجهولة، وهو يغير تحالفاته غالباً، وبالتالي يغير سرده للحوادث، بحيث يظهر دائماً بمظهر المنتصر عبر جهاز إداري كبير يعمل في وزارة الحقيقة. في هذه الوزارة، يقوم الموظفون باستنباط معان جديدة لكلمات قديمة أو بدمج الكلام القديم وتبسيطه، بحيث يمكن تحميله أكثر من مدلول، كل ذلك للحفاظ على الكذبة الكبيرة التي هي سيادة ورفاهية الدولة وأمنها، وقدرة الأخ الكبير على قيادتها من نصر إلى آخر وعلى دحر كل أعدائها الداخليين والخارجيين، بغض النظر عن الحقيقة البائسة للبلد ولسكانه. وكل من يشكك في ذلك أو يحاول ممارسة حياته الإنسانية يختفي أو يُغسل دماغه، كما حصل لبطل القصة ونستون سميث، ويُترك أبله لا يكاد يدرك ما يحصل حوله جالساً وحده في قهوة المنبوذين "قهوة شجرة الكستناء".
مريرة هي النظائر بين خيال أورويل العلمي وواقع العالم العربي بعد استقلال معظم دوله ووقوعها تحت سطوة أنظمة شمولية جاهلة لا ترحم. ومؤلم هو التماثل بين كلام "الأخ الكبير" الازدواجي. وخطابات أنظمتنا العتيدة الازدواجية أيضاً في تمويهها الحقيقة وتبييضها صورتها. فالهزيمة في حزيران أصبحت أولاً نصراً لأن العدو لم يتمكن من القضاء على أنظمة الحكم وهي هدفه الأساسي، واكتفى بقضم أراض عربية شاسعة تبلغ أكثر من خمس مرات مساحة إسرائيل الـ١٩٤٨. ثم أصبحت الهزيمة نكسة عندما قرر عبدالناصر التراجع عن استقالته وتحمله مسؤوليته والبدء بحرب "الاستنزاف" التي كانت تستهلك من طاقاته الكثير. ولاءات الخرطوم الثلاث سرعان ما أصبحت نَعَماً ظاهرة أو مخفية كما ما زلنا نفاجأ اليوم كلما ظهر أن دولة عربية ما زالت تدّعي مقاطعة إسرائيل هي في الباطن شريك لها. والمقاومة والممانعة والصمود والتصدي التي استخدمتها الأنظمة الثورية كلها كلمات عنت عكس ما تدعيه: المكابرة وطعن الأخ في الخلف (أو في الأمام لا فرق) والتدليس والتآمر والخنوع لإرادة إسرائيل الكاسحة. والتحرير أصبح جزءاً من اسم منظمة بيروقراطية مترهلة تعمل حارساً أمنياً في أرض ما زالت إسرائيل تحتلها بعد أكثر من عشرين سنة على اتفاقات أوسلو. وفلسطين غدت ذكرى لأرض يحملها أبناؤها المشتتون في أرجاء العالم. والعالم العربي والعروبة والوحدة العربية أضحت أحلاماً صعبة المنال، وإرثا ثقيلاً لا يريد أحد تحمّل تبعاته، وتاريخ تعاد كتابته باستمرار. واللغة العربية فقدت الكثير من دقتها وصارت أداة تجهيل وتكبيل وتزييف في حاجة ماسة الى إحياء طال وصوله.