الرئيسة \  تقارير  \  “هروبي إلى الحرية” مذكرات علي عزت بيجوفيتش

“هروبي إلى الحرية” مذكرات علي عزت بيجوفيتش

05.12.2021
محمد عبدالرحمن عريف


محمد عبدالرحمن عريف
موسوعة الجزائرية
السبت 4/12/2021
ولد في الثامن من أغسطس عام 1925، وهو أول رئيس جمهوري لجمهورية البوسنة والهرسك بعد انتهاء حرب البوسنة والهرسك، هو ناشط سياسي بوسنى وفيلسوف إسلامي، مؤلف لعدة كتب أهمها الإسلام بين الشرق والغرب. ولد في مدينة بوسانا كروبا البوسنية لأسرة بوسنية عريقة في الإسلام.
    سبق وعلى مدار 7 حلقات من الوثائقي “سيرة علي”، أبحر المخرج والكاتب الوثائقي “أسعد طه” في حياة الفيلسوف المحارب والذي شغل منصب رئيس جمهورية البوسنة والهرسك لعشر سنوات، خاض خلالها معترك الاستقلال عن يوغسلافيا وبناء الدولة، والدخول في معترك الحرب والخروج منها بالكثير من الأثمان وبشعب مثقل بالآلام وبتاريخ سجلته صفحات التاريخ ولن تنساه ربما في المستقبل القريب.
    هنا بلغراد.. حيث عاشت عائلة علي لكن الاجتياح الصربي وفرض السيطرة والذي نتج عنه طرد المسلمين العثمانيين والذين كان لهم الفضل على مدار قرون في تأسيس حضارة كبرى في بلغراد جعلت المدينة عامرة مزدهرة كمدن الشام، وكانت عائلة علي من بين الخارجين إلى مدينة ساماتش في البوسنة، ومن هناك بدأت القصة في نسج خيوطها.
     بدايات النبوغ المتفرد كانت بادية على بيجوفيتش منذ الصغر، ففي سن الخامسة والنصف، نجح في قراءة القرآن الكريم كله وتعلم التلاوة وقد حصل جراء ذلك النبوغ المبكر على جائزة من والده وهو أحد أصدقائه بأن يصنع له كرسياً جميلاً ليجلس عليه ويقوم بالدراسة والقراءة والتعلم، وقد ظل ذلك الكرسي رفيقه في رحلة تعلمه طوال سنوات بقائه في منزل والده، ثم ساهمت والدته بالخطوة التالية بعد نهاية تعلمه في الكُتاب، فسجلته في المدرسة الابتدائية.
    بالنظر إلى طفولة ذلك الفيلسوف النابغة، فقد كانت والدته هي أحد أهم المحركات في حياته، فإيقاظه كل يوم من أجل صلاة الفجر والإلحاح عليه ليهزم ذلك التكاسل الذي يمكن أن يصيب الفتى ابن الثانية عشرة، وقد كانت صلاة الفجر دائماً في المسجد المجاور لهم في الحي، والذي حمل اسم “حجسيكا”.
    من الصعب التفكير في ذلك، لكن الفتى ذو الخامسة عشرة من عمره كان قادراً على القراءة والبحث والتدقيق للعثور على الإجابات التي يمكن أن تصيب من في مثل تلك السن من شكوك وأفكار متنازعة تجاه الإسلام والعقيدة، فكان ذلك الشك دافعاً لابن الخامسة عشرة أن يقرأ في الماركسية والشيوعية وعرف أنهم لم يكونوا أبداً بديلاً يمكن أن يشكل حياة المسلم بصورة قويمة، قرأ ما كتبه هيغل وكانط وغيرهما من الآراء ثم قرر في النهاية أن اليقين العقائدي كما وجده في النهاية هو صحيح الإسلام بعيداً عن الاختزال والسطحية وافتقاد الجوهر والمضمون.
    كان الصراع العقائدي والإيديولوجي الذي واجهه الشباب المسلمون في تلك الحقبة من أصعب ما يكون، فالرغبات الاستعمارية لدى كرواتيا وصربيا تحيط بأراضي البوسنة من كل اتجاه، وتحوم طوال الوقت برغبتها في السيطرة على أراضي البوسنة والتوسع، وعلى الجانب الآخر، فقد كانت الحرب العالمية الثانية في ذروتها، وكانت الفاشية والنازية هما المذهبان الأكثر فرضاً للقوة والانتشار حول العالم، وفي الوقت نفسه كان الإيمان الذي يقدمه مشايخ المسلمون في ذلك الوقت هشاً وسطحياً لا يحمي المنتسبين إليه من المواجهات الحقيقة مع العقائد والأفكار المناوئة، فكان قرار علي ورفاقه التعاون مع علماء جمعية الهداية والتي كان يرأسها في ذلك الوقت الشيخ محمد هانجيتش، ليكونوا جميعاً جمعية الشبان المسلمين في عام 1941 وقد سعوا حينها إلى تقنينها بكل الطرق المحددة في تلك الفترة لكن الغزو الألماني أوقف كل ذلك.
    عام 1941 حاول على ورفاقه تأسيس جمعية الشبان المسلمين وكان من أبرز المؤسسين سعد كاراجوزوفيتش وطارق مفتيتش وعساف سرداريفيتش، لكن الغزو الألماني للإمبراطورية اليوغسلافية منع عملية تسجيل الجمعية بعد كل المجهود الذي بذله الشباب حينها لتسجيل الجمعية بشكل قانوني ضمن القواعد القانونية المعمول بها لإنشاء الجمعيات.
    في عام 1943 اختتم على دراسته الثانوية وتهرب حينها من الانضمام للجيش، فالقوات الموجودة حينها إما مجموعات تشيتنك التي تقاتل تحت لواء يوغسلافيا الصربية، أو قوات البارتيزان التي تقاتل تحت لواء يوغسلافيا الاشتراكية.
    قل نشاط علي كثيراً خلال الفترة التالية ما بين نهاية عام 1943 و1944 بسبب خلافه مع أئمة منظمة الهداية بسبب منهجيتهم وبحلول نهاية الحرب انتصرت يوغسلافيا الاشتراكية وسعت السلطات المنتصرة إلى جمع الشباب تحت منظمة تحكمهم وتضعهم تحت أعين الدولة، فطالبوا الشباب بتأسيس جمعية “بريبورود” لكن الشبان المسلمين والذين كانت جمعيتهم قد حققت انتشاراً واسعاً بالفعل في كل مدن البوسنة في جميع المدراس والجامعات وكذلك في زغرب الكرواتية فتظاهر حينها الشبان المسلمون رافضين قرار الحكومة الجديد، فكان ذلك أول بذرة للصدام بين جمعية الشبان المسلمين التي لم يصطدم أفرادها إطلاقاً مع السلطة من قبل، وسقط على وبعض من رفاقه في يد الاعتقال وخرجوا في اليوم التالي لكن بقوا تحت مراقبة السلطة، لكن عناد وتهور علي ورفاقه حينها واستمرارهم في نشاطهم عرضهم للاعتقال، وكانت تلك بداية رحلة علي مع السجن، فقد حكم عليه بالسجن لثلاثِ سنوات، وهو في العشرين من عمره عام 1946.
بداية المعترك
     هي سنوات ثلاث قضاها علي في السجن، قًسمت بين عدة مناطق أولها، سجن ستولاتس حيث قضى 7 أشهر، ثم أرسل للقيام بأعمال إنشاء ومعمار لبناء مركز الشرطة السرية بالقرب من بحيرة بوراتشكو، ثم إنشاء المركز الخاصة بالرابطة الشيوعية في سراييفو ثم في السنة الأخيرة أرسل إلى معسكر بالقرب من الحدود المجرية في إحدى المزارع هناك.
    عام 1946 وفي ظل اشتداد الصراع بين سلطة تيتو وكل معارضيه، تعرض بيجوفيتش للسجن مرة أخرى، وعلى الرغم من أن الأمر كان كارثياً بالنسبة له وللعائلة وقضى 3 سنوات في السجن، لكن في تلك الفترة نفذت الحكومة العديد من أحكام الإعدام من بينهم حسن بيبر الصديق المقرب لعزت بيجوفيتش والذي تعرض للكثير من الضغوط والتعذيب لقول إن بيجوفيتش عاد للمنظمة بعد الخروج من السجن أول مرة، لكنه رفض، وهنا كان السجن كما وصفه علي إنقاذاً له من الإعدام.
    بخروجه عام 1949 بدأ بيجوفيتش مرحلة جديدة من حياته فحصل على وظيفة بشهادة الثانوية والتحق بكلية الزراعة والتي تركها فيما بعد ليلتحق بكلية الحقوق، وتزوج الفتاة التي ظل يحبها طوال سنوات، منذ أن كان في الثانوية، وقد كان الحب يجمع بينهم بشدة منذ سنوات، وكانوا يتبادلون الرسائل خلال فترة السجن، كما كانوا يلتقون دائماً قبل فترة سجنه الأولى. قرر بعدها الرحيل للجبل الأسود للابتعاد عن المشاكل المستمرة التي تواجهه في سراييفو، وعمل هناك في أعمال المقاولات والإنشاء، وأنجب ابنتيه ليلى وسابينا، ثم جاء ابنه الثالث بكر.
   كان بيجوفيتش متسامحاً للغاية مع أفراد أسرته بل ومع كل من يتعامل معهم، كان دائم الميل إلى التغافل عن الأمور السيئة والتجاوز عنها، لكنه كان بطبعه شخصاً حزيناً كما وصفه أبناؤه، وذلك بسبب تجربة السجن، وقد روى أبناؤه كيف كان دائم الحديث معهم عن الفلسفة والدين والأمور الحياتية والعلوم المختلفة وكان دائم القرب منهم.
   استمر في الجبل الأسود لسنوات حتى قرر العودة إلى سراييفو بعد أن استقرت الأمور قليلاً، وكان قد حصل على شهادة الحقوق، وبعودته إلى سراييفو عمل كمستشار قانوني وحصل على شقة سكنية في حي جيد، وبدأ بكتابة العديد من المقالات الفلسفية التي تخص صحوة الإسلام ونشره تحت اسم مستعار، حيث كان يكتب الأحرف الأولى من أسماء أبنائه الثلاثة ليلى وسابينا وبكر.
   لقد ظهرت أجواء الحرية بشكل ملحوظ في السبعينيات فيما يتعلق بالكتابة والحركة بصورة نسبية، حتى جاء عام 1979 وقرر تيتو إنهاء تلك الحقبة بإعلان تحالفه مع اثنين من القيادات الشيوعية البوسنية وقد خرج بعدها بيان من تيتو يعلن فيه عودة القبضة الحديدية من جديد وإنهاء كل المحاولات المرتبطة بإحياء القومية الإسلامية في البوسنة والهرسك.
   جاء عام 1983  كبداية جديدة لمعاناة علي عزت بيجوفيتش تجلت في الاعتقال والمحاكمة وذلك بعد سنوات طوال قاربت العشر سنوات من الهدوء النسبي والبعد التام عن الصدام مع نظام الحكم آنذاك. ففي صبيحة 23 مارس/ آذار، فوجئ علي برجال من الأمن اليوغسلافي يدخلون منزله ويفتشونه بالكامل، ثم اقتادوا بعدها علي إلى مقر الأمن القومي والذي يحوي بداخله سجناً أيضاً بجانب كونه جهة تحقيق، لكن علي فوجئ أنه على الرغم من كونه المتهم الأول في القضية والمحور الرئيسي لها، فإن الكثيرين ممن كان يعرفهم أو على صلة بهم، قد وقعوا في القضية معه، وقد كانت القضية على كثرة المتهمين فيها هشة وسطحية، فالاتهامات تدور في فلك محاولات علي ورفاقه إعادة المسلمين الحاليين إلى عقيدتهم الحقيقية، وتسمية المتهمين أبناءهم بأسماء مسلمة، والدوافع التي دفعتهم لذلك، والعديد من الاتهامات المشابهة، والتي لم ترق للجنحة، فكانت كلها اتهامات اعتبارية في المقام الأول.
   كان كتيب “الإعلان الإسلامي” الذي كتبه بيجوفيتش واحداً من تلك الأمور التي جعلت المحاكمة منطقية بالنسبة للسلطات اليوغسلافية، فالكتيب المكون من 40 صفحة يدور حول أهمية أن يلتف المسلمون حول دينهم من جديد كونه السبيل الوحيد لتقدمهم ووصولهم إلى درجة كافية من الحضارة والعلم، وكذلك طالب فيه بالإنفاق على التعليم وزيادة حقوق المرأة وحماية حقوق الأقليات، ولم يتحدث البيان عن أي أمر يخص غير المسلمين فيما يتعلق بإدخالهم في الإسلام أو فرض هوية معينة عليهم، وإنما دار الكتاب أو البيان بأكمله حول ما سماه رفاق بيجوفيتش “أسلمة المسلمين”.
   103 أيام بالمخالفة لقانون الاحتجاز اليوغسلافي من الاحتجاز وجد بيجوفيتش ورفاقه أنفسهم أمام محكمة وصفها الصحفيون وقتها، وقد كان من بينهم كروات وصرب أنها محاكمة عدائية لم تشهد أي شكل من أشكال الحيادية أو الصدق، كما أنها حملت معنى رمزياً فيه الكثير من العداء بجانب الاتهامات غير المنطقية، وهو بداية المحاكمة في الثلث الأخير من شهر رمضان مبارك، وبالتوازي مع أيام لها معناه وقدسيتها عند الخاضعين للمحاكمة، لذا فقد كان واضحاً للجميع منذ البداية أن المحاكمة تتجه إلى نقطة محددة مسبقاً، تبعاً للبيان الذي سبق وأصدره تيتو ومات بعده بعام واحد، لكنه ظل حياً يحرك الأمور بعد وفاته.
    بعد محاكمة استمرت لأكثر من ثلاثين يوماً، وبحضور مكثف من موظفي هيئة الأمن القومي لأغراض التصفيق والتحية لكل القرارات والمرافعات والأحكام التي تصدرها المحكمة أصدرت المحكمة قرارها بسجن علي عزت بيجوفيتش 14 عاماً، وبالحكم على رفاقه بأحكام تراوحت بين 6 أشهر و15 عاماً، وقد اقتيد علي إلى سجن مقاطعة فوتشا، والتي بمتابعة تاريخ الحرب في السنوات التالية والمجازر التي شهدتها، كانت مقاطعة فوتشا علي من أكثر المقاطعات التي شهدت مجازر جماعية بل وجرائم اغتصاب جماعي بالعشرات، لذلك لم يكن بيجوفيتش وهو يدخل زنزانته في نوفمبر 1983 يدري أن سجنه ما هو إلا مقدمة للكثير من الكوارث التي ستشهدها مدن البوسنة.
    لقد وُزعت المجموعة على عنابر مختلفة في السجن، وكان من نصيب علي زنزانة القتلة والتي يدخلها من ارتكب جريمة قتل مرة فأكثر، لكن سنوات السجن الأولى كانت مبعثاً لأولى لإضاءات بعيدة المدى التي قدمها بيجوفيتش، حيث خرجت مسودة لكتاب كان قد عمل عليه وأخفته أخته عام 1946 في فترة سجنه، فأكملها علي بسرية وأرسلت إلى ناشر أمريكي بعد ما مرت برحلتها إلى كندا، لتخرج النسخة الأولى من كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” عام 1984.
في طريق العودة والحرب
    في أحد شوارع العاصمة وبينما الحرب في ذروتها قابلته امرأة وسألته؟ هل أنت الرئيس؟ أجابها بنعم.. فقالت ألا تشعر بالخوف من وجودك هنا؟ فقال إنني أرتعد خوفاً، لكنني الرئيس يجب علي أن أكون بينكم طوال الوقت وألا أظهر خوفي.
    في فترات السجن التالية، بدأ علي يسجل ملاحظاته وأفكاره عن فترة وجوده في السجن، وقد كانت كما وصفها في الكتاب نفسه، مجرد خواطر للتنفيس عما يعتمل في القلب والفكر، وقد سٌجلت في السجن بخط غير مقروء، لكنها هُربت في صندوق شطرنج من السجن، ونشرت فيما بعد عام 1999 في كتاب حمل عنوان “هروبي إلى الحرية”.
   كان بيجوفيتش تواقاً للحرية، فكان السجن بالنسبة له سبباً في الاكتئاب والحزن والألم.. ففراقه عن حفيداته أسماء وسلمى كان مؤلماً له، مما دفعه لأن تكون الرسائل بينهم مستمرة طوال الوقت دون توقف، وعلى الرغم من ذلك كله امتنع تماماً عن تقديم أي طلب بالعفو، على الرغم من أنه تلقى عروضاً بالعفو مقابل تقديم اعتذار عن كل ما يؤمن من مبادئ وأفكار وأن يبدي الندم على ذلك، لكنه رفض ذلك مراراً وتكراراً، لكنه في الوقت نفسه كان قدم طعناً على الأحكام الصادرة ضده فسقط الحكم المتعلق بانتمائه لجماعة أصولية، وهنا خُفف الحكم من 14 عاماً إلى 6 أعوام فقط، وكان من حسن أقدار الله أن تدخل الشيوعية في تدهور وسقوط مروع وكان من نتاج ذلك إلغاء تهمة الإهانة اللفظية للدولة، مما يعني سقوط السنوات الست المتبقية من الحكم، فقررت السلطات بعد مضي 5 سنوات و8 أشهر على بقائه بالسجن أن تعلن أنها تعفو عن بيجوفيتش -رغم انقضاء المدة فعلياً- في اليوم الوطني للبوسنة والهرسك.
    25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، خرج بيجوفيتش من محبسه ليستنشق نسيم الحرية من جديد، ويحصل على استراحة محارب لمدة عام، قرر بعدها تأسيس حزب للمسلمين في البوسنة، فأنشأ حزب العمل الديمقراطي في 26 مايو 1990 حيث انعقدت الجمعية التأسيسية للحزب في قاعة فندق هوليداي إن والتي امتلأت عن آخرها من كل بقعة من يوغسلافيا، وقد كان ذلك أول علامات التحدي والعصيان في مواجهة النظام في يوغسلافيا. وبعدها بقليل جرت أول انتخابات حرة نتج عنها وبحسب الدستور تكوين مجلس رئاسة من 7 أعضاء 2 من الصرب و2 من الكروات و2 من البوشناق المسلمين وواحد عن الأقليات، ويختار المجلس رئيساً للجمهورية وقد كان الاختيار هو بيجوفيتش.
   14 أكتوبر/تشرين الأول 1991، كانت بداية الصراع الصامت بين الصرب الذين أصبحوا المتحكم الفعلي في الجيش اليوغسلافي بعد رحيل تيتو، وبين البوسنة التي تشق طريقها للتحرر والاستقلال، حيث تحدث رادوفان كارادجيتش زعيم الصرب البوسنيين عن خطورة محاولات البوسنة العمل على تحقيق الاستقلال عن يوغسلافيا وكانت كلمته تحمل رسائل تهديد مبطنة بأن مصير البوسنة هو الإبادة على غرار ما حدث في كرواتيا وغيرها عند محاولات الاستقلال، لكن رد بيجوفيتش والذي كان في نفس الجلسة حاسماً وقاطعاً بأن البوسنة لم تعد ترغب في البقاء تحت لواء الحكم اليوغسلافي، ومن هنا بدأ عود الثقاب في الاشتعال. وفي فبراير/شباط من عام 1992 شارك شعب البوسنة في استفتاء الاستقلال وقد وافق البوسنيون بالأغلبية على الاستقلال عن يوغسلافيا.
    بدأت الحرب بعدها بقليل رغم كل مشاريع الإصلاح السياسي التي قدمها بيجوفيتش والتي كان من بينها إقامة اتحاد كونفدرالي يعطي كل دولة استقلاليتها السياسية دون الدخول في الحرب، لكن ميشلوفيتش رئيس الصرب كان يحلم بــ”صربيا الكبرى”، لذا لم يقنع بأي من هذا وقد زاد من المأساة أن بيجوفيتش لم يكن يلقى أي دعم دولي أو داخلي، فكان المسلمون في البوسنة وحدهم من يدعمون تحركاته، أما بقية الأطراف، كانت لهم قراراتهم وميولهم الخاصة، وقد شاهد المسلمون ذلك مذ بدأت المذابح فقد تفاجئ المسلمون بأن الصرب والكروات من جيرانهم قد هاجموهم كأنهم أعداء منذ زمن طويل. في كل منزل حاول بيجوفيتش الإقامة فيه كان يتعرض للقصف والمهاجمة لذا كان دائم لتغيير مكان إقامته، وفي الوقت نفسه كان دائم المرور في كل المدن البوسنية وسط الناس يطمئنهم.
    في وسط الحرب وبين المذابح وعمليات القتل الجماعي والاغتصاب مستمرة في سراييفو وسربرنيتشا لم ييأس بيجوفيتش من التحرك لدعم المقاتلين على كافة الجبهات حتى خرج ذات نهار في مؤتمر صحافي يتحدث أمام الجميع عن التواصل الذي حدث بينه وبين ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية وقد نصحه بأن يحصل على القدر القليل من دولة البوسنة حتى لو كانت مقداراً صغيراً من الأرض مقابل التخلي عن الرقعة الكبرى للصرب، حتى لا يكرر خطأ ياسر عرفات -كما وصفه- بأنه بقي طوال تلك السنوات دون أن يحصل على دولة معترف بها. ثم وفي مساء اليوم نفسه، خرج بيجوفيتش في مؤتمر آخر متحدثاً عن الاتصالات والمكالمات التي تهافتت عليه من كافة أنحاء المواقع القتالية في البوسنة من الجنود والقادة يرفضون الاستسلام، ويعلنون أنهم سيكملون  القتال بما تبقى لهم من مؤن وسلاح، وبالفعل وفي الفترات التالية بدأت العمليات القتالية من طرف مقاتلي البوسنة تزداد حدتها بقوة مما دفع بمعسكر الصرب للتراجع قليلاً ومن هنا بدأت المبادرات تُطرح لإيقاف النزيف المستمر، حتى وقُعت معاهدة دايتون في الولايات المتحدة وحصلت البوسنة على استقلالها العسكري، ولم يمض الكثير حتى وقع قادة الجرائم العسكرية الصرب كمتهمين أمام محكمة العدل الدولية كمجرمي حرب.
الإسلام بين الشرق والغرب
     في كتاب الإسلام بين الشرق والغرب، حاول الرئيس البوسني السابق في مؤلفه أن يجيب على هذا السؤال، ويرى أن هناك فقط ثلاث وجهات نظر متكاملة عن العالم هي: النظرة الدينية والنظرة الإسلامية والنظرة المادية، وكان يقصد بمصطلح الدين في كتابه إلى معنى محدد هو المعنى الذى تنسبه أوروبا إلى الدين، وتفهمه على هذا النحو، وهو أن الدين تجربة فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهى علاقة تعبر عن نفسها فقط في عقائد وشعائر يؤديها الفرد، هذه الوجهات الثلاثة من النظر تعكس إمكانات مبدئية هي: الضمير والطبيعة والإنسان، تتمثل كل منها بالتالي في المسيحية المادية والإسلام، وسنجد أن جميع المنطلقات الفكرية والفلسفات والتعاليم العقائدية من أقدم العصور إلى اليوم في التحليل النهائي يمكن إرجاعها إلى واحدة من هذه النظرات الثلاث العالمية الأساسية.
    ينطلق على عزت بيغوفتش من عدة منطلقات أساسية في كتابه، أولها أن هناك ثلاث رؤى عن العالم ولا مكان لغيرها: الديني والمادي والإسلامي، فالمادية ترى العالم باعتباره مادة محضة، وهى فلسفة تنكر التطلعات الروحية للإنسان.
الإعلان الإسلامي
    هي كتاب الإعلان الإسلامي، جاء ليتناول ظاهرة التخلف بين الشعوب الإسلامية، وطبيعة المشروع أو النظام الإسلامي وأبعاده وعناصره، ويعرض إشكاليات النظام الإسلامي، وأن الإسلام ليس مجرد دين، وعلاقة الإسلام بالمسيحية واليهودية، ورأيه في الرأسمالية والاشتراكية، وقد عرض المؤلف لبعض الأفكار الرئيسة وبعض المشكلات الجوهرية للنهضة الإسلامية، هذه الأفكار التي تستولي على عقول الناس بصفة متزايدة باعتبارها تحولاً عاماً للشعوب المسلمة خلقياً وثقافياً وسياسياً، وقد اشتمل الكتاب على مقدمة وثلاث فصول وخلاصة، وحدد المؤلف في مقدمته الجمهور الذى يتوجه إليه بالخطاب حيث يقرر أن الكتاب لا يخاطب إلا المسلمين الذين يدركون حقيقة انتمائهم للإسلام، في الفصل الأول من الكتاب يشخص ظاهرة التخلف بين الشعوب الإسلامية، وفي الفصل الثاني يتناول طبيعة المشروع الإسلامي أو النظام الإسلامي الذي يدعو إليه ويوضح أبعاده وعناصره، وفي الفصل الثالث يعالج المشكلات الأساسية التي تواجه النظام الإسلامي.
هروبي إلى الحرية         
    يتناول كتاب “هروبي إلى الحرية” كتابات على عزت بيغوفيتش عندما كان يقبع في سجن فوتشا في الفترة ما بين (1983 – 1988)، وما تعرض له في عهد تيتو، حيث مكث في سجنه أعواماً طويلة، وكان فيها يخلد إلى أفكاره ويناجى خواطره ويسجلها في ظروف صعبة، ثم جمعها في كتابه “هروبي إلى الحرية”، الذى يعبر فيه عن طموحاته وآماله بطريقة لا تدخل في عمق الأحداث الجارية، ويفصح فيها عن تطلعات شعب البوشناق المسلم وشعوب البوسنة الأخرى، جمع على عزت في كتابه خلاصة الخلاصات لكل ما يجب التفكير فيه أو يستحيل أن يفكر فيه، يتضمن الكتاب حشداً كبيراً من الأفكار والتأملات والاعتقادات في موضوعات منفصلة، تحدث عن أن الأدب هو الحرية، وعن الحياة والناس والحرية، وعن الدين والأخلاق، وأبدى ملاحظات سياسية، وعن نظرية الطريق الثالث التي يضيفها المؤلف إلى كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، وعن بعض الحقائق حول الشيوعية والنازية التي لا يجوز نسيانها، وعن ملاحظات هامة في التيارات الإسلامية والمسلمين، ويلحق بالكتاب رسائل وصلت إليه من أولاده في أثناء سجنه تمثل هروبه العاطفي وظروفه وأسرته وحريته اللامحدودة وهو في السجن.
    “هروبي الى الحرية”، صدر عن دار الفكر، ترجمة اسماعيل أبو البندورة، مراجعة محمد الأرناؤوط. ويقصد بيجوفيتش تسجيل خواطر مكنته للحظات من تجاوز جدران السجن للتحليق في أجواء الحرية التي سكنت روحه، لذلك تبدو أجمل خواطره وأقواها تلك التي يسطرها عن الطغيان والاستبداد والدكتاتورية.
خواطر علي عزت
   يبقى أن خواطر بيجوفيتش لم تقتصر على الحقل السياسي بل شملت ايضاً تعليقاته على الكتب والروايات التي قرأها أثناء سجنه وهي لذلك تعكس بشكل أو بآخر تطور الوعي الفكري لديه من خلال قراءاته ، لكنه يعبر مرة ذاكراً ان القراءة المفرطة قد تعوق الابتكار والابداع ، اذ تسهّل على صاحبها الاتباع. حيث يضم الكتاب تعليقات كثيرة على الأداء السياسي لحكومات الدول الغربية أو العالم الثالث دون اشارة إلى حكومته إلا بلطف بسيط، ومن الطريف جداً ما يذكره عن طريقة حفظ هذه المذكرات على الرغم من الرقابة الصارمة التي فرضت عليه داخل السجن، حتى أن طابعته الخاصة تعبت كثيراً من فك رموز شيفرته الخاصة للكلمات الخطرة “الدين، الشيوعية، الحرية، الديموقراطية، الاسلام، السلطة” وتم استبدالها في الملاحظات بكلمات أخرى كان هو الوحيد القادر على معرفتها، ويروي أنه كان يسجل خواطره على دفتر حتى تجمع لديه ثلاثة عشر دفتراً، وعندما كان ينتهي من كل دفتر لم يكن يضعه في خزانته، إنما كان يودعه لدى أحد زملائه السجناء الذي كان مداناً بسبب جريمة قتل، وهكذا كان يمكن مصادرة دفتر واحد فقط هو الذي يعمل به.
حرب البوسنة
    وقع نزاع مسلح دولي في البوسنة والهرسك في الفترة بين 6 أبريل 1992 و14 ديسمبر 1995، كانت الحرب بين قوات من جمهورية البوسنة والهرسك وبين القوات التي نصبت لنفسها كيانات جديدة وهي القوات الصربية البوسنية والقوات الكرواتية البوسنية في البوسنة والهرسك، وقدمت كل من صربيا وكرواتيا قادة لجمهورية صرب البوسنة و”كروات البوسنة” على التوالي، وجاءت الحرب نتيجة لتفكك يوغوسلافيا بعد الانشقاقات السلوفينية والكرواتية من جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية في عام 1991، أصبح يمثل الجمهورية الاشتراكية متعددة الأعراق في البوسنة والهرسك كل من: البوشناق المسلمين 44% والصرب الأرثوذكس 31% والكروات الكاثوليك 17%، ثم أُقر استفتاء على الاستقلال في 29 فبراير 1992، وقد رُفض هذا الاستفتاء من قبل الممثلين السياسيين لصرب البوسنة الذين قاطعوا الاستفتاء، وأنشؤوا جمهوريتهم الخاصة، ولحقت بهم البوسنة وأعلنت استقلال البوسنة والهرسك والتي اكتسبت اعترافاً دولياً، وكان نتيجة لذلك أن صرب البوسنة وبدعم من حكومة سلوبودان ميلوسيفيتش الصربية والجيش الشعبي اليوغوسلافي، حشدوا قواتهم داخل جمهورية البوسنة والهرسك من أجل تأمين الأراضي الصربية، ثم سرعان ما انتشرت الحرب في جميع أنحاء البلاد، رافقها تطهير عرقي ضد السكان البوسنيين المسلمين والكروات، وخاصة في شرق البوسنة وجميع أنحاء جمهورية صرب البوسنة.
    كان الصراع الإقليمي في البداية بين القوات الصربية الممثلة في جيش جمهورية صرب البوسنة من جهة، وجيش جمهورية البوسنة والهرسك الذي كان يتألف في معظمه من البوشناق والقوات الكرواتية المدعومة في مجلس الدفاع الكرواتي في الجانب الآخر، وكانت القوات الكرواتية تهدف إلى تأمين الأجزاء الكرواتية من البوسنة والهرسك، وفي وقت لاحق اتفقت القيادات السياسية الصربية والكرواتية على تقسيم البوسنة عبر اتفاقية كاراكورديفو واتفاقية غراتس، مما أدى إلى تحول القوات الكرواتية لحرب جيش جمهورية البوسنة والهرسك، واتسمت الحرب بالقتال المرير والقصف العشوائي للمدن والبلدات والتطهير العرقي والاغتصاب الجماعي المنظم، وكان المتسبب في هذه الأفعال بشكل رئيسي القوات الصربية، وبشكل أقل القوات الكرواتية وقوات البوسنيين، وكان من أكبر الأحداث دموية حصار ساراييفو ومذبحة سربرنيتسا.
    كان الصرب وعلى الرغم من تفوقهم في البداية بسبب الأسلحة والموارد المقدمة من قبل جيش يوغسلافيا الشعبي، إلا أنهم خسروا في نهاية المطاف، كما أن البوشناق والكروات تحالفوا ضد الجمهورية الصربية في عام 1994 مع إنشاء اتحاد البوسنة والهرسك بعد اتفاق واشنطن، أما بعد مجازر سربرنيتشا وماركال فقد تدخل حلف الناتو في عام 1995، مستهدفاً مواقعاً لجيش جمهورية صرب البوسنة، والتي كانت مفتاح إنهاء الحرب. وقد انتهت الحرب بعد التوقيع على اتفاقية الإطار العام للسلام في البوسنة والهرسك في باريس في 14 ديسمبر 1995 التي استكملت مفاوضات السلام التي جرت في دايتون، أوهايو في 21 ديسمبر 1995، والتي أصبحت تُعرف باسم اتفاقية دايتون. وفقاً لكشوف تقرير صادر من الأمم المتحدة ترأسه شريف بسيوني قال فيه: إن جميع الأطراف ارتكبت جرائم حرب خلال الصراع، وكانت القوات الصربية المسؤولة عن تسعين في المئة من القتل والتخريب، في حين كانت القوات الكرواتية مسؤولة عن ستة في المئة والقوى الإسلامية أربعة في المئة، وكانت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة قد أدانت 45 شخصاً من الصرب، ومن الكروات 12 شخصاً، ومن البوشناق أربعة أشخاص، وذلك بارتكاب جرائم حرب في البوسنة، وأشارت أحدث الأرقام إلى أن حوالي (100,000 شخص) قتلوا خلال الحرب في البوسنة، وبالإضافة إلى ذلك تم اغتصاب ما يقدر بــ (20,000 إلى 50,000 امرأة)، وتشريد أكثر من (2.2 مليون شخص)، مما يجعل الصراع في البوسنة والهرسك الأكثر تدميراً في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
اندلاع الحرب
    في فبراير من عام 1991، دعا علي عزت بيغوفيتش إلى استفتاء وطني حول استقلال البوسنة كشرط أوروبي للاعتراف بالبوسنة والهرسك كدولة مستقلة، على الرغم من تحذيرات الأعضاء الصرب للرئاسة أن أي تحرك نحو الاستقلال من شأنه أن يؤدي بالمناطق الصربية في البوسنة إلى البقاء مع يوغوسلافيا الفدرالية، وتم مقاطعة الاستفتاء من قِبل الصرب الذين اعتبروا الاستفتاء خطوة غير دستورية، وقد صوت 99.4٪ من الناخبين لصالح الاستقلال، وبلغت نسبة المشاركة 67٪ (تشكلت كلها تقريباً من البوشناق والكروات)، وأعلن عزت بيغوفيتش استقلال البلاد في شهر مارس من عام 1992. تلقت البوسنة والهرسك الاعتراف الدولي في 6 نيسان 1992، وتم الاعتراف بجمهورية البوسنة والهرسك كدولة عضو في الأمم المتحدة في يوم 22 مايو 1992، وكان من نتائج الاستفتاء أن وقع قتال متقطع بين الصرب والقوات الحكومية في جميع أنحاء البوسنة في الفترة التي سبقت الاعتراف الدولي، وكان علي عزت بيغوفيتش يراهن على أن المجتمع الدولي سيرسل قوات حفظ السلام بعد الاعتراف بالبوسنة من أجل منع وقوع الحرب، ولكن هذا لم يحدث، واندلعت الحرب على الفور في جميع أنحاء البلاد، كما حقق الصرب وقوات جيش يوغسلافيا الشعبي السيطرة على مناطق واسعة من البوسنة من قوات الأمن الحكومية سيئة التجهيز، في البداية هاجمت القوات الصربية السكان المدنيين من غير الصرب في شرق البوسنة، وقد سقطت المدن والقرى بشكل سريع في أيديهم، وألقي القبض على الكثير من المدنيين البوسنيين.
    كان علي عزت بيغوفيتش يروج باستمرار لفكرة بوسنة متعددة الأعراق تحت حكم مركزي، ولكن هذه الفكرة بدت إستراتيجية ميؤوس منها في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلد، أما كروات البوسنة فقد خاب أملهم من حكومة سراييفو وتم دعمهم عسكرياً ومالياً من قبل الحكومة الكرواتية في بلغراد، وتحولوا بشكل سريع ومتزايد نحو إقامة دولة خاصة بهم في الهرسك ووسط البوسنة، في هذه الأثناء انسحب الكروات من حكومة سراييفو واندلع القتال في عام 1993، ولكن في معظم المناطق البوسنية تم توقيع هدنة محلية بين الصرب والكروات في كريسيفو وفاريس ويايسي، وشنت القوات الكرواتية هجماتهم على البوشناق في غورني فاكوف ونوفي ترافنيك والبلدات في وسط البوسنة ابتداءً من يونيو عام 1992، وتسبب اتفاق غراتس بانقسام عميق وكبير بين الكروات والجماعة الانفصالية، والتي أدت إلى حملة تطهير عرقي ضد المدنيين البوسنيين، هذه الحملة خططت لها الجماعة الكرواتية التي نصبت نفسها على هرم القيادة السياسية والعسكرية في هرسك-البوسنة في الفترة من مايو 1992 إلى مارس 1993.
     تبني علي عزت بيغوفيتش فكرة عبديتش بإنشاء مقاطعة غرب البوسنة المستقلة في أجزاء من بلديات كازين وفيليكا كلادوسا في المناطق المعارضة لحكومة سراييفو وبالتعاون مع سلوبودان ميلوشيفيتش وفرانيو تودجمان، وكان ذلك سببًا في زيادة الارتباك العام في صفوف البوسنيين، وبحلول ذلك الوقت أصبحت حكومة علي عزت بيغوفيتش تسيطر على حوالي 25٪ من مساحة البلاد، ولمدة ثلاث سنوات ونصف عاش عزت بيغوفيتش غير مستقر في سراييفو المحاصرة والتي تحيط بها القوات الصربية، واستنكر فشل الدول الغربية في وقف العدوان الصربي، وتحول بدلاً من ذلك إلى العالم الإسلامي، والذي كان قد أنشأ العلاقات معه خلال أيامه في المنفى، وتلقت الحكومة البوسنية المال والسلاح بعد المجازر التي وقعت ضد مسلمي البوسنة من قِبل الصرب وإلى حد أقل من قوات الكروات، وجاء المتطوعون العرب عبر كرواتيا إلى البوسنة للانضمام إلى جيش البوسنة، والذين بلغ عددهم من 3,000 إلى 6,000 مقاتل. وصل هؤلاء المقاتلون العرب إلى البوسنة في حوالي عام 1993، وكانوا يحملون وثائق هوية وجوازات سفر كرواتية، إلا أن هذه الخطوة سرعان ما اجتذبت انتقادات شديدة ضخمتها الدعاية الكبيرة من قِبل الجماعات الصربية والكرواتية، الذين اعتبروا وجودهم دليلاً على الأصولية الإسلامية العنيفة في قلب أوروبا.
    في عام 1993 وافق علي عزت بيغوفيتش على خطة السلام التي من شأنها تقسيم البوسنة على أسس عرقية، لكنه استمر في الإصرار على حكومة بوسنية ائتلافية في سراييفو، وكانت الحرب بين البوشناق والكروات قد انتهت بوساطة اتفاقية واشنطن التي جرى التوقيع عليها في 18 مارس 1994، وبعد ذلك تعاون الجانبان بشكل وثيق وقوي ضد الصرب، وأصبح حلف شمال الأطلسي يشارك على نحو متزايد في الصراع ضد صرب البوسنة وذلك ابتداءً من 28 فبراير 1994، واستمر القتال ضد الصرب من قِبل الأطراف الثلاثة البوشناق والكروات وحلف الناتو، وفي 13 نوفمبر 1994 رفعت الولايات المتحدة من جانب واحد الحظر على الأسلحة ضد حكومة البوسنة، وفي 30 اغسطس 1994 أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي بداية عملية القوة المتعمدة، وتتمثل في غارات جوية واسعة النطاق ضد مواقع صرب البوسنة بدعم من قوات الأمم المتحدة، وفي 14 سبتمبر 1995 تم تعليق الضربات الجوية للناتو للسماح بتنفيذ اتفاق مع صرب البوسنة لسحب الأسلحة الثقيلة من جميع أنحاء سراييفو.
انتهاء الحرب
   في يوم 26 سبتمبر من عام 1995، تم التوصل إلى الاتفاق على المبادئ الأساسية لاتفاق سلام في مدينة نيويورك بين وزراء خارجية كل من البوسنة والهرسك وكرواتيا وجمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية، وجاء إعلان لوقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً، ودخل هذا الإعلان حيز التنفيذ في 12 أكتوبر 1995، وفي الأول من شهر تشرين الثاني بدأت محادثات السلام في دايتون، أوهايو، وانتهت الحرب بعد التوقيع على اتفاقية دايتون للسلام الموقعة في 21 تشرين الثاني 1995، وتم التوقيع على النسخة النهائية من اتفاق السلام 14 ديسمبر 1995 في باريس، وبعد اتفاقية دايتون قام حلف شمال الأطلسي بنشر قوة التنفيذ في البوسنة والهرسك، وتم نشر وحدة قوية مكونة من 80,000 عسكري مدججة بالسلاح، وكلفت بإطلاق النار عند الضرورة من أجل تنفيذ عملية السلام الموقعة بنجاح، فضلاً عن قيامها بمهام أخرى مثل تقديم الدعم والمساعدات الإنسانية والسياسية وإعادة إعمار البوسنة والهرسك، وتوفير الدعم للمدنيين النازحين في العودة إلى ديارهم، وجمع الأسلحة والألغام والذخائر، وتطهير المناطق المتضررة.
نحو “اتفاق دايتون للسلام
     هو علي عزت بيجوفيتش أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد انتهاء حرب الإبادة التي شنَّها الصرب على مسلمي البوسنة، قاد علي عزت بيجوفيتش شعب البوسنة في الدفاع عن استقلالها وقاد مقاومة عنيفة وشجاعة ضد الاجتياح الصربي للبوسنة والتي تعرض فيها المسلمون إلى الإبادة منها مذبحة سيربنتشا وغيرها من مذابح الإبادة التي تعرض لها البوسنيون، وقد صمدت البوسنة تحت قيادته صمودًا سجَّله التاريخ، كما قاد عزت مفاوضات مضنية مع الغرب لأجل حقوق البوسنة، وكان الغرب يمارس الضغط عليه لتقديم تنازلات حتى انتهت مشكلة البوسنة فيما سُمًّي باتفاق دايتون.
    تسمى اتفاقية دايتون أو اتفاقية الإطار العام للسلام في البوسنة والهرسك، هي اتفاقية سلام تم التوصل إليها في قاعدة رايت باترسون الجوية قرب دايتون، أوهايو في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1995، ووقعت الاتفاقية رسمياً في باريس في 14 ديسمبر 1995، ووضعت هذه الاتفاقية حداً لفترة طويلة من الصراع والحرب في البوسنة والهرسك والتي بلغت ثلاثة سنوات ونصف السنة، والتي تعد واحدة من الصراعات المسلحة في يوغوسلافيا السابقة، بدأت المحادثات الدولية في وقت مبكر من عام 1992، وكانت هذه البداية في أعقاب جهود فاشلة سابقة للسلام، في أغسطس من عام 1995 قامت القوات الكرواتية بعملية عاصفة عسكرية وذلك بالهجوم العسكري ضد حكومة جمهورية صرب البوسنة، والتي أجريت بالتوازي مع عملية القوة المتعمدة لحلف شمال الأطلسي، وخلال شهري سبتمبر وأكتوبر من عام 1995 قامت القوى العالمية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بجمع أطراف النزاع لحضور المفاوضات في دايتون، أوهايو.
    عقد المؤتمر في شهر نوفمبر من عام 1995، وشارك فيه رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية سلوبودان ميلوسوفيتش، ورئيس جمهورية كرواتيا فرانيو تودجمان، ورئيس البوسنة والهرسك علي عزت بيغوفيتش، وبعد أن تم التوقيع على الاتفاق في دايتون، أوهايو في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 تم التوقيع على اتفاق كامل ورسمي في باريس في 14 ديسمبر 1995.
     نصت الاتفاقية على خمسة عناصر رئيسة هي: الالتزام بوحدة أراضي البوسنة، وتقسيم البوسنة إلى قسمين أحدهما ذات طابع فيدرالي للمسلمين والكروات والثاني جمهورية للصرب، ويحصل المسلمون والكروات على ثلثي مقاعد البرلمان والثلث الآخر للصرب، الحكومة المركزية هي المسؤولة عن السياسة الخارجية وقضايا المواطنة والهجرة، عودة اللاجئين الذين شردتهم الحرب، وعلى أساس هذا الاتفاق يحكم البوسنة والهرسك مجلس رئاسي بدلاً من رئيس واحد، ويضم المجلس 3 رؤساء أحدهم يمثل المسلمين وآخر يمثل الكروات ويتم انتخابهما من قِبل سكان اتحاد البوسنة والهرسك أي فيدرالية المسلمين والكروات، أما الثالث فهو صربي ينتخبه سكان جمهورية صرب البوسنة، ومدة المجلس الرئاسي أربع سنوات ويتولى أعضاؤه الثلاثة الرئاسة بالتوالي لمدة 8 أشهر لكل منهم، فيترأس كل منهم البلاد مرتين، وجاءت اتفاقية دايتون بنصوص غير مرضية للمسلمين وقال الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش: “إن اتفاقاً غير منصف خير من استمرار الحرب”.
مجلس الرئاسة البوسني
   كان أحد أهم نتائج اتفاقية دايتون هو تشكيل مجلس الرئاسة البوسني، مسؤليته إدارة البلد بدلاً من رئيس مباشر يحكم البلاد. أنشئ مجلس الرئاسة البوسني ليتولى رئاسة البوسنة والهرسك، على أن يتكون هذا المجلس من ثلاثة أعضاء: بوسني وكرواتي ينتخب كل منهم مباشرة من اتحاد البوسنة والهرسك، وصربي واحد ينتخب مباشرة من جمهورية صرب البوسنة. ونصت الفقرة الأولى من قانون الانتخابات الذي صدر من المحكمة الدستورية البوسنية أن أعضاء مجلس الرئاسة ينتخبون مباشرة في كل كيان من كيانات البوسنة، وفقاً لقانون الانتخابات الذي اعتمدته الجمعية البرلمانية، مدة الأعضاء المنتخبين يجب أن تكون أربع سنوات. وأسفرت الانتخابات التي أجريت في شهر سبتمبر/ أيلول من عام 1996 عن فوز الأحزاب القومية في الكيانات الثلاثة بأغلبية المقاعد البرلمانية، وبالمناصب التنفيذية التي دار التنافس حولها، ففي برلمان اتحاد البوسنة والهرسك الذي يمثل المسلمين والكروات، فاز حزب العمل برئاسة علي عزت بيغوفيتش والاتحاد الديمقراطي الكرواتي بأغلبية المقاعد، وفي برلمان جمهورية صرب البوسنة فاز الحزب الديمقراطي الصربي بــ (49 مقعداً) من إجمالي (83 مقعداً)، أما على صعيد المجلس التشريعي للبوسنة فقد فاز حزب العمل الديمقراطي بــ(20 مقعداً) من أصل (28 مقعداً) مخصصاً لكل من المسلمين والكروات، وفاز الاتحاد الديمقراطي الكرواتي بــ(7 مقاعد)، وبالنسبة إلى حصة الصرب في هذا المجلس (14 مقعداً)، فقد فاز الحزب الديمقراطي الصربي ب(8 مقاعد)، وفازت أحزاب صربية أخرى بــ(6 مقاعد).
   فيما يتعلق بهيئة الرئاسة الثلاثية، فقد حصل مرشح حزب العمل الديمقراطي علي عزت بيغوفيتش على المركز الأول (729.034 صوتًا)، ثم مرشح الحزب الديمقراطي الصربي موسشيلو كرايشنيك (690.373 صوتًا)، وأخيراً مرشح الاتحاد الديمقراطي الكرواتي كريشمير زوباك (342.007 صوتًا).
رئاسة المجلس
   بعد أن أجريت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في شهر سبتمبر/ أيلول من عام 1996، تم تشكيل مجلس الرئاسة البوسني والذي يتكون من الرؤساء الثلاثة علي عزت بيغوفيتش ممثلاً عن المسلمين، وموسشيلو كرايشنيك ممثلاً عن الصرب، وكريشمير زوباك ممثلاً عن الكروات، وكانت مدة هذا المجلس أربع سنوات من 1996 وحتى 2000، وكانت رئاسة المجلس مناوبة بين الأعضاء الثلاثة، نصب خلال هذه الفترة علي عزت بيغوفيتش رئيساً لمجلس الرئاسة البوسني مرتين: الأولى من 5 أكتوبر 1996 حتى 13 أكتوبر 1998، والثانية في 14 فبراير 2000 حتى 14 أكتوبر 2000.
في طريق الرحيل
    12 أكتوبر/ تشرين الأول، وبعد مرور 10 سنوات في حكم البوسنة تحت قيادة عزت بيجوفيتش، خرج ببيان على جمهور المواطنين يخبرهم بأنه سيترك منصبه بعد نهاية الفترة الحالية، ولن يستمر في الحكم مجدداً وقد ترك مبنى الرئاسة بالفعل في 15 أكتوبر/ تشرين الأول. وصل بيجوفيتش إلى الخامسة والسبعين من عمره وبدأ الإنهاك يظهر عليه، حتى جاء ذلك اليوم الذي استيقظ فيه ولم يسعفه بصره للرؤية جيداً، فسقط على السلم وتكسرت أضلاعه وأصيبت الرئة، وبقي في المشفى 40 يوماً تقريباً، تحدث فيها مع أصحابه عن شعوره بالرغبة في الرحيل، وتفكيره في أن البقاء في الحياة لم يعد أمراً يشغل تفكيره، وقد كان بنوه وأزواجهم يحيطون به في أيامه الأخيرة في مرقده في المشفى، وقد كانت زوجة ابنه باكر آخر من كانت بجواره وهو يغمض عينيه لآخر مرة، قبل أن يُوارى الثرى في مقابر الشهداء كما تمنى، في جنازة شهدت خروج كافة سكان البوسنة بكافة مدنها وأقاليمها مرسلين إليه الوداع الأخير، باكين رحيل الرجل الذي غير تاريخهم للأبد.
    لم يكن على عزت بيجوفيتش رئيساً عادياً كسائر رؤساء الجمهوريات الذين تسلموا هذا المنصب في العالم الإسلامي، بل كان سياسياً ومفكراً عميقاً وذا نظرة إسلامية بعيدة جعلته يتجاوز حدود البلقان، إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليحمل هموم المسلمين حيث كانوا. حيث اطلع على تجارب الحركات الإسلامية الأخرى في الهند وباكستان وإندونيسيا.