الرئيسة \  قطوف وتأملات  \  هرقل الروم

هرقل الروم

23.05.2015
الدكتور عثمان قدري مكانسي





كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم  الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام:
1- فبعث إلى كسرى: عبد الله بن حذافة فمزق الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مزق الله ملكه))، فسلط الله عليه ابنه شيرويه فقتله.
2- وبعث إلى النجاشي كتابه فسلمه إليه جعفر بن ابي طالب وكان جعفر إذ ذاك في الحبشة وكان حامل الكتاب: عمرو بن أمية الضمري، فأسلم النجاشي رضي الله عنه.
3- وبعث إلى المنذر بن ساوى والي البحرين: العلاءَ بن الحضرمي يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية فأسلم المنذر والعربُ كلهم – وكانت البحرين تابعة للفرس – وصالح اليهودُ والنصارى والمجوسُ ودفعوا الجزية.
4- وبعث إلى هوذة بن علي: سليطَ بن عمرو يدعوه إلى الإسلام وكان هوذة نصرانياً، فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفداً فيهم مجّاعة بن مرارة والرجّال بن عنفوة يقول له: إن جعل له من الأمر من بعده أسلم وسار إليه ونصره، وإلا قصد حربه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا ولا كرامة، اللهم اكفنيه))، فمات بعد قليل.
5- وبعث إلى الحارث بن أبي شمَّر الغساني: شجاع بن وهب، فلما قرأ كتابه عليهم قال: من ينزع مني ملكي؟! أنا سائر إليه، فلما بلغ قولُه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  قال: ((بادَ ملكه)).
6- وبعث إلى المقوقس بمصر: حاطب بن أبي بلتعة، فقبَّل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأهدى إليه جواريَ منهن مارية أمُّ إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكانت رسائله عام ثمانٍ للهجرة.
أما رسالته إلى هرقل ملك الروم فقد حملها دِحية الكلبي ،فلما وصلته قبَّلها وجعلها على صدره، وكتب إلى رئيس أساقفته في القسطنطينية يخبره شأنه: فكتب إليه هذا: إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه، فاتّبعه وصدِّقهُ، فجمع هرقل بطارقة الروم في صومعة له في حمص، وغلَّق أبوابها ثم طلع عليهم من عِليّةٍ خائفاً على نفسه منهم، وقال لهم: قد أتاني كتاب هذا الرجل "محمد" يدعوني إلى دينه، وإنه والله النبي الذي نجده في كتابنا، فهلم فلنتبعه ونصدقه، فتسلمَ لنا دنيانا وآخرتنا ونفوز بهما معاً.
فنخروا نخرة رجل واحد استقباحاً لما قاله، ثم ابتدروا الأبواب ليخرجوا فيثوروا ويؤلبوا العامّة والجيشَ عليه فقال: ردّوهم عليّ فردّوهم، فقال لهم: إنما قلت لكم ما قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم؟ وقد رأيت منكم ما سرَّني، فسجدوا تعظيماً له.
ثم إن هرقل قال لدحية: إني لأعلم أن صاحبك نبيّ مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى الأسقف الأعظم في القسطنطينية واذكر له أمر صاحبك، وانظر ما يقول لك، فجاء دحية وأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقال له: والله إن صاحبك نبيٌّ مرسل، نعرفه بصفته ونجده في كتابنا، ثم أخذ عصاه وتوجه إلى البطارقة والقساوسة فقال: يا معشر الروم، قد جاءنا كتاب من أحمد، يدعونا إلى الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوثبوا عليه فقتلوه رحمه الله.
فرجع دِحية إلى هرقل وأخبره بالخبر قال: قد قلت إننا نخافهم على أنفسنا.
ولو أن هرقل ترك الملك وآمن، وفعل كما فعل غيره مما قصَصْتُ عن مَلِك من ملوك بني إسرائيل في كتابي- قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم - لكان من سعداء الآخرة، ولكنه آثر الدنيا العاجلة على الآخرة الآجلة (1).
قال قيصر مخاطباً مَلأَه من البطاركة وقادة الجند والوجهاء:
هلمُّوا نعطيه الجزية فأبوا، فقال: نعطيه أرض سوريا الشام، ونصالحُه، فأبوا واستدعى هرقل أبا سفيان، وكان تاجراً إلى الشام في الهدنة (صلح الحديبية) فحضر عنده ومعه جماعة من قريش أجلسهم هرقل خلف ابي سفيانَ، وقال: إني سائله، فإن كذب فكذّبوه، فقال أبو سفيان: لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت.
فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم  فقال أبو سفيان: صغّرت من شأنه فلم يأبه لقولي.
قال هرقل: كيف نسبه فيكم؟
قال أبو سفيان: هو أفضلنا نسباً.
قال هرقل: هل كان من أهل بيته من يقول مثل قوله؟
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فهل له فيكم مُلْكٌ سلبتموه إياه؟
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فمن اتبعه منكم؟
قال أبو سفيان: الضعفاءُ والمساكين، والأحداثُ من الغلمان والنساء.
قال هرقل: فهل يحبه من يتبعه ويلزمه أو يَقليه ويفارقه؟
قال أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه، فأخلاقه تَسَع الجميع.
قال هرقل: فكيف الحرب بينكم وبينه؟
قال أبو سفيان: الحربُ سجال يوم له ويوم لنا.
قال هرقل: هل يغدِر؟
قال أبو سفيان: لا، ونحن منه هدنة (صلح الحديبية) لا نأمن غدره، وكان أبو سفيان في هذا يريد النيل من النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يأبه هرقل لقوله.
قال هرقل: سألتك عن نسبه، فزعمت أنه من أكرم الناس نسباً، وكذلك الأنبياء.
وسألتك: هل قال أحدٌ من أهل بيته مثلَ قوله فهو يتشبه به قلت: لا.
وسألتك: هل سلبتموه ملكه، فجاء بهذا لتردوا عليه ملكه فقلتَ: لا.
وسألتك: عن أتباعه فزعمت أنهم من الضعفاء والمساكين وكذلك أتباع الرسل.
وسألتك: عمن يتبعه أيحبه أم يفارقه؟ فزعمت أنهم يحبونه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه.
وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أنه لا.
ولئن صدقتَني ليغلبَنَّ على ما تحت قدميَّ هاتين ،ولوددت أني عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك..
فخرج أبو سفيان وهو متعجب مندهشٌ لما سمعه من هرقل، وقال وهو يضرب إحدى يديه بالأخرى: يا أيها الناس، لقد عظُم أمر محمد حتى باتت الملوك تهابه!
إن هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هيبة الله تعالى، ولكن الغافلين عن هذا الغارقين في أوحال الدنيا لا يدركون ذلك.
قال أبو سفيان مثل هذا في فتح مكة للعباس: لقد بلغ مُلكُ ابن أخيك شأواً عظيماً، فردّ عليه العباس رضي الله عنه: إنها النبوَّةُ يا أبا سفيان، أما آن لك أن تعي هذا؟!
وللدعاة هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله يرى من مجلسه العرضَ العسكريَّ الذي سار فيه السلطان أيوب ملك مصر، ورآه في رَكبه منتفخاً، منتفجاً، فاستحضر العزُّ هيبة الله في نفسه ،وسأله العون على سلّ هذه السخيمة من نفس أيوب، فناداه وهو جالسٌ: يا أيوب! لم يناده بلقب الملك والسلطنة.
فما كان من السلطان إلا أن أوقف العرض ونزل عن مركبته ،وسعى إلى العزّ بن عبد السلام، يقول له: ما الذي تريده يا شيخنا الجليل؟
قال العزّ: ما تقول لله تعالى وقد ولّاك على عباده إذا وقفت بين يديه وسألك عن الخمارة في مكان كذا؟
قال السلطان أيوب: إنها بنيت على عهد والدي.
قال العزّ: أأنت من الذين قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ؟ّ!
قال السلطان أيوب: لا يا مولانا .وأمَرَ لتوه بهدمها، واستأذن الشيخ وعاد إلى موكبه.
قيل لسلطان العلماء العزّ بن عبد السلام: لقد كان مستعظماً في نفسه وهو في موكبه، أما خفت على نفسك من بطشه؟
قال العزّ رحمه اله: استحضرت هيبة الله في نفسي فوجدته كالفأر بين يدي الهِرِّ.
صلى الله على رسوله الكريم، وجزاه خير ما جزى نبياً عن أمته، ورحم الله علماء الأمة العاملين الوقّافين على حدود الله، الذين لا يخافون في الله لومة لائم.
(1)  قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم للمؤلف (قصة الملك الزاهد ص140).
_____________________
الكامل في التاريخ الجزء الثاني ص 143