الرئيسة \  تقارير  \  “نيويورك تايمز”: كيف تعيد أزمات لبنان المتدهورة ذكريات الحرب الأهلية المروعة؟

“نيويورك تايمز”: كيف تعيد أزمات لبنان المتدهورة ذكريات الحرب الأهلية المروعة؟

19.01.2022
ساسة بوست


ساسة بوست
الثلاثاء 18/1/2022
حتى الممارسات اليومية المعتادة، مثل اللعب بالكروت وإشعال الشموع ولحظة غروب الشمس، ما زالت تُمثل للأطفال المولودين في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي رسائل تذكيرية مأساوية بالحرب الأهلية اللبنانية، وهذا ما رصدته واحدة من هؤلاء الأطفال وهي ماريا أبي حبيب، مديرة مكتب “نيويورك تايمز” في المكسيك وأمريكا الوسطى في تقرير نشرته الصحيفة الأمريكية.
تستهل الكاتبة تقريرها بالتساؤل عندما تكون طفلًا، كيف تتجاوز آثار الحرب؟ لقد تحول كثير من ألعاب مثل (مونوبولي) و(سكرابل) وأوراق الكروت والشموع إلى ذكريات مروِّعة عندما تحوَّلت الحمامات الخالية من النوافذ إلى ملاجئ عائلية للحماية من القنابل، والتي كانت تشبه تقريبًا مبيت الضيوف في بيوت غير بيوتهم، هل يمكن أن نتجاهل البلاط القاسي الذي كنَّا ننام عليه وعمليات القصف المدوية لبعض المجموعات التي تحاول قتلك لأسباب لا تفهمها بالمرة؟
صدمات نفسية جماعية   
تسرد الكاتبة أن الحرب فعلًا – بصورتها النمطية- عبارة عن مبانٍ محطمة، ودوي صخب سيارات الإسعاف، ودماء مُراقة، ومراسم جنائز. لكن الحرب يمكن أن تكون مؤذية إذا استمرت لفترات طويلة، في حين أنك تحاول تمضية الوقت عن طريق اللجوء إلى القيام بالأعمال المبتذلة والعادية.
لكن بعض تلك االأشياء التي استُخدمت لتجاوز مرحلة الطفولة التي عصفت بها الحرب، مثل ألعاب الطاولة، أصبحت حاليًا مصدرًا للصدمات النفسية لي ولكثيرٍ من أصدقائي؛ إذ وُلدنا وترعرعنا إبَّان الحرب الأهلية التي شهدها لبنان قبل أكثر من ثلاثة عقود ونحاول حاليًا ونحن ناضجون أن نعيش حياة طبيعية ونُربي أولادنا، بينما ينهار لبنان ويحترق مرةً أخرى.
وتُوضح الكاتبة أن جيلها يُعاني مما تُشبهه بـ”حقول ألغام عاطفية” تحاصر أغلب ممارساتهم المعتادة حتى بعد مرور 32 عامًا من انتهاء الحرب، وتقول صديقتي نادين رشيد، البالغة من العمر 40 عامًا وتعمل مُطوِّرة سلع ومنتجات وتعيش حاليًا في مدينة نيويورك: “لا أشعر بأنني على ما يرام في الأجواء الرومانسية؛ إذ تُسبب لي الشموع القلق لأنها تذكرني بأننا أمضينا كثيرًا من الوقت في الدراسة – أثناء الحرب الأهلية في لبنان- على ضوء الشموع بعد اليوم المدرسي”.
وتُضيف نادين أنها عندما كانت في الثلاثينيات من عمرها، وكانت قد تزوجت حديثًا من رجل أمريكي يقيم في لبنان، ذهبوا للتخييم في الأردن، وبعد رحلة طويلة، رتَّب زوجها لها عشاءً على ضوء الشموع في الحياة البرية، لكنها شعرت بالفزع، وبعد أن حاولت التحلي برباطة الجأش وهدوء الأعصاب، شرحت صديقتي لزوجها أن السبب يرجع إلى معاناتها التي عانتها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وكانت مجبرة على الاعتماد على الاختراعات القديمة، مثل الشمعة، بعدما تدهور حال لبنان وأصبحت الكهرباء نادرة الوجود، وهو ما يتكرر حدوثه الآن.
وتستشهد الكاتبة بما قالته غيدا الحسيني، طبيبتها النفسية السابقة في لبنان والمتخصصة في الشفاء من الصدمات، إنها: “صدمة نفسية جماعية ومعقدة انتشرت في لبنان، لأننا لا نتحدث عن حدث واحد، بل عديد من الأحداث التي عاصرها الناس، أولها الحرب، والضغوط العصبية لفقدان مصدر رزقك، وعدم الشعور بالأمان”.
رسائل تذكير بالتدهور المستمر في لبنان!
تقول الكاتبة: انتظرتُ وصديقتي نادين طيلة حياتنا حتى يعود إلى العاصمة اللبنانية بيروت بريقها الذي كانت تتميز به في عهد آبائنا، ومن عدة أوجه، لا تزال بيروت جذابة ولا تزال على مقربة أن تكون “برلين التالية” – تذكيرًا بالعاصمة الألمانية التي دُمرت في الحرب العالمية الثانية- كما يحلو لمحبي موسيقى الجاز أن يصفوها. وهذا هو السبب الذي يجعل التخلي عنها أمرًا صعبًا جدًّا. واستمرت الحرب الأهلية لمدة 15 عامًا، حتى عام 1990، وقبلت الأمة اللبنانية، بعد تعبها من طول الانتظار، عفوًا شاملًا عن الجناة من أجل تحقيق سلام هش، وشاهدنا قادة المليشيات يستبدلون البدلات العسكرية بملابسهم المخضبة بالدماء ويلعبون أدوار الضحايا ويشرعون في إدارة شؤون البلاد.
أما الآن فنحن نتجرع مرارة الانتظار من جديد، بعدما أساءت النخبة الحاكمة، الذين كانوا مجرمو حرب – بحسب وصف الكاتبة- إدارة شؤون البلاد؛ إذ أدَّت الأزمات المصرفية المستمرة إلى أن تفقد العملة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، كما تملصت هذه النخبة المجرمة من تحمل مسؤولية انفجار مرفأ بيروت البحري في صيف عام 2020. وأسفرت هذه الأزمات المتتالية التي شهدها لبنان إلى أن تكون العائلات مضطرة من جديد إلى تخزين الشموع وألعاب الطاولة، وأصبحت هذه المواد الأساسية رسائل تذكيرية بحرب سابقة، ودليلًا على التدهور الحاصل في البلاد.
وتَستطرد الكاتبة قائلة: أدركتُ لأول مرة كيف يمكن للأنشطة اليومية المعتادة أن تتسبب في تعرُّق الأيدي والضغط على العقول بالذكريات، عندما اقترح صديقٌ علىَّ أنا ونادين ذات ليلة أن نلعب إحدى الألعاب اللوحية، ورفضت نادين: “لا، لا أرغب في فعل ذلك”.
وأخبرتني نادين قائلة إن: “أوراق اللعب والشموع والكشَّافات يشعرونني بهذا الشعور الحزين، لأنه لم يكن هناك شيء آخر أفعله سوى بطاقات اللعب داخل مرآب السيارات تحت الأرض الذي استخدمته عائلتي ملجأً للحماية من عمليات القصف، وأتذكر أنني كنت جالسة على مرتبة عندما كنت طفلة، محاطًة بالشموع، وينتابك شعور بأنكِ حبيسة في ظل عدم وجود تلفزيون أو موسيقى أو كهرباء كما لا يُمكنك الخروج، لأنه أمر خطير جدًّا، وكل ما لديك هو اللعب بالكروت”.
لم ينجُ من الحرب أحد!
نوَّهت الكاتبة إلى أن الحرب لم تستثنِ أحدًا ولم تسلم منها أي فئة (نادين كانت تنتمي للطائفة الدرزية)، ولم ينجُ منها أي طفل دون أن يلحقه الضرر، لكن مثيرات الذكريات السيئة قد تختلف باختلاف الناجين. وأخبرني راؤول شقر، صديقي من أيام الطفولة من إحدى ضواحي بيروت المسيحية، أنه يحب لعبة الكروت، لكن مشهد العذراء مريم هو الذي يطارده.
ويسرد راؤول أنه في إحدى ليالي الحرب الأهلية التي كان فيها القصف عنيفًا، عندما كانت العائلات في منزله يحتمون في بئر السلم (مع نقل أجهزة التلفزيون إلى الأروقة لترقب الأخبار)، كان راؤول يتحول إلى نجمًا لامعًا في لعبة الكروت، تعلم هو وجيرانه الذين لعب معهم أن يحسبوا المدة التي سوف تستغرقها الدبابات القريبة من المبنى لإعادة تعبئة ذخائرهم، وكانوا يلعبون الكروت اللوحية بسرعة قبل أن يبدأ القصف وتتناثر القطع تمامًا. يقول راؤول “كانت الكروت هي كل طفولتي، فكيف أكرهها؟ فضلًا عن أني كنت الأمهر في لعبها”.
وبدأ القصف ذات ليلة، بينما كان راؤول نائمًا، وكانت مائدة الطعام مثبتة بالمسامير على نافذة غرفة نومه لحمايته من القنَّاصة. وصرخت والدته من أجل أن تجده، وهي تبحث عنه بطريقة جنونية حتى عثروا على راؤول، الذي كان يبلغ عمره 5 سنوات، وكان يبكي ويحتضن صورة ذات إطار للسيدة مريم العذراء التي سقطت من الحائط، وكان يدعو الله من أجل إنقاذ حياته، وهذا الأمر تسبب بعد ذلك في إصابته بالتلعثم عندما كان يتكلم.
تنقل الكاتبة عن راؤول، الذي يعيش بين الإمارات العربية المتحدة وبولندا منذ رحيله عن لبنان، قوله “عندما غادرت لبنان، رحلت عنها وأخذت معي تلعثمي فحسب، وهذه هي كل أغراضي التي حملتها معي من لبنان”، مضيفًا “كنتُ محظوظًا، فلم أكبر في لبنان، على الأقل بصورة كاملة؛ إذ كان والدي يعمل في الخارج وكان في انتظار انتهاء الحرب والحصول على فرصة للعودة”.