الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نفور اليسار الغربي من الانتفاضة السورية: نموذج شومسكي 

نفور اليسار الغربي من الانتفاضة السورية: نموذج شومسكي 

21.03.2021
صبحي حديدي



القدس العربي 
السبت 20/3/2021 
على مدار السنوات العشر من عمرها شهدت الانتفاضة الشعبية السورية سلسلة أنماط من المواقف السلبية التي صدرت عن مختلف تيارات اليسار الأوروبي والأمريكي والغربي عموماً، خاصة تلك التي تلتقي غالباً حول شعارات عريضة مثل مناهضة الإمبريالية والتدخل العسكري والعقوبات وما إليها. ورغم أنّ الكثير من القوى الشعبية، خاصة التقدمية واليسارية والديمقراطية، التي انخرطت في الانتفاضة تشترك مع تلك التيارات في الشعارات إياها، فإنّ افتراقاً بيّناً، مذهلاً وعجيباً ومحزناً، دفع باليسار الغربي المشار إليه ليس بعيداً عن مساندة الانتفاضة، فحسب؛ بل قريباً من بعض مواقف النظام وحلفائه الروس والإيرانيين غزاة سوريا، وكذلك ـ وهنا ذروة المفارقة ـ على توافق مع مواقف الإمبريالية ذاتها، ممثلة في الولايات المتحدة تحديداً. 
التيارات كثيرة ومتعددة ومتباينة وليس من أغراض هذه السطور أن تأتي على إحصاء الحدّ الأدنى في تنويعاتها؛ خاصة، كما يتوجب القول، أنّ مرور السنوات العشر تكفّل بتعديل بعضها من دون أن يأتي بتحوّل جذري أو مراجعة نقدية. يكفي مثال واحد هو انقلاب كاتب يساري مثل الباكستاني ـ البريطاني طارق علي من اتهام المعارضة السورية المسلحة (وكان يتحدث من شاشة الفضائية الروسية!) بتنفيذ مجزرة الحولة، أيار/ مايو 2012، التي ذهب ضحيتها 108 أشخاص، بينهم 34 امرأة و49 طفلاً؛ إلى الإقرار، ولكن بعد خمسة أشهر، بأنّ النظام هو الذي يقف وراءها، وأنّ سبب تسرّعه في الاتهام الأوّل كان زمن المقابلة القصير الذي لم يتجاوز ستّ دقائق! سيمور هيرش وباتريك كوبرن وروبرت فيسك كانوا في عداد الصحافيين الأكثر تلقفاً لسرديات النظام، والاجتهاد فيها ولصالحها، حتى أنّ الأخير لم يتردد في امتداح سجون النظام ومعتقلاته التي أفسح له ضباط النظام الفرصة لزيارتها ورصدها والتدقيق في أحوالها من دون أيّ تدخل. 
هذه السطور تسعى، في المقابل، إلى التركيز على نوام شومسكي الغنيّ عن التعريف بسبب مواقفه المناهضة للإمبريالية الأمريكية ومناصرة قضايا الشعوب بصفة عامة، إلى جانب مكانته العلمية العالية في اللسانيات بالطبع. ولعلّ من الخير البدء من المقدّمة التي وضعها لكتاب الصحافي الأمريكي ريز إرليك المعنون "داخل سوريا: القصة الخلفية لحربهم الأهلية وما يمكن للعالم أن يتوقعه" الذي صدر في نيويورك سنة 2014؛ وهو النصّ الأبكر الذي يكشف عن الخطل الكبير في تفكير شومسكي بصدد الانتفاضة السورية: أنها حرب بين العلويين والشيعة في مواجهة السنّة، وهي استطراداً أقرب إلى حرب أهلية منها إلى انتفاضة شعبية؛ وهذا استقراء (إذا جاز وصفه كذلك) قاد شومسكي إلى استنتاجات أكثر انزلاقاً نحو الخطل في مناسبات لاحقة، ستأتي هذه السطور على ذكرها. 
يكتب شومسكي في المقدمة المشار إليها: "في الفصل الخامس يبيّن ريز إرليك أنّ النزاع يبقى بين نظام الأسد وقطاعات رئيسية من الشعب السوري. لكن الحرب أصبحت أكثر تعقيداً بسبب القتال المتزايد بين السنّة، والعلويين، والشيعة، وسواهم، من المجموعات الدينية والإثنية، ودخول مجموعات جهادية ذات أجندات متنوعة على النزاع". وبذلك فإنّ شومسكي لا يختزل تشخيص إرليك فقط (إذْ أنّ الصحافي الأمريكي، في الفصل الخامس المشار إليه، لا يقول البتة إنّ جوهر الصراع يدور حول الأديان والطوائف!)؛ بل ينوس، على غير عادته في التزام الدقّة، بين مصطلحَيْ "النزاع" و"الحرب" متجنباً تماماً أية إشارة توحي بانتفاض الشعب، أو قطاعات واسعة منه، ضدّ نظام استبداد وفساد لا يخفى طابعه على عقل تحليلي بارع مثل شومسكي. 
قد يكون شومسكي النموذج الأبرز في صفوف اليسار الغربي النافر من الانتفاضة السورية، لكنه بالطبع قد يفسح المجال قريباً لآخرين أكثر بروزاً؛ ليس على صعيد مكانتهم وتمكّنهم ربما، بل في مستوى التجاسر على الحقّ والحقيقة 
لافت، إلى هذا، أنّ الفصل الخامس الذي يشير إليه شومسكي يشرح الكثير من العناصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي دفعت السوريين إلى الانتفاض في آذار (مارس) 2011؛ لم يكن في عدادها "قتال" من أيّ نوع بين السنّة والشيعة؛ وأنّ بشار الأسد كان على يقين من أنّ السوريين، على نقيض ما جرى في تونس ومصر واليمن، "لن يثوروا أبداً ضدّ نظام عروبي، معاد لإسرائيل، معاد للإمبريالية". إرليك من جانبه يوضح من دون لبس أنّ "السوريين عاشوا تحت نظام دكتاتوري حيث نقد الحكومة يعني السجن والتعذيب" وأنّ الأسد "لم يسمح بأي أحزاب معارضة فعلية، وأنه عاش في شرنقة سياسية مقتنعاً كلّ الاقتناع بأنه محصّن ضدّ الانتفاضات العربية". في المقابل، يكتفي شومسكي بإطلاق صفة "الوحشي" على النظام، في سنة 2014 للتذكير، أي بعد "حادثة الكيميائي" كما يسميها؛ منتقلاً إلى ما يحلو له انتقاده عادة، أي أكاذيب التدخل الإنساني وسياسات الولايات المتحدة عموماً. 
في مناسبة لاحقة، خلال محاضرة هارفارد 2015، طرح طالب سوري السؤال التالي على شومسكي: هل تعتبر التدخل الروسي في سوريا إمبريالياً؟ كان جواب أحد نقاد الإمبريالية الأبرز أنّ ذلك التدخل ليس إمبريالياً، رغم أنه من الخطأ في نظره أن تقف روسيا إلى جانب "نظام وحشي" مثل نظام الأسد؛ وزاد، أو الأحرى القول إنه استزاد: "إذا هاجمت الأسد فإنك بذلك تقوّي النصرة، فهل هذا ما تريده في سوريا؟"× ثمّ: "سواء رغبت في ذلك أم كرهته، فإنّ نظام الأسد يجب أن يكون جزءاً من التسوية السياسية، وإلا فإنه سيقاتل حتى الموت". ولعلّ الأخطر في تلك الآراء التي تناولت الوضع السوري أنّ شومسكي كدّس كامل مجموعات المعارضة السورية للنظام في سلّة واحدة هي "الجهاد" متمثلاً في "النصرة" المتفرعة عن "القاعدة" ومنذراً بأنها تتلقى الدعم الكامل من السعودية على سبيل جرّ المجتمع السورية نحو الوهابية. 
هل توفرت في داخل سوريا قوى أخرى غير إسلامية أو غير جهادية، ضعيفة كانت أم متوسطة الحضور مثلاً؟ وهل توفرت، على مظانها الكثيرة وأخطائها الفادحة، مؤسسات تخصّ "المعارضة" الخارجية، مثل "الائتلاف الوطني" وقبله "المجلس الوطني" وبعدهما "لجنة التفاوض" وفي الغضون "الجيش السوري الحر" و"الحكومة المؤقتة"…؟ لا يلوح أنّ شومسكي معنيّ بتوظيف هذه المسميات في سياقات ملائمة تليق بعدّته الأثيرة في التحليل والتركيب والاستنباط؛ وكان تنزيه التدخل العسكري الروسي في سوريا عن أيّ بُعد إمبريالي، مقابل قدح أيّ جهد للتدخل الإنساني في الشأن السوري بوصفه مصطلحاً غير موجود أصلاً؛ بمثابة كاشف صريح تماماً حول الأفق الذي يراه شومسكي مناسباً للحلّ في سوريا: فليدع الشعب انتفاضته جانباً، لأنها تأسلمت وانقضى الأمر، وليدخل في تسوية مع النظام ذاته الذي انتفض عليه، ولكلّ مقام مقال! 
وفي مقابلة مع إمانويل ستوكس، على موقع Jacobin، عنوانها "شومسكي ونقّاده" لا يرفض الأخير فكرة "الممرّ الإنساني" أو حتى منطقة حظر الطيران، ولكن هل تنفع في إنهاء النزاع؟ شومسكي يرحّل تساؤله هذا إلى "عارفين" بالشأن السوري (مثل باتريك كوبرن، دون سواه!) مستخلصاً مثلهم أنّ حلولاً مثل هذه يمكن أن تفيد في منطقة واحدة داخل سوريا، هي تلك التي يسيطر عليها الأكراد. وفي بلد تحتلّ أراضيه خمس قوى خارجية (روسيا، إيران، تركيا، الولايات المتحدة، دولة الاحتلال الإسرائيلي) يساجل شومسكي بأنّ خيارات التدخل الخارجي لم تثبت فعالية، ولا توحي بأي معونة في التوصل إلى حلول سلمية. ولكن… كيف يمكن لها أن تفعل أصلاً، حتى إذا شاءت؟ 
وقد يكون شومسكي النموذج الأبرز في صفوف اليسار الغربي النافر من الانتفاضة السورية، لكنه بالطبع قد يفسح المجال قريباً لآخرين أكثر بروزاً؛ ليس على صعيد مكانتهم وتمكّنهم ربما، بل في مستوى التجاسر على الحقّ والحقيقة، من دون رادع في سجلات الماضي أو الحاضر أو المستقبل.