الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نكون أو لا نكون هذا هو الهاجس السوري الوجودي 

نكون أو لا نكون هذا هو الهاجس السوري الوجودي 

14.09.2020
عبدالباسط سيدا



القدس العربي 
الاحد 13/9/2020 
سوريا إلى أين؟ هذا هو السؤال الوجودي الذي يطرحه كل سوري على نفسه وعلى محاوره، بغض النظر عن موقعه الجغرافي، أو موقفه السياسي. وبمعزلٍ عن تصنيفات العقلية النمطية التي تحشر السوريين في الخانات المذهبية والقومية، بل المناطقية وحتى في زواريب الحارات. 
هل ستعود سوريا إلى سابق حدودها التي رسمتها إرادات ومصالح المنتصرين بعد الحرب العالمية الأولى، لتؤكد قدرتها بمناسبة مئويتها الأولى على الاستمرار رغم كل ما تعرضت له من قتل وتهجير وتهشيم؟ أم أن واقع مناطق النفوذ والاحتلالات غير الرسمية سيستمر حتى تتشابك المصالح، وتتشكل قوى من المجتمع المحلي لها مصلحة في استمرار الواقع الراهن، بل وربما تدفع نحو التقسيم أو الالتحاق بدول الجوار، وذلك بعد أن تستعد العقول والقلوب لتقبّل ما كان يبدو عصياً على القبول؟ 
وفي موازاة هذه الأسئلة، يُطرح تساؤل مفصلي، تتمحور حوله الأسئلة الأخرى الفرعية: هل يستطيع السوريون بعد كل الذي حصل أن يتوافقوا على استمرارية العيش المشترك عبر التوافق على القواعد والموجبات والآليات التي تمكنهم من تجاوز أخطر أزمة بنيوية وضعت بلادهم ومجتمعهم في عين العواصف؛ وفتحت المجال أمام القوى الدولية والإقليمية، والميليشيات الوافدة والمحلية لترسم خارطة عمليات سريالية، لم يكن في مقدور أغرب أفلام الاستشفافات المستقبلية أن تتكهن بها؟ هذا ناهيك عن تصور ملامحها التفصيلية التي باتت واقعاً يعيشه السوريون في جميع المناطق التي باتت إدارتها بيد قوى غير سورية، حتى في تلك التي يدعي النظام بأنه يحكمها، ويسيطر عليها، أو في تلك التي يقولون عنها، “المناطق المحررة”. وهي القوى التي تتباحث في ما بينها من أجل التوافق على حلٍ في سوريا يأخذ بعين الاعتبار مصالحها في البلد ذاته، وفي الإقليم، بل وفي الدائرة الأوسع من الإقليم، وذلك بعد أن أصبحت المصالح العارية هي الموجه. 
ومع أن مختلف الأطراف المتصارعة على الساحة السورية تعلن بأنها تحترم إرادة السوريين، إلا أنها في واقع الحال تسلب السوريين كل المقومات التي تمكنهم من أن يكونوا أصحاب إرادة حرة؛ بل إنها في واقع الحال تتعامل مع سوريا وكأنها مساحة جغرافية تمتلك الموارد الطبيعية والموقع الجيو- سياسي المفتاحي في شرقي المتوسط، وهذا ما يعد استمراراً لطريقة تفكير غيرترود بيل التي أسهمت بشكل كبير مع زميلها في أجهزة الدولة البريطانية لورانس قبل مئة عام في رسم حدود الدول الحديثة في المنطقة، خاصة سوريا والعراق. 
فما يجري في وقتنا الحالي، يتقاطع في أوجه كثيرة منه مع ما حدث في المنطقة قبل مئة عام، حينما توافقت الإرادات على تشكيل دول المنطقة، ومن ضمنها سوريا بطبيعة الحال. وتم التوافق بين فرنسا وبريطانيا على تبادل المناطق مراعاة لرغبة الفرنسيين في الحصول على قسط من النفط الذي كانت المؤشرات تؤكد وجوده في المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا الحالية. 
وفي يومنا الراهن، نلاحظ تسابقاً بين الدول المتواجدة على الأرض السورية بقواتها، ومن خلال الميليشيات التابعة لها، وعبر أجهزة استخباراتها، حول وضع اليد على الثروات السورية، من خلال اتفاقيات سواء مع نظام بشار نفسه الذي بات مستعداً للتوقيع على أي تنازل من أجل البقاء، كما فعل مع الوفد الروسي الكبير الذي زاره قبل أيام؛ أو حتى مع قوى الأمر الواقع في مختلف المناطق؛ وكل ذلك بعيداً عن أي احترام لإرادة السوريين وتطلعاتهم. 
وما يستنتج من زيارة الوفد الروسي الأخير إلى دمشق هو أنها كانت لتحصيل المزيد من التنازلات العينية من بشار ثمناً لإبقائه، ولكنها توحي من جهة توقيتها وتشكيلة الوفد بأنها كانت لإبلاغ بشار ومجموعته بالموقف الروسي من موضوع التطورات الجارية، وآفاق الحل الذي تراه روسيا في سوريا؛ وذلك بعد سلسلة من اللقاءات التي عقدها الروس مع مختلف الأطراف المحسوبة على المعارضة، ومع الجانب الأمريكي، والاتصالات المستمرة مع الجانب التركي. ولكن الاعتقاد السائد، بناء على التجارب الطويلة مع المواقف الروسية من القضية السورية هو أن الروس قد اتخذوا من هذه القضية المفتاح السحري القادر على فتح جميع الأبواب أمامهم، سواء مع الدول الإقليمية (تركيا، إيران، إسرائيل)؛ أم مع الدول العربية لا سيما الخليجية منها. هذا إلى جانب اتخاذها ورقة في مساوماتها مع الأوروبيين والأمريكان. 
ولعل هذا ما يفسر حرص روسيا على طرح نفسها بكونها الجهة القادرة على إيجاد حل مقبول للوضوع السوري من ناحية؛ ولكنها في الآن ذاته تستخدم علاقاتها وقوتها، ومعرفتها بالعجز المطلق لنظام بشار، لانتزاع المزيد من العقود والامتيازات في سوريا لتسويقها في الداخل الروسي الذي تتصاعد فيه النقمة على سياسات بوتين، وفساد إدارته. وقد جاءت قضية تسميم المعارض الروسي البارز ألكسي نافالني، ومن ثم الإعلان الرسمي الألماني وعلى أعلى المستويات بثبوت قضية التسميم، لتفتح الباب أمام المزيد من الضغوط الأوروبية على روسيا. كما أن تصاعد وتيرة الاضطرابات في بيلاروسيا نتيجة التشكيك العام في نتيجة الانتخابات التي أعلن بوجبها لوكاشينكو فوزه للمرة السادسة، هو الآخر يرهق كاهل بوتين سواء في داخل منطقة نفوذه الحيوي، أم على صعيد علاقاته مع الأوروبيين. 
ولكن في جميع الحالات تدرك روسيا جيداً بأنها لا تستطيع حسم الموضوع السوري بالكامل من دون توافق مع الجانب الأمريكي الذي يبدو أنه قد اتخذ من موضوع شرقي الفرات، ومن دعمه الضمني- الصريح لتركيا في موضوع إدلب على وجه التحديد، وفي المنطقة الشمالية الغربية من سوريا بصورة عامة، ورقة ضغط يلوح بها من حين إلى آخر في وجه روسيا، ويذكرها بالتوافق العام الذي تم بينهما قبل الدخول الروسي العسكري المباشر إلى الساحة السورية خريف 2015. 
ولكن أمريكا مشغولة حالياً بانتخاباتها، كما أن الموضوع العراقي يستأثر باهتمامها الأكبر، ويبدو أن التوافق مع الجانب الروسي حول مناطق النفوذ ما زال ساري المفعول في خطوطه العامة، رغم التصريحات الاستهلاكية، والمشاحنات الشكلية التي تحدث من حين إلى آخر بين دوريات الطرفين على الأرض في منطقة الجزيرة السورية. فورقة شرقي الفرات باتت جزءاً من أدوات الضغط في الموضوع العراقي، هذا في حين أن روسيا تركز على منطقة الساحل السوري، خاصة بعد ظهور توقعات بوجود النفط والغاز فيها، إلى جانب أهمية موقعها الاستراتيجي بالنسبة لرغبة روسيا في التمدد نحو المياه الدافئة، وبناء العلاقات المصلحية مع دول المنطقة، استعداداً لمتغيرات وتحديات مستجدة على صعيد العلاقات بين القوى الكبرى. 
ولكن بمنأى عن كل هذه التحركات والمماحكات الدولية والإقليمية حول سوريا، ما زال السؤال التالي محافظا على مشروعيته وضرورته: ماذا عن السوريين، غالبية السوريين ممن فقدوا الثقة بالنظام والمعارضة الرسمية؟ هل ما زال في مقدورهم أن يعيشوا معاً بعد مراجعات موضوعية جريئة لكل ما حصل بغية معرفة الأسباب، والعمل على تلافيها عبر معالجة آثارها، والبناء على القواسم المشتركة للانتقال إلى مرحلة جديدة، تضمن المقدمات الفعلية لمستقبل أفضل لأجيالنا المقبلة؟ 
ما نراه في هذا المجال هو أن تجربة مئة عام من العيش المشترك قد أسهمت في تكوين هوية سورية، كان من شأنها أن تكون أكثر تَرُسّخاً واستقرارا وتبلوراً لولا الإيديولوجيات العابرة التي شوهتها من خلال دغدغة العواطف وإثارة العصبيات المتعارضة مع الروحية الوطنية، شعارات استخدمها أصحابها لتجاهل الواقع المعاش. وكانت النتيجة أن تمكن حافظ الأسد في نهاية المطاف من إزاحة كل المنافسين، لينقضّ على الوطن وأهله. ولتسويغ كل أفعاله الاستبدادية أتكأ على  خديعة التوازن الاستراتجي مع إسرائيل، بينما كان في حقيقة الأمر يؤسس لنظام مخابراتي قمعي فاسد مفسد، ظهر على حقيقته بأبشع صورها في موضوع التوريث الذي أدّى إلى جعل سوريا ساحة مفتوحة أمام المشروع الإيراني، ومن ثم أمام المشاريع الإقليمية والدولية التي تتنافس وتتزاحم اليوم على الأرض السورية بمعزل عن إرداة السوريين، ومن دون أي احترام لتضحياتهم وتطلعاتهم. 
النخب السورية من جميع الفعاليات، ومن جميع المكونات، ربما كانت ما تزال قادرة على التواصل والتباحث من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. فالتجربة القاسية التي مر بها السوريون على مدى نحو عشر سنوات قد مكنتهم من معرفة بعضهم بعضاً بصورة أفضل، كما أن هذه السنوات قد بينت زيف وهشاشة المشاريع الغريبة الهجينة التي لم ولن تنسجم يوماً مع الواقع السوري. 
نحتاج إلى المزيد من التعقل والحكمة وبعد النظر، تماماً مثلما نحتاج إلى القطع مع المشاريع الفردية أو الشللية المستعجلة، خاصة تلك التي تتم بإيحاءات من قوى دولية أو إقليمية لم تقدم المساعدة المطلوبة للشعب السوري في ظروف كان في مقدورها أن تفعل ذلك، وبتكاليف أقل. 
أن يقدم السوريون التنازلات لبعضهم، وأن يبحثوا عن الحلول التي من شأنها إنقاذ الشعب والبلد بعيداً عن روحية الانتقام والثأر والتعصب الأعمى بكل أشكاله، هو الأفضل لهم، وأكثر فائدة من أن يتحولوا إلى مجرد أدوات ضغط وبيادق في مشاريع الآخرين التي من الواضح أنها لا تتقاطع مع الألويات السورية الوجودية، وإنما تتمركز حول مصالح وأولويات أصحابها.