الرئيسة \  مشاركات  \  نظام الحكم الديمقراطي: رؤية إسلامية

نظام الحكم الديمقراطي: رؤية إسلامية

02.02.2021
د. صالح المبارك



د. صالح المبارك

1. الديمقراطية تعني "حكم الشعب بالشعب وللشعب" وعملياً تعني نظاماً تختار فيه الأغلبية من الناخبين (من يحق لهم التصويت من الشعب) مسؤوليهم (الرئيس وأعضاء البرلمان وآخرين) كما يكون لهذه الأغلبية الحق في قبول أو رفض قرارات أساسية تتعلق بالشأن العام كالدستور. في معظم القرارات المهمة الأخرى يتم البتّ فيها في البرلمان الذي يُعتبر أعضاؤه ممثلين للشعب باعتبار أن من غير الممكن استشارة الشعب بأكمله في كل شاردة وواردة كما تعطى للمسؤولين سلطة القرارات والبت في الأمور في حدود معينة حسب رتبهم واختصاص عملهم ولكن ضمن الدستور والقانون وبنظام يتيح الشفافية والمحاسبة.
2. نظام الديمقراطية يضمن إجراء انتخابات دورية وحرة ضمن أجواء من المنافسة العادلة بين الأفراد والمجموعات السياسية بما في ذلك حق التجمع وتشكيل الأحزاب وحرية الكلمة. كما يفترض أن يسعى النظام الديمقراطي لمنع محاولات احتكار السلطة أو تشكيل مراكز قوى تهدد مسار الديمقراطية ولهذا حددت معظم الديمقراطيات مدة وعدد الفترات التي يمكن للفرد أن يبقى على سدة الحكم فيها. ومن دلائل الديمقراطية الصحيّة المشاركة العالية للشعب في الانتخابات والاستفتاءات لتعزيز شرعية النتائج.
3. الديمقراطية تقوم على أساس توزيع وتوازن السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية (مبدأchecks and balances) ، والتأكيد على نزاهة واستقلالية القضاء وعدم تبعيته لأي من السلطات الأخرى.
4. مبدأ المراقبة والمراجعة والمحاسبة يسري على التحصيل والإنفاق المالي للحكومة: الرئيس لديه برنامج ورؤية ، والحكومة تطبق البرنامج والذي يحتاج مالاً والمال يأتي من موارد داخلية وخارجية بما في ذلك الضرائب التي يدفعها المواطنون. البرلمان هو الوصي والرقيب على المال وتنفيذ الحكومة للمشاريع والأعمال. مجلس النواب هو الذي يفتح المحفظة ويخرج منها المخصصات اللازمة لتطبيق البرامج ويراقب التنفيذ والإنفاق لمنع الفساد. السلطات كلها مستأمنة على مال الشعب وموارد الدولة ومراقَبةٌ ومحاسبَةٌ فيما تفعل وتنفق.
5. الديمقراطية هي أفضل نظام ابتكره الإنسان وأفضل نظام يمكن أن يجتمع عليه أي شعب... لكنه يبقى بعيداً عن الكمال لكونه إنتاجاً بشرياً ومتنوعاً وكون هذا النظام خاضع لأمزجة وتجاذبات الشعب و "مراكز القوى". لكن النظام الديمقراطي يجب أن يملك آلية النقد الذاتي والتحسين والتطوير والتحديث المستمر.
6. الديمقراطية هي آلية تنظيم للحكم بأقل قدر ممكن من الصراع على السلطة، لكنها ليست ديناً ولا عقيدة (إيديولوجية) فالديمقراطية قد تأتي بأحزاب محافظة أو ليبيرالية ، أو يمينية أو يسارية ، منفتحة أو متشددة، وقد تعمل في دول متدينة أو علمانية أو لادينية أو اشتراكية، قد تعمل في الغرب أو الشرق، في دول استعمارية وامبريالية أو في دول عانت سابقا من الاستعمار كأمريكا اللاتينية.
7. الديمقراطية أنواع وأطياف كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان والثقافة والظروف فديمقراطية بريطانيا تختلف عن ديمقراطية فرنسا وكلاهما يختلف عن ديمقراطية أميركا أو الهند أو كوريا الجنوبية ولذلك فليس هناك مقياس أو نموذج واحد لما يجب أن تكون عليه الديمقراطية. بعض الديمقراطيات جاءت في بلاد كان نظامها وراثياً (امبراطور – ملك – سلطان – أمير) فاختارت إبقاء النظام الوراثي شكلياً وبروتوكولياً لكن السلطة وُضِعَتْ في يد المسؤولين المنتخبين (رئيس وزراء – مستشار) فيما يعرف بالملكية الدستورية علماً بأن الملك قد يستبقي بعض السلطات في يديه.
8. حتى في نفس البيئة فالديمقراطية تتغيّر بتغيّر أمزجة الشعوب فأميركا التي تفخر بأنها ديمقراطية منذ تأسيسها عام 1776 كانت تُقِرّ مبدأ عبودية السود لأكثر من قرن ثم ألغت العبودية واستبدلتها بقوانين التمييز العنصري لأكثر من قرنٍ آخر حتى أتت حركة الحقوق المدنية في الستينات من القرن الماضي وناضلت لسنوات وسقط الكثير من الضحايا وتمَّ إلغاء نظام التمييز العنصري فيما يعرف بوثيقة الحقوق المدنية. لا ننسى أيضا أن أميركا الديمقراطية ومثلها الكثير من الديمقراطيات الغربية لم تكن تسمح للنساء بالتصويت في الانتخابات (ناهيك عن ترشيح أنفسهن) أو امتلاك عقارات حتى بدايات القرن العشرين، كل هذا بقوانين ديمقراطية!
9. بعض الأنظمة طبقت نظاماً ديمقراطياً للنخبة فقط كما كان الوضع في أميركا قبل 1965 وفي نظام التفرقة العنصري البائد في جنوب أفريقيا ، وقد تكون هذه العنصرية مستترة كما هو الحال في دول ترفض منح جنسيتها لمواطنين يعيشون فيها منذ أجيال كي يبقى التصويت لفئة محددة دون فئات أخرى. كما أن هناك دول وضعت كلمة الديمقراطية في اسمها رسمياً لكنها تفتقد الديمقراطية كليّاً مثل كوريا الشمالية والكونغو ولاوس والجزائر ، ودول سابقة مثل ألمانيا الشرقية ، ودول زعمت الديمقراطية وهي عنها بعيدة جدا مثل الاتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو.
10. الديمقراطية تستلزم الدولة المدنية التي لا تهيمن عليها المؤسسة العسكرية أو المؤسسة الدينية سواء بحكم مباشر أو بتنصيب نفسها رقيباً على الديمقراطية بدلا من أن يكون الشعب ومؤسساته المنتخبة هي الرقيب كما هو الحال في إيران وتركيا القديمة. المؤسسة العسكرية في النظام الديمقراطي تكون تابعة للقيادة السياسية وليس العكس أما المؤسسات الدينية فالأفضل أن تكون مستقلة لا تهيمن ولا تتبع فلا تفرض رؤيتها على السلطة كما لا تسمح للسلطة أن تتدخل في آرائها وفتاويها وتنظيم شؤونها.
11. لا ترابط بين الديمقراطية والعلمانية فهناك دول استبداية علمانية مثل الصين وكوريا الشمالية حاليا والاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية سابقا مثلا. وباعتقادي فلن تضيف العلمانية أي قيمةٍ إلى نظام ديمقراطي يؤمّن لشعبه الحرية والكرامة والعدالة والمساواة. قد تلتقي الديمقراطية مع العلمانية في ضرورة كون السلطة لا تتبع أي مؤسسة دينية ولا تفرض ديناً محدداً على المواطنين أو تمنع اعتناقه وممارسة شعائره لكن الديمقراطية لا تقتضي بالضرورة تنافر التشريع مع دين الأغلبية فالدستور (وهو مصدر التشريع) تضعه لجنة برلمانية بما يتوافق مع ثقافتها ، والدين جزء من هذه الثقافة. هنا لا بد من التنويه إلى السياقات التاريخية الحادة التي حددت موقف بعض الديمقراطيات من الدين وهل تم إقصاؤه أم التصالح معه؟ هناك دول مثل فرنسا لجأت إلى كنس الاستبداد بالانخلاع عن الدين وتبني علمانية متطرفة ومتحيزة بينما لم يحدث مثل هذا الصدام مع الدين في أمريكا التي أنشأها أوروبيون هاربون من الاضطهاد الديني في بلادهم ، بل بقي الدين بشكله العام موجوداً وظاهرا مثل عبارة نثق بالله In God we trust على العملة وافتتاح جلسات الكونغرس وغيرها بالدعاء إلى الله.
12. هناك من يُحَمّل الديمقراطية وزر الجرائم التي ترتكبها دول الغرب من استعمار الشعوب ونهب ثرواتها ، وحقيقة الأمر أن الجشع وغياب النوازع الأخلاقية هو ما أدى إلى تلك الكوارث فالاستعمار الأوروبي وُجِدَ منذ مئات السنين حين كانت دول أوروبا كلها ملكية ديكتاتورية ثم تحولت إلى ديمقراطيات ولم تنتهِ الجرائم لكنها خفّت ربما بتأثير وعي الشعوب المستعمَرة وكفاحها وربما أيضاً أدى وجود الديمقراطية في البلاد المستعمِرة لارتفاع بعض الأصوات المعارِضة. الخلاصة أن الديمقراطية "حيادية" من الناحية الأخلاقية فلو طُبّقت الديمقراطية في مجتمع ذي مستوى أخلاقي متدنِّ لاتخذت الأغلبية قراراتٍ لا أخلاقية كما ذُكِرَ في نقاط سابقة ولهذا يلزم وجود ثقافة أخلاقية ورادعٍ أخلاقي ، وباعتقادنا أن الإسلام يشكل أفضل مصدر أخلاقي لذلك. سبب آخر لتلك الجرائم الانفصال (إلى حد التناقض) بين السياسات الداخلية لتلك الدول وسياساتها الخارجية فغالبا يكون تركيز المرشحين والناخبين معاُ على الأمور الداخلية وبالذات الاقتصاد وليس هناك مثال أفضل من المعركة الانتخابية عام 1992 بين جورج بوش الأب (الذي كان يحاول الفوز بفترة ثانية) ومنافسه بيل كلينتون. فبينما كان بوش يفاخر بانتصاره في حرب الخليج 1991 وتحرير الكويت بعد الغزو العراقي ركز كلينتون على الاقتصاد المتداعي وكان شعار حملته (إنه الاقتصاد أيها الغبي it's the economy stupid) وكان الفوز حليفه. هذا الانفصال (بين السياسات الداخلية والخارجية) هو أيضا نتاج لغياب أو ضعف العامل الأخلاقي وتغلّب الأنانية (المهم أن أكون مرتاحا في بلدي وليذهب الآخرون إلى الجحيم).
13. الشورى من مبادىء الإسلام الأساسية وتتشابه مع الديمقراطية في مبدأ أن الحاكم أو المسؤول يستشير الآخرين ويجمع أفكارهم وآراءهم لكن لا يحق له الخروج على الشريعة أو إجماع علماء المسلمين كما أن هناك خلافاً بين الفقهاء فيما إذا كانت الشورى مُلزمة أم لا لكن معظم الفقهاء المعاصرين يميلون إلى أنها ملزمة. أما أهل الحل والعقد فهم أهل الشأن من الأمراء والعلماء والقادة والساسة ووجوه الناس ويكافؤ هذه الفئة حاليا مجموع الحكومة والبرلمان (السلطتان التنفيذية والتشريعية) أما البيعة فيكافؤها الانتخابات في النظام الديمقراطي. قد يقول قائل لكن هناك شروطاً يجب توفرها في أهل الحل والعقد. المشكلة تكمن في أن كثيرا من هذه الشروط يصعب تحديدها وتحديد مَنْ مِنَ الناس أكثر اتصافاً بها وبالتالي أكثر أهلية للمنصب ، فليس هناك طريقة عملية للاختيار إلا صناديق الاقتراع. يقول الدكتور محمد كمال الشريف (باختصار الديمقراطية هي "الشورى اللازمة المُلزمة"، هي الشورى الواجبة على الحاكم، والواجب عليه الأخذ لا مجرد الاستئناس بها. هي شورى مفروضة على الحكومة وليست مجرد تواضع منها، وهي مُلزمة لأن الأمة لا تعطي رأيها ومقترحاتها، بل تُصدر أوامرها وقراراتها. لذا علينا أن لا نتحسس من الديمقراطية، ظانّين أنها تناقض الإسلام ودخيلة عليه. ليس هنالك كلمة عربية أصيلة تترجم كلمة ديمقراطية الأجنبية، فقام الناس بتعريب الكلمة الأجنبية، وبقيت متنافرة لغوياً مع مصطلحات الشرع، وإن كانت في حقيقتها ليست إلا من مبادىء الشرع، فهي "الشورى اللازمة المُلزمة"، أليست الشورى من صميم ديننا الحنيف؟)
14. الديمقراطية ثقافة أولا قبل أن تكون نظاما وقوانين فلا بد من تثقيف وتشجيع الشعب كي يمارسها في الأسرة والمؤسسة والمدرسة والتجمعات الأخرى. التطبيق الرسمي للديمقراطية يجب أن يقرن التعليم والتثقيف بالتطبيق والفرض. هناك قاعدة يتبعها مهندسو الطرق وأنظمة السير ويسمونها قاعدة الـ 3 E’s: Engineer, Educate, Enforce أي صمم (نظاماً جيداً للسير) ثم ثقّف الناس ثم افرضه بقوة القانون. وقديماً قال سيدنا عثمان رضي الله عنه (ونقله ابن قيّم الجوزية): إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن أي أن قوة السلطان أكبر من قوة النصيحة والموعظة ، لكن أفضل النتائج تأتي حين ندمج الأمرين معاً: تعليم وتثقيف مع تطبيق حازم وعادل للقانون.
15. رغم مزايا الديمقراطية ففيها ثغرات خطيرة فقد تتحول (وقد تحولت بالفعل في أكثر من مناسبة) لديكتاتورية الأغلبية وعندها تُداس حقوق الأقليات أو المجموعات التي تخسر في التصويت. لا ننسى أن الديمقراطية أتت بهتلر وقد تأتي بأمثاله: كل ما يحتاج الزعيم الشرير أن يكون ذا شخصية قيادية كاريزماتية وأن يملك المال و الإعلام (القدرة على التأثير في العامة) وعندها يستطيع أن يحرك قطاعا كبيرا من الشعب حسب أفكاره لذلك يجب حماية المجتمع والدولة من هذا الاحتمال لا سيما مع ازدياد شعبية وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي. وقد كادت أميركا تتحرك بهذا الاتجاه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 (أيها المواطن: عليك أن تتخلى عن بعض حريته وخصوصيته لصالح السلطات من أجل حمايته) لكن الأمور عادت إلى نصابها والحمد لله وتذكر الشعب الأميركي قول بينجامين فرانكلين أحد مؤسسي أميركا: أولئك الذين يضحون بحريتهم من أجل سلامتهم لا يستحقون هذه ولا تلك!
16. نظرياً ليس في الديمقراطية ثوابت: هناك أمور يمكن تغييرها بسهولة نسبية باستصدار قوانين جديدة ، وهناك أمور تحتاج لجهد أكبر ولكنها ليست مستحيلة التغيير فهي تحتاج لتغيير دستوري. أحياناً تتواجد "خطوط حمراء" أو ثوابت لبعض الأمم مثل تمسك بعض دول أوروبا الديمقراطية بالملكية ورموزها وتمجيد أتاتورك في تركيا والقوانين الرادعة لمعاداة السامية في معظم الدول الغربية لكن هذه الثوابت قد تتغير مع تغير الأجيال والثقافة السائدة.
17. التعدد العرقي والديني والطائفي والإيديولوجي وغيره سمة من سمات كل مجتمع تقريباً وفي كثير من هذه المجتمعات يحصل تجاذبات بين الشرائح المختلفة حيث تحاول كل شريحة أن تضمن نصيبها من السلطة وربما تغوّلت على الشرائح الأخرى سواء من خلال صناديق الاقتراع أو وسائل أخرى. التساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات أمر أساسي في الديمقراطية الحقيقية بغض النظر عن الانتماءات ولكن يمكن أحياناً وضع عدد محدد أو أدنى (كوتا) لبعض المكونات ضماناً لتمثيلها في البرلمان ، وفي المقابل يمكن أن يصل أحد أبناء المكونات الأقلية إلى منصب الرئاسة ولكن بناء على مؤهلاته وليس بسياسة المحاصصة الطائفية والتي تتعارض مع روح الديمقراطية. في نفس الوقت فلا يمكن في الديمقراطية استثناء شريحة معينة من المجتمع من حقوقٍ أو مناصب معينة ، أو مفاضلتها في الحقوق أو الواجبات.
18. الديمقراطية لا تتنافى مع الحكم اللامركزي حيث يمكن لبعض البلدان أن تعطي نوعاً من الاستقلال الذاتي للأقاليم لكون هذه الأقاليم تختلف في بعض الخصائص فتحتاج بالتالي إلى بعض القوانين والأنظمة المناسبة لها. أميركا مثلا تتكون من 50 ولاية لكل ولاية حاكمها وحكومتها وبرلمانها ولها استقلال في سياستها باستثناء السياسة الخارجية والأمن الوطني والدفاع ، كما أن سياساتها الداخلية يجب ألا تتعارض مع السياسة الوطنية (الفيدرالية).
19. من مقتضيات الديمقراطية الشفافية والإعلام الحر فالإعلام يعتبر السلطة الرابعة (بعد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية) ولا بد من شفافية وحرية تحرك كي يتمكن الإعلام من مراقبة السلطات وكشف أي تجاوزات. بعد ذلك يأتي دور السلطات الرسمية في التحقيق والمحاسبة.
20. للنقابات المهنية والجمعيات الاجتماعية والخيرية والعلمية وغيرها أيضاً دور في ممارسة الديموقراطية والقيام بدورها بالتوعية وحماية حقوق شرائح من المجتمع والتصدي للسلطة التنفيذية أو التشريعية في حال تغوّلها.
21. لعل أجمل ما في الديمقراطية التداولية أو إمكانية انتقال السلطة من شخص لآخر ومن حب لآخر فالوصول إلى السلطة ليس ضماناً للاستمرار فيها فمن يُقَصِّر في الأمانة أو يخونها يتم استبداله بمن هو أفضل منه ، وهناك آليات لهذا الاستبدال: الانتخابات التالية أو العزل حسب الدستور والقوانين المرعية. كما أن معظم الديمقراطيات تحدد مدة الفترة للمسؤول المنتخَب وعدد المرات التي يحق له البقاء في المنصب.
22. ما نتمناه لدولنا العربية والإسلامية هو نمط من الديمقراطية يؤمّن القيَم الأساسية التي يجتمع عليها الشعب (حرية – كرامة – عدالة – مساواة) بشكل يناسب ثقافته ويضمن حقوق الشرائح كلها. وهنا لا بد من التنويه إلى أن التشريع الإسلامي الذي يتخوف بعض الجهلة منه هو أفضل ضامن لحقوق الناس عموماً والأقليات خصوصاً لأنه مستمد من عقيدة دينية فلا يقبل الشطب أو التعديل. وقد طالب الزعيم السوري الراحل فارس الخوري بأن تطبق الشريعة الإسلامية على أنها قوانين وليس على أنها شريعة لأنها في هذه الحال تسري على جميع المواطنين وليس المسلمين منهم فقط.
23. هناك من يعارض الديمقراطية من الإسلاميين باعتبار أن الديموقراطية تتعارض برأيه مع الشريعة الإسلامية أو أنها يمكن أن تعطي الشعب السلطة لمخالفة الشريعة. ردي على هذا الرأي هو:
a. البديل الواقعي للديمقراطية هو الديكتاتورية أو الاقتتال والفوضى وكلاهما مرفوض قطعا فليس لدينا خيار واقعي غير الديموقراطية.
b. لا أعتقد بوجود نموذج محدد تحت عنوان حكم إسلامي رغم وجود أحكامٍ محددة متفق عليها. العدل والحرية والشورى هي أسمى القيم التي نسعى لها ويأمر بها الإسلام ولذلك أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الحبشة (لأن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد) ولذلك أيضاً هاجر رسول الله وأصحابه لاحقاً إلى المدينة المنورة لكن حتى ولو سلمنا أن هناك اتفاق حول نظام حكم إسلامي فكيف نصل إليه؟ هل نفرضه فرضاً على الشعب مما سيؤدي إلى النزاع والاقتتال؟ هذا مرفوض طبعاً لذلك لا يبقى لدينا من طريقة إلا صناديق الاقتراع وهي آلية الديمقراطية الأساسية.
c. الإسلامي يؤمن بأن دين الإسلام هو الفطرة أي أنه لو تم تقديمه بوجهه الصحيح لاختارته الأغلبية لأنه الأقرب إلى فطرتها فلماذا يخشى احتمال أن تصوت تلك الأغلبية على أمر يعارض صريح الشريعة؟ يجب أن تُفتح ساحة العمل السياسي لكل شرائح المجتمع ويكون للإسلامي وغيره الفرصة لتقديم أفكارهم وبرامجهم الانتخابية وسيكون الشعب هو الحكم ، فإن نجح المرشح الإسلامي فسيأتي ببرنامجه بطريقة ديمقراطية وإن فشل فهذا يعني أن لديه مشكلة في الفهم أو الطرح أو البرنامج ، وعلى كل الأحوال على الجميع أن يقبل النتائج مهما كانت.
d. الديمقراطية ليست دينا ولا عقيدة ، والنظام الديمقراطي الذي نريد تبنيه يراعي مصلحة الأمة من دون معارضة لنصٍّ أو رأي شرعي قطعي. هنا يسأل بعضهم: وماذا لو تم إقرار قانون يعارض الشريعة؟ شخصياً لا أتصور بلداً ذا أغلبية مسلمة محافظة تختار أغلبيته قانونا يعارض الشريعة معارضة صريحة ، وهنا تأتي أهمية الحرية حيث تتيح للعلماء والمفكرين والسياسيين المخلصين أن يشرحوا مزايا وعيوب كل قرار مقترح وأن يقنعوا الأغلبية من العامة. علينا أن نؤمن بحرية ومنافسة الأفكار وأن الفكرة الأفضل ستغلب إن أتيح لها من يحملها. ولو أن الدستور (المتبنى أصلا بطريقة ديمقراطية) احتوى على بند يقول إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع فهذا يعني ضمنا ألا يتم إصدار تشريع يتعارض بشكل صريح مع الشريعة الإسلامية.
e. بعض المعارضين لتطبيق الشريعة الإسلامية يقصرون فهمهم لتلك الشريعة بتطبيق الحدود (العقوبات) مع أنها لا تشكل إلا جزءاً يسيراً من الشريعة ومجمل نظام الحكم والجزء الآخر هو قوانين الأحوال الشخصية (زواج – طلاق – ميراث) أما الأمور الأخرى ففي تفاصيلها آراء واجتهادات متعددة. وبالنسبة للحدود فلا يمكن تطبيقها إلا بعد توفير الجو الملائم والظروف المساعدة على هذا التطبيق من عيشٍ كريمٍ للمواطن (سكن وغذاء وطبابة وتعليم وغيرها) بحيث لا يكون للمواطن عذر في ارتكاب الجريمة. وقد تأتي هذه المعارضة للشريعة لتأثّر وانبهار زائد بقوانين الغرب فيجنح البعض إلى نسخ قوانين الدول الغربية حرفيا دون تحليل أو تفكير لملاءمتها لمجتمعاتنا وثقافتنا.
24. ولعل من أهم وأجمل مزايا النظام الديمقراطي المنشود القدرة على التعديل والتصحيح والتحديث فالركائز الأساسية (الحرية – الكرامة – العدالة – المساواة – الشورى) ثابتة لكن القوانين التفصيلية يمكن أن تتغير وتتعدل ضمن آليات الديمقراطية لما فيه مصلحة الشعب.