الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نحو "تسوية تاريخية" لسورية

نحو "تسوية تاريخية" لسورية

03.01.2019
عبد اللطيف السعدو ن


 العربي الجديد
الاربعاء ٢/١/٢٠١٩
ربما تظل التطورات اللافتة التي هيمنت في نهاية العام المنصرف (2018) على المشهد السوري مدار بحث ومراجعة لأمد أطول، خصوصا أن قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالانسحاب من سورية، فاجأ حلفاءه قبل أن يفاجئ خصومه. وقطعا ليس هدفه ترك المنطقة لمنافسيه الروس، أو خصومه الإيرانيين لسببٍ بسيط، أن المنطقة تضم إسرائيل والنفط، وهما العقدتان اللتان تشكلان المحور الأساس للاستراتيجية الأميركية في المنطقة. كما لا يبدو الانسحاب خروجا نهائيا من المسألة السورية، إنما هو استنكافٌ عن عمل يراه الأميركيون هدرا للمال والجهد، وغير مطمئن لمصالحهم على المدى القريب، فضلا عن أن هناك ما هو أكثر أهميةً في استراتيجية أميركا يستدعي التفرّغ له.
اللافت أيضا هنا أن ترامب، وقبل أن يسحب آخر جندي أميركي من سورية، وزع الأدوار على حلفائه الإقليميين، قال لأردوغان: "تركت سورية لك"، التفت إلى حلفائه في الرياض: "عليكم دفع المال فأنتم ذوو ثراء فاحش"، ولم ينس أن يؤكّد من قاعدة عين الأسد العراقية التي زارها بطريقةٍ توحي كأنه يزور واحدةً من ولاياته الأميركية أن قواته سوف تبقى في العراق، وقد يتخذ العراق قاعدةً لشن عمليات داخل سورية، وحتى في المنطقة كلها، ولديه ما يكفي، خمسة آلاف عسكري يوجدون في ثماني قواعد، ولديهم إمكانية الانتشار السريع في أية لحظة!
كانت معظم ردود الفعل على الخطوة الأميركية متأنية يشوبها الحذر والترقب. رحبت روسيا بأمل أن تتوفر أمامها مساحةٌ أكبر للتمدّد في "المياه الدافئة". رأت إيران، وهي تنتظر الخطوات اللاحقة، أن الانسحاب قد يصعّد من حدة المجابهة بينها وبين الولايات المتحدة. لم تجد إسرائيل في القرار الأميركي ما يدعم خططها المستقبلية، لكنها مطمنئة إلى أن شيئا لن  
"وزع ترامب الأدوار على حلفائه الإقليميين تركيا، والسعودية، وزار قاعدة عين الأسد العراقية
مؤكداً بقاء قواته فيها"
يتغير في علاقة واشنطن بها، وهي واثقة من أنها سوف تظل مقيمةً في قلب ترامب الذي يبادلها حبا بحب. سوف تظل عيون تركيا على خصومها الأكراد في شمال سورية وشرقها، وهي تؤكد خططها في مطاردتهم، لكن خطوة ترامب تقرّبها أكثر من موسكو، والمستفيد من التقارب المأمول هو الرئيس بشار الأسد الذي يتوقع أن يلتقط "الماسة الذكية"، ويحاول بسط سلطته على أجزاء مقتطعة من بلاده، الخليجيون، خصوصا السعوديين، غير راضين عن قرار الانسحاب الأميركي الذي فاجأهم، وكانوا يتمنون على الأقل أن يستشيرهم ترامب قبل إعلانه.. ولكن، هل استشار الأميركيون حلفاءهم في الخليج في مثل هذه الأمور مرة واحدة من قبل؟
ماذا يبقى لرجال الإعلام كي يقولوه على هامش الخطوة الأميركية هذه؟ من السهولة أن يكرّر رجال الحكم طروحاتهم بادعاء انتصارهم على مؤامرةٍ كونيةٍ، تقف وراءها الصهيونية وأميركا والقوى الرجعية. ومن السهولة أن يقول رجال الفصائل والحركات المناهضة للحكم، والمنقسمة على نفسها حد التشظي، إن القوى التي راهنوا عليها قد خذلتهم. ومن السهولة أيضا أن يزعم المنخرطون في الصراع من خارج الحدود أنهم كانوا يرومون المساعدة على استقرار سورية، وإدامة وحدة أبنائها، لكن عوامل خارجة عن إرادتهم منعتهم من إكمال الشوط.
مع ذلك كله، ثمّة تغييراتٌ جوهريةٌ كامنة في تطورات نهاية العام، يمكن أن يرصدها المراقب، ويجد فيها ما يزيد في مساحة الأمل في إمكانية التوصل إلى صيغة تسويةٍ للمسألة السورية التي طال أمدها، تتيح التأسيس لحكمٍ انتقالي، يؤكد على وحدة سورية، ويضمن هامشا ديمقراطيا مدنيا مقبولا، يعزّز هذه النظرة عدم قدرة أية قوة داخلية، موالية للحكم أو خارجة عنه أو معارضة له في السيطرة وحدها على كامل المشهد، والدفع بالبلد إلى حال الاستقرار، وكذلك شعور القوى الخارجية المنخرطة في اللعبة بأن الأوان قد حان لإنجاز حلٍّ ما يضمن لهم الحصول على بعض المكاسب. المثير هنا أنه ليست لأية قوة عربية حصة معتبرة في كل هذا التجاذب والتنافس، إذ ينبئ واقع الحال الماثل أن ليس في وسع الدول العربية، مجتمعة أو منفردة، التأثير الفاعل على أي تطور في المسألة السورية، أو غيرها من قضايا المنطقة.
يبقى ما هو أكثر أهمية أن يواجه السوريون قدرهم في هذه الساعة الفاصلة، وأن يفكّر الجميع أن لا شيء ينفع سورية أقل من "تسويةٍ تاريخيةٍ"، تضمن وحدة البلاد وحرية المواطن، وتلك هي المعجزة التي يصبح التمسك بها ضرورةً، عندما تسوء كل الأشياء، وقد ساءت بالفعل!1