الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نبّاشة القبور

نبّاشة القبور

03.06.2019
باسل طلوزي


العربي الجديد
الاحد 2/6/2019
أخيرًا، وفي إطار بحثها عن دور عالمي جديد، بوصفها وريثة الاتحاد السوفييتي "العظيم"، حصلت روسيا على وظيفة جديدة عنوانها "نبش القبور". وتفيد معطيات عديدة بأن هذه التجارة ستكون رائجة في المدى المنظور، خصوصًا إذا كان الزبون إسرائيليا. ويحسب لروسيا أنها نجحت في أول اختبار حقيقي لها، حين عثرت على رفات الجندي الإسرائيلي زكريا باومل الذي قتل في أثناء معركة السلطان يعقوب في لبنان عام 1982، حيث جرى تسليم رفات الجندي القتيل في مراسم عسكرية، بحضور المدير التنفيذي لشركة تجارة الجثث الدولية العابرة للقبور، فلاديمير بوتين، والزبون المميز متسلم الجثة بنيامين نتنياهو.
عمومًا، انتهت مراسم الاستلام والتسليم على وقع موسيقى جنائزية، وعاد الزبون إلى بلده مصطحبًا جثته، ليدفنها في "بلده"، غير أن ما لم يدركه الرئيس التنفيذي الذي ظن أنه قدّم مهر العروس كاملًا، متمثلًا بالجثة، أن الطرف الآخر لا يتعامل مع هذه البضاعة إلا بوصفها جثثًا سياسية، يحاول من خلالها أن يشعر العالم بأن الفرد الصهيوني "باهظ الثمن" حيًّا وميتًا، وهو على استعدادٍ أن يقايض عظامه بأحشاء العالم كله، إن دعت الحاجة.
تلك بضاعة إسرائيل التي تحاول بيعها للعالم، وهي بضاعةٌ سياسيةٌ كما أسلفنا، غير أن أدنى البشر حصافةً يدرك أنها بضاعة فاسدة؛ لأن إسرائيل على استعداد للتضحية بنصف شعبها إن تطلّب الأمر لتحقيق مآرب، ترى أنها في صالح الدولة وبقائها. وهذا المفهوم رافق زعماء الصهاينة، حتى قبل إنشاء إسرائيل، لدفع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين، عبر تفجير بعض أماكن تجمعات اليهود في العالم، كما عمدت أخيرا إلى تزويد جنودها بأجهزة تتبّع إلكترونية لمعرفة أماكنهم في حال اختطافهم، لا لإنقاذهم، بل لقتلهم إذا دعت الضرورة، ما يبرهن على أنها غير معنية بحياتهم، أو جثثهم إن تحولت إلى أشلاء.
ذلك ما لم تدركه نبّاشة القبور الروسية المبتهجة برفات الجندي الإسرائيلي، وهي تهتف: "وجدتها.. وجدتها"؛ ذلك أنها، في الواقع، لا تعرف أن مهر إسرائيل رقم مفتوح النهايات، ما دامت ترى في زعماء الدول العظمى، مثل بوتين وترامب، مطايا صالحة للركوب والحرث ونقل الجثث.
لعل الدهر أزرى بالدب الروسي؛ إذ يكفى بالحضيض دركًا أن نرى روسيا، بكامل عظمتها، تنبش القبور بحثًا عن رفات جنديّ إسرائيلي دفن ذات حرب غابرة في أراضينا، أو لعلها متطلبات التجارة الدولية الجديدة، لا ندري. غير أن ما يفلق القلب حقًّا هو تلك الأثمان الباهظة التي تتكبّدها دولة كانت ترعب العالم، لترضي غانيةً لا ترضى، وهو ثمنٌ تدفعه روسيا من دم جنودها أحيانًا، ولكن بلا جدوى، وليس حادث إسقاط طائرة نقل روسية بخدعة إسرائيلية، ببعيد، حين قتل 15 عسكريًّا روسيًّا كانوا على متنها قبيل هبوطها في قاعدة حميميم السورية.
كان الأوْلى بروسيا أن تبحث عن جثث جنودها هؤلاء، قبل أن تبحث عن جثة جندي إسرائيلي جاء إلى أرضنا من أرضنا المحتلة، غازيًا ليحقق حلم إسرائيل الكبرى، وكان حريًّا بها أيضًا أن تنبش الأرض السورية، بحثًا عن جثث طياريها الذين سقطت طائراتهم وهم يقصفون الشعب السوري، لكنها جثثٌ "غير سياسية"، ولا تصلح للترويج، لأن الوجود الروسي كله في سورية ليس أزيد من تسلل لصوصٍ جاؤوا لحماية طاغيةٍ نبذه شعبه، وثار ضده، ومن ثمّ قد تمنع فلول الخجل الروسي، إن بقيت، بوتين، من البحث عن أشلاء جنوده على الأرض السورية.
أما وقد "طقّ عرق الحياء بأكمله" في جبين الدب الروسي البائس، فلنا أن نتوقع، في قريب غير بعيد، أن تتوسع التجارة الروسية، لتتحول وريثة الاتحاد السوفييتي من "نبّاشة قبور" إلى "نبّاشة قمامة".