الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نافذة لمحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة في سورية

نافذة لمحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة في سورية

20.02.2019
نزار أيوب



جيرون
الثلاثاء 19/2/2019
محاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة (جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم التعذيب)، بما يحقق العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة، مسألة متاحة، متى توفرت الإرادة السياسية لدى الدول. هذا الأمر منوط باستحداث آليات كفيلة بمحاسبة المجرمين، أو تفعيل الآليات المتاحة، تأسيسًا على أن الدولة ملزمة -من حيث المبدأ- بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، ومحاسبة مرتكبيها، في نطاق الأراضي الخاضعة لولايتها. وفي حال تقاعس الدول عن تطبيق ولايتها القضائية على مرتكبي الانتهاكات الخطيرة، كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أو تعذر محاسبة الفاعلين، بسبب النزاعات المسلحة أو الكوارث، أو تقاعس المجتمع الدولي عن مساءلة المجرمين؛ يتعيّن حينئذ تفعيل الدول الأخرى للولاية القضائية الجنائية العالمية، بصفتها الآلية الأكثر فاعلية لضمان المساءلة والحد من الإفلات من العقاب.
 بعد طول انتظار، يبدو أنه بدأت تلوح في الأفق سياسة أوروبية ودولية جديدة لملاحقة من يشتبه في ارتكابهم للجرائم في سورية، حيث إن اعتقال السلطات الألمانية لعقيد سابق في جهاز المخابرات السورية، كان يعمل تحت إمرة العميد حافظ مخلوف، وضابط آخر، بتهمة ممارسة التعذيب بحق مئات المعتقلين السوريين ما بين 2011 و2012، من شأنه أن يرسي قاعدة لفتح هذا الملف، على صعيد دول الاتحاد الأوروبي على أقل تقدير. وما يعزز هذا الاعتقاد تزامن عملية الاعتقال التي نفذها مكتب المدعي العام الألماني، مع إعلان مكتب الادعاء العام في باريس، في اليوم ذاته، عن توقيف شاب سوري يبلغ من العمر 30 عامًا، يُشتبه في تورطه بجرائم تعذيب وجرائم ضد الإنسانية، إبّان كان يعمل في جهاز المخابرات السورية، بين عامي 2011 و2013.
سياسة الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب ملازمة للنظام السوري منذ عقود، وهي تمارَس في حق كل من يتجرأ على إبداء أي من أشكال المعارضة لهذا النظام، ممثلًا بحافظ الأسد وأبنائه، أي “بيت الأسد”، حيث تعرض حوالي 17 ألف شخص من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين للاختفاء القسري خلال الفترة (1980 – 2000)، معظمهم قضى من جراء التعذيب وإساءة المعاملة. وقد استمرت هذه السياسة المنهجية بعد تولي بشار الأسد (خليفة بيت الأسد أو الوريث) السلطة، وتفاقمت مع بدء الاحتجاجات السلمية في آذار/ مارس 2011، من جراء احتجاز أجهزة أمن الدولة (المخابرات الجوية، المخابرات العسكرية، الأمن السياسي، المخابرات العامة) عشرات ألوف السوريين خلال مداهمة أحيائهم ومنازلهم، أو عند عبورهم للحواجز ونقاط التفتيش، أو اعتقالهم من أماكن العمل والجامعات. وقد استهدفت الاعتقالات بشكل أساسي كافة شرائح المعارضة السلمية ممن شاركوا في الاحتجاجات ضد النظام، وناشطي حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين، إضافة إلى كل من لم يبدِ ولاءه للنظام من صحفيين وأطباء ممن عالجوا المتظاهرين، وعناصر من الجيش وأقارب المطلوبين لأجهزة الأمن. وقد انتهجت الأجهزة الأمنية التابعة لنظام بشار الأسد سياسة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية والحاطة بالكرامة والمهينة، على نحو لم يسبق له مثيل منذ عام 1970، داخل مراكز التوقيف وفي السجون والمشافي العسكرية، بحق عشرات آلاف المدنيين ممن قُبض عليهم. وتشير التقارير الدولية إلى أن وتيرة التعذيب ومدته وشدته قد تسببت في وفاة ما يزيد عن 17 ألف شخص من الرجال والنساء والأطفال تحت التعذيب منذ عام 2011 في سجن صيدنايا وحده. ولم تقتصر ممارسات التعذيب بحق السوريين على أجهزة النظام، فقد تعرض المدنيون الذين تختطفهم الجماعات المسلحة (المعتدلة والمتشددة والمصنفة إرهابية) لكافة صنوف التعذيب والمعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، وكانوا يحتجَزون كرهائن في ظروف صعبة وغير إنسانية، ويعانون خلالها نقص الغذاء والدواء ووسائل للتدفئة. وقد شهدت السّاحات العامة عمليات بتر للأعضاء وجَلد وقتل، من قبل (داعش) استنادًا إلى القانون الديني “الشرعي” بدعوى مخالفة فكر الجماعة.
لم يسبق أن تمت محاسبة أي فرد من أجهزة الأمن السورية، على الرغم من سياسة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية التي تنتهجها هذه الأجهزة منذ عدة عقود، والتي تعبّر عن سياسة حكومية مدروسة ومنهجية. كما أن فشل المجتمع الدولي في اعتماد آلية لمساءلة مرتكبي الجرائم في سورية، تمنح مجلس الأمن صلاحية إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية من جراء الفيتو المتكرر، يفرض تفعيل الدول لمبدأ الولاية الجنائية الدولية داخل نطاق الأراضي الخاضعة لولايتها، لتمكين قضائها المحلي من إجراء تحقيقات بالانتهاكات الجسيمة التي ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والتعذيب المرتكبة في سورية.
في كل الأحوال، لا يمكن التعويل على النظام القضائي الرسمي في سورية لعدم استقلاليته، ولكونه غير محايد وغير نزيه، فضلًا عن أن القضاة غير مؤهلين للنظر في الجرائم الخطرة والبت فيها. وبحكم أن سورية دولة طرف في اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الأول، وفي العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، فإنه يتعين على جميع الدول الأطراف في هذه الاتفاقيات إعمال مبدأ الولاية القضائية العالمية، والبدء بالبحث على المتهمين بارتكاب الجرائم في سورية، أيًا تكن جنسيتهم وخلفيتهم السياسية أو الأيديولوجية، وملاحقتهم والقبض عليهم تمهيدًا لمحاكمتهم أمام قضائها الوطني.
الولاية القضائية الجنائية الدولية منصوص عليها في العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، إذ تلزم قواعد اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولها الإضافي الأول لعام 1977 الدول الأطراف فيها البحث عن مرتكبي المخالفات الجسيمة (جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية) أو المشتبه في ارتكابهم لهذه المخالفات أو التخطيط لها، أو إعطاء أوامر بارتكابها، بمجرد معرفتها بتواجدهم على أراضيها، بصرف النظر عن جنسيتهم، ومحاكمتهم أمام محاكمها، أو تسليمهم إلى أي دولة طرف معنية بمحاكمتهم.
الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب لعام 1949 ملزمة، بموجب المادة 146، باتخاذ ما يلزم من إجراءات تشريعية لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يأمرون باقتراف مخالفات جسيمة تتمثل بالقتل العمد، وأخذ الرهائن، والاختفاء القسري، وممارسة التعذيب وتدمير الأعيان والممتلكات المدنية، على نحو لا تبرره الضرورة العسكرية (المادة 147)، وبالتالي ملاحقة المتهمين باقتراف هذه المخالفات، أو التخطيط لها أو التغاضي عنها أو الأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى محاكمة، أيّا كانت جنسيتهم، ولها أن تسلمهم إلى طرف متعاقد آخر لمحاكمتهم. وتتضمن اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمناهضة التعذيب لعام 1984 أحكامًا مشابهة، تُلزم الدول الأطراف بتجريم أفعال التعذيب، واتخاذ الإجراءات اللازمة لإقامة ولايتها القضائية على جرائم التعذيب، واحتجاز مرتكبيها تمهيدًا لمعاقبتهم أو اتخاذ إجراءات لتسليمهم إلى دول أخرى من أجل معاقبتهم.
الواضح أن قيام مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا باعتقال سوريين موجودين على الأراضي الألمانية، قبل عدة أيام، يُعدّ مؤشرًا على توفر الإرادة السياسية لدى السلطات الألمانية، بملاحقة واعتقال سوريين مقيمين على أراضيها، ممن تثار حولهم شكوك في ارتكاب جرائم خطيرة. فهل سنرى مزيدًا من المجرمين خلف القضبان في دول الاتحاد الأوروبي؟