الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نافذة أمل سورية من محكمة ألمانية؟ 

نافذة أمل سورية من محكمة ألمانية؟ 

28.02.2021
الياس حرفوش



الشرق الاوسط 
السبت 27/2/2021 
العدالة لا تعيد الحياة لضحايا النظام السوري، ولا تخفف الآلام التي عانى منها مَن تعرضوا للتعذيب على يد المجرمين الذين يشتغلون عند هذا النظام. لكن العدالة تفتح نافذة للأمل، مهما كانت صغيرة، في أن الجرائم لن تتكرر وأن المسؤولين عن ارتكابها لن يقطفوا ثمار ما ارتكبوه. 
وعندما يقول أحد ضحايا التعذيب في سجون بشار الأسد، تعليقاً على الحكم الذي صدر عن محكمة كوبلنز الألمانية بحق إياد الغريب، إحدى أدوات التعذيب والقتل التي كان يستخدمها النظام السوري: "آمل أن أتمكن من النوم أفضل هذه الليلة، وآمل أن يتمكن الضحايا الآخرون من النوم أيضاً"، فإن هذا الرجل كان يقصد أن غياب العقاب على الجرائم التي ارتكبها هذا النظام يصبح بمثابة مكافأة عليها عندما تبقى من دون محاسبة. 
علق وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس على الحكم الذي صدر بسجن إياد الغريب 4 سنوات ونصف السنة بالقول: إنه أول حكم يصدر بحق أحد المسؤولين عن التعذيب في سجون النظام السوري، كما أنه رسالة لهذا النظام بأن ما ارتكبه لن يبقى من دون عقاب. 
رسالة لهذا النظام؟ من السهل أن ينجرف المرء إلى آمال بعيدة بناء على ما يقوله الوزير. لكن السنوات العشر الماضية من عمر "الثورة" السورية علمتنا أن الإغراق في التفاؤل بشأن ما يؤول إليه انتقاد ممارسات النظام السوري ليس دائماً في محله. فكل الرهانات على عدم قدرة هذا النظام على البقاء في الحكم فوق دماء ما لا يقل عن نصف مليون سوري، فضلاً عن مئات آلاف الجرحى وملايين المهجرين والمشردين، الذين فاق عددهم أعداد المهجرين خلال الحرب العالمية الثانية، ظهر أنها لم تكن مستندة إلى واقع. 
رغم ذلك يسجل لألمانيا ولمحكمتها أنها تجرأت على ما لم يفعله آخرون، معتمدة على مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي يتيح ملاحقة مذنبين بارتكاب جرائم وقعت خارج حدود ألمانيا. انطلقت المحكمة الألمانية من أن هناك قيمة للمواطن السوري، وأن هناك ثمناً يجب أن يدفعه من ارتكبوا الجرائم بحقه. ومع أن الحكم على إياد الغريب لا يتفق مع حجم ما ارتكبه، فإنه يفتح باباً لمحاكمات لاحقة، سيكون الغريب شاهداً فيها، ومن أبرزها محاكمة "معلمه" أنور رسلان، الذي تنتظره عقوبة قد تصل إلى السجن المؤبد، بتهمة تعذيب 4 آلاف سجين قضى 58 منهم تحت التعذيب. 
لم ينقص في أي يوم العثور على إثبات على جرائم نظام بشار الأسد بحق السوريين. ولنقتصر اليوم على الحديث عن الضحايا من السوريين، وتجاوز ما ارتكبه هذا النظام بحق الفلسطينيين سواء في لبنان أو في سوريا، ومخيم اليرموك أفضل شاهد، أو بحق اللبنانيين خلال "وصايته" على هذا البلد التعيس، وما زال عشرات المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية مجهولي المصير إلى اليوم. 
من أبرز الإثباتات، الوثائق والصور التي سربها "قيصر"، المصور في أجهزة الاستخبارات السورية الذي تجرأ على الهرب وبحوزته 50 ألف صورة تثبت أعمال التعذيب الوحشي بحق ما لا يقل عن 7 آلاف معتقل. كان يمكن أن تكون تلك الوثائق كافية لتسبب القلق لهذا النظام على مصيره، لكنها لم تفعل، رغم العقوبات الأميركية التي فرضت بموجب هذا القانون على عدد من كبار المسؤولين فيه. كما كان يمكن للقرارات الدولية التي صدرت ضده، وأبرزها القرار 2254، أن تشكل حافزاً لتغيير نهج القمع والتعذيب، لكنها حتى الآن لا تزال حبراً على ورق. 
والنتيجة أن بشار الأسد باقٍ في الحكم منذ 21 سنة، ويستعد لخوض انتخابات رئاسية تمهيداً لتولي ولاية جديدة لسبع سنوات، وربما لسبع سنوات أخرى بعد ذلك. ويعطل كل السبل أمام عملية الانتقال السياسي للسلطة كما حددها القرار الدولي رقم 2254، وليس سراً أنه يراهن على ترميم علاقات سوريا مع محيطها العربي وعلى إعادة تواصلها مع العالم الخارجي، انطلاقاً من حاجة هذه الدول إلى الاعتراف بالنظام الموجود، في ظل غياب أي بديل. 
يبني النظام السوري حساباته على معطيات كثيرة، عرف كيف يستخدمها خلال مراحل الأزمة السورية، وبالأخص منذ عام 2015، عندما تحول إلى مجرد ورقة في ملعب التفاوض الروسي – الإيراني مع الدول الغربية. كما عرف كيف يوظف الظهور المريب لتنظيم "داعش" وتحويله الرقة إلى إحدى "عواصمه"، ليظهر بمظهر من يقف في صف الحرب على الإرهاب، اعتقاداً منه أن من السهل تسويق نفسه تحت عباءة كهذه. ولم يقصر أصدقاؤه الروس في استخدامها أيضاً للدفاع عنه في أي محفل دولي شاركوا فيه. 
طهران تعتبر كذلك أن نظام الأسد أساسي في "محورها" وترى أن سقوطه يشكل هزيمة لمشروعها ويقطع طريقها إلى وكيلها اللبناني "حزب الله". وموسكو ترى فيه محطة مهمة لقواعدها العسكرية البرية والبحرية ولاستعادة النفوذ الذي كان دائماً مهماً لها في منطقة شرق المتوسط. أما واشنطن فقد تخلت فعلياً عن أي دور في مواجهة نظام بشار الأسد، منذ سقوط "الخط الأحمر" الذي كان باراك أوباما قد هدد به لمنع هذا النظام من استخدام أسلحته الكيماوية ضد شعبه. استخدمت تلك الأسلحة في غوطة دمشق في أغسطس (آب) 2013، ولم يظهر شيء من معالم ذلك الخط، وسارعت موسكو إلى نجدة بشار الأسد من خلال خطة لعب فيها الغش الروسي دوراً كبيراً، وسمحت بإيهام إدارة أوباما بتخلي الأسد عن أسلحته الكيماوية، رغم أن وكالات الاستخبارات الغربية ومفتشي الأسلحة الدوليين ظلوا يشككون في قيام الأسد بإخفاء بعض مستودعات السلاح الكيماوي، مع أنه أعلن التخلي عن هذا البرنامج بشكل كامل، ضمن الاتفاقية التي توسطت فيها روسيا مع الولايات المتحدة. 
ذهب أوباما وجاء دونالد ترمب. ورغم تشدد إدارته في تعاملها مع النظام السوري، فإن قدرته على "الصمود" لم تتزعزع، واستفاد من التقارب بين إدارة ترمب والقيادة الروسية، ما سهل لموسكو دوراً أكثر نفوذاً في القرار السوري. 
يحب المتفائلون بحكم المحكمة الألمانية أن ينظروا إلى عقاب إياد الغريب على أنه عقاب للنظام السوري. تفاؤل لا أظن أنه تماماً في محله. إذ فيما يقبع ذلك المجرم في السجن الألماني، لا يزال بشار الأسد حراً طليقاً، وحاكماً لسوريا.