الرئيسة \  واحة اللقاء  \  موقعة غزة عام 1244م.. هزيمة الصليبيين التي كانت أشد من "حطين" 

موقعة غزة عام 1244م.. هزيمة الصليبيين التي كانت أشد من "حطين" 

19.01.2021
ساسة بوست


ساسة بوست 

الاثنين 18/1/2021 
في قلب القاهرة التاريخية، وفي منتصف شارع المعز تقريبًا، يوجد بناء تاريخي جميل الزخارف، يعرف بقبة السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، حفيد الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي، القائد الرمز، الذي ارتبط اسمه بالانتصار الساحق على الصليبيين في موقعة حطين الفاصلة، وتحرير القدس من الاحتلال الصليبي الطويل. 
ما لا يعرفُه الكثيرون، أن صاحب القبة، نجم الدين أيوب، كان له في ساحات السياسة والحرب صولاتٌ وجولات لا تقل في أهميتها عن أخي جده صلاح الدين، وأن عصرَه قد شهد تحريرًا جديدًا للقدس بعد أن سُلِّمت في عهدِ أبيه الكامل في صفقةٍ سياسية دون نقطة دم، وشهد انتصارًا ساحقًا على الصليبيين كان أعمق أثرًا وأشد خطرًا على وجودهم في الشرق الإسلامي من موقعة حطين. 
وحتى المشهد الأخير من حياة نجم الدين أيوب الحافلة كان مشهدًا استثنائيًّا؛ إذ تُوُفِّىَ الرجل في مدينة المنصورة شرقي دلتا النيل، وهو ينظم جهود الدفاع عن مصر في وجه الحملة الصليبية السابعة شديدة الشراسة، والتي قادها ملك فرنسا المتعصب، لويس التاسع. 
في السطور التالية، نُسَلِّطُ الأضواء على واحدٍ من أبرز الأحداث التي ارتبطت باسم الملك الصالح نجم الدين أيوب، هو موقعة غزة الفاصلة عام 642هـ = 1244م، والتي هزم فيها جيشُ نجم الدين أيوب تحالفًا خطيرًا بين قوات الإمارات الصليبية في ساحل الشام، وخصوم نجم الدين من الأمراء الأيوبيين – أعمامه وأولاد عمومته – في دمشق وحمص والأردن. 
من حطين إلى غزة 
بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي، مؤسس الدولة القوية التي حملت لقب أسرته، وضمَّت تحت لوائها مصر، والشام، واليمن، والحجاز، وبرقة، وأجزاء من العراق والأناضول؛ تعرَّض هذا المشروع الوحدوي البارز لخطرٍ وجودي؛ إذ تمزَّقت الدولة واندلعت الحرب الأهلية بين أبناء صلاح الدين على الحكم، ليؤول العرش بعد سنواتٍ إلى الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي، والذي انتزع الحكم في دمشق والقاهرة عام 595هـ و596هـ على التوالي، واستمرَّت حكومته حوالي عقديْن من الزمن، واتسمت تلك الفترة بالسلام النسبي، سواء مع الصليبيين، أو بين الأيوبيين وبعضهم بعضًا. 
تولَّى الملك الكامل الأيوبي – والد نجم الدين أيوب – الحكم في مصر بعد وفاة أبيه العادل عام 615هـ= 1218م في ظرفٍ شديد الخطورة، فقد احتلَّت قوات الحملة الصليبية الخامسة مدينة دمياط، وكان المخطَّط أن يتقدموا منها إلى القاهرة للقضاء على الدولة الأيوبية في معقلها، ليستطيعوا تحقيق حلمهم باستعادة القدس، وما انتُزِعَ من الصليبيين من حواضر الشام في فتوحات صلاح الدين الأيوبي. 
خلال سنواتٍ ثلاث من المعارك، وبمعونةٍ قدريةٍ من فيضان النيل، تمكَّن جيش مصر بقيادة الكامل من إلحاق الهزيمة بالحملة الصليبية بصعوبة، بعد أن كادت تزيغ الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر إلى حد التفاوض على تسليم القدس للصليبيين مقابل الجلاء عن دمياط! 
ورغم التضامن النسبي بين الأمراء الأيوبيين إزاء خطر الحملة الصليبية على مصر، فقد عادت الشحناء والصراعات للتجدد بينهم بعد رحيلها، بينما سرت الأنباء بأن بابا روما يعد العدة لحملة صليبية جديدة، وذاعت أخبار صادمة عن تفاقم الخطر المغولي في الشرق الإسلامي، واقترابه من العراق. في تلك الأثناء توطَّدت العلاقات بين الكامل وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة في أوروبا، فريدريك الثاني، والذي كلَّفه البابا بشن الحملة الصليبية الجديدة. 
مضى الكامل في صفقة سياسية صادمة رأى فيها مصلحةً لعرشه، وتعزيزًا لموقفه السياسي والعسكري في لعبة العروش المحتدمة في الشرق الإسلامي، فقد اتفق مع فريدريك على أن يُسلِّمَه القدس على ألا يُحصِّنها، وأن يحمي المسلمين بها والمسجد الأقصى، مقابل سلامٍ طويل بين الجانبيْن، وتمت الصفقة عام 626هـ = 1229م، وسرت الصدمة مثل كهرباء عالية الجهد في أوصال البلاد الإسلامية كافة، فلم يتفهَّم أحد تلك المصالح التي تدفع ابن أخي صلاح الدين لتسليم القدس ثمنًا لها دون دماء. 
استغلَّ الكامل الأيوبي الهدنة المؤقتة مع الصليبيين لتعزيز مُلكه في مصر وفلسطين، ولمواجهة غزوات المغول لأطراف الدولة، وكذلك لمحاربة الروم الذين طمعوا في التوسع في شمال الشام. 
لكن الخلافات تفاقمت بينه وبين أخيه الملك الأشرف صاحب دمشق، والذي توفي مطلع عام 635هـ، وخلفه على حكم دمشق وجوارها أخوه الصالح عماد الدين إسماعيل، والذي كان أشد عداوة لأخيهما الكامل حاكم مصر، وأخذ يؤلب باقي الأمراء الأيوبيين بالشام ضد الكامل، فخرج إليه الأخير بجيشٍ كبير من مصر، وحاصر دمشق حتى أخذها، وعوَّض أخيه المهزوم بحكم مدينة بعلبك. لكن الكامل لم يهنأ طويلًا بضم مصر والشام تحت لوائه. 
نجم الدين أيوب.. رحلة السجن والعرش 
بعد أشهر قليلة، تُوُفِّيَ الملك الكامل الأيوبي ابن الملك العادل في دمشق عام 635هـ = 1238م، وتولى الحكم بعدَه ابنه الذي تلقَّب بالعادل سيف الدين، والذي لم يكن حاكمًا قويًّا وقائدًا عسكريًّا بارزًا كأخيه نجم الدين أيوب الذي كان واليًا لأبيه على المناطق الشرقية البعيدة – شمال شرقي الشام، وجنوب شرق تركيا الحالية – وإنما ارتضى أمراء مصر حكم العادل الصغير ليكون ألعوبةً في أيديهم، كما كان لأمه حظوةً عند أبيه الكامل سهَّلت له ولاية العهد. وأوكلَ العادل سيف الدين لابن عمه يونس الملقب بالجواد ولاية دمشق. 
اعترض أحد أبرز الأمراء الأيوبيين وأكثرهم طمعًا في السلطان، وهو الناصر داود حاكم مدينة الكرك الحصينة، على تلك الترتيبات، واستوْلت جيوشه على غرة والساحل الفلسطيني، وحاول التحالف مع الجواد حاكم دمشق ضد العادل، فلما فشل التحالف، حاول تأليب العادل على الجواد. 
كذلك اعترض الصالح نجم الدين أيوب على سلطنة أخيه العادل، وقرر التوجه بجيوشه من الشرق نحو القاهرة، وفيها العشرات من الفرسان الأشداء الذين رباهم على طاعته منذ نعومة أظفارهم، والذين سيكونون نواة دولة المماليك فيما بعد، وهكذا أصبحت حلقةً شرسة من ألعاب العروش على وشك الاندلاع. 
"وَأكْثر من الْعَطاء والبذل، حَتَّى بدَّد فِي مُدَّةٍ يسيرَة مَا جمعه أَبوهُ فِي مدد متطاولة، وَأخذ فِي إبعاد أُمَرَاء الدولة عَنهُ وَقطع رواتب أَرْبَاب الدولة، واختصَّ بِمن أنشأه، فنفرت قُلُوب الأكابر مِنْهُ، واشتغل هُوَ عَنْهُم لانهماكه في شرب الْخمر وَكَثْرَة اللَّهْو وَالْفساد". *تقي الدين المقريزي منتقدًا سياسة العادل الصغير بن الكامل 
ومما أذكى أطماع المُنافسين، تغيُّر نفوس الخاصة والعامة في القاهرة ضد السلطان الجديد، الذي لم يُحسن السيرة، وانصرف إلى الغرق في الملذَّات. 
هاجم الصالح نجم الدين أيوب دمشق في عام 636هـ = 1239م، وانتزعها من الملك الجواد، ثم حاول استمالة عمه الصالح إسماعيل حاكم بعلبك ليسانده في انتزاع مصر، فرفض الأخير. 
استولى الصالح أيوب بعد ذلك على بعض مناطق فلسطين الخاضعة لحكم الناصر داود، فاضطر الأخير للِّجوء إلى خصمه العادل في القاهرة وطلب العون ضد الصالح. وقبل أن نكمل الحديث فيما آل إليه هذا الصراع المحتدم بالشام بين الأمراء الأيوبيين، لا بد أن نتحدث عن أحد أهم مراكز القوة في ذلك العصر؛ الخوارزمية. 
الخوازرمية.. جولات اللعب بالنار 
وَقَوي الْملك الصَّالح بالخوارزمية قُوَّة زَائِدَة، وَعظًم شَأْنُه *المقريزي  
في تلك السنوات، برز إلى سطح الأحداث في العراق والشام فرسان الخوارزمية، والذين كانوا يُعَدُّون بالآلاف، وكانوا من فلول الدولة الخوارزمية القوية التي حكمت أجزاءً واسعة من آسيا الإسلامية قبل أن يدمرها المغول، وكذلك المغامرات العسكرية الطائشة لآخر ملوكها، جلال الدين بن خوارزم شاه، والتي استعدى فيها بعض الملوك المسلمين، ومنهم الأيوبيون. 
أصبح جيش الخوارزمية أشبه بجيشٍ كبير من المرتزقة، وكانوا يمارسون السلب والنهب لتأمين حاجاتهم من الأموال والإمدادات، ولم يستطعْ أي حاكم محلي التصدي لهم أو ترويضهم. 
وقد سبق للصالح أيوب أن تواصل مع الخوارزمية منذ عام 634هـ عندما كان واليًا على المناطق الشرقية للدولة في عصر أبيه، وذلك لكفِّ أذاهم عن مناطقه، وللاستعانة بهم ضد خصومه. 
لكنهم كانوا متقلبي الولاء، وسريعي التغيُّر؛ فهاجموا بعض المناطق الخاضعة له، وتركوه مُحاصَرًا في سنجار شمالي غرب العراق عام 635هـ، لكن نجم الدين أيوب تمكن من استمالتهم بعدما توسَّط بينه وبينهم أحد الفقهاء المرموقين، فهاجموا جيش خصمه ملك الموصل ومزقوه، ورُفِع الحصار الخانق عن الصالح أيوب في سنجار، فكافأ الخوارزمية بإقطاعهم سنجار والرها وغيرها، مقابل أن يدعموه في حربه من أجل الوصول إلى عرش القاهرة. 
أما الخوارزميَّة، فإنّهم تغلّبوا على عدّة قلاع، وعاثوا وخرَّبوا البلاد، وكانوا شرَّا من التَّتار، لا يعفون عن قتل ولا سبي ولا في قلوبهم رحمة. *ابن تغري بردي 
تعرَّضت حملة الصالح أيوب نحو عرش القاهرة عام 637هـ = 1240م، لنكبةٍ مؤقتة؛ إذ استغلَّ عمه الصالح إسماعيل وجودَه في نابلس بفلسطين، واستولى على دمشق، وأسر المغيث بن نجم الدين أيوب، فانفضَّ الكثيرون من حول أيوب، ولم يبقَ معه سوى خاصة المماليك، وبعض الخوارزمية، فاضطر أن يستجير بابن عمه الناصر داود لحمايته. آنذاك لم يكن الناصر على وفاقٍ مع العادل سيف الدين في القاهرة، ورأى أن يضربَه بأخيه الصالح. 
الصالح نجم الدين أيوب في القاهرة! 
تظاهرَ الناصر داوُد بقبول استجارة الصالح، ثم أوعز إلى بعض جنوده بمباغتة الصالح وأسْرِه، فنجح المخطط، وسُجِن الصالح شهورًا في حصن الكرك معقل الناصر، بلغت سبعة أشهر. بينما تحصَّن مماليك الصالح في نابلس، وكانت قوتهم أضعف من حصار الكرك وانتزاع سيدهم من سجنها، فبقوْا يترقَّبون. 
في تلك الفترة، ساوم الملك العادل ابن عمه الناصر داوُد على تسليم أخيه الصالح أيوب إليه في القاهرة مقابل أكثر من 100 ألف دينار. لكن الناصر شديد الطموح في حكم الشام، قام بمناورةٍ جريئة، فأطلق الصالح أيوب وتحالف معه، بعد أن جعله يقسم بأغلظ الأيمان إن نجح في انتزاع مصر من العادل، أن يمنح داود حكم الشام، ونصف خراج مصر، فأقسم له الصالح أيوب مُكرَهًا. 
خرج العادل سيف الدين بجيش مصر لمواجهة قوات الصالح أيوب والناصر داود، لكن خلافًا كبيرًا وقع بينه وبين قادة جيشه بينما كان ما يزال في بلبيس شرق القاهرة، فقاموا بانقلابٍ أبيض ضده واعتقلوه، وراسلوا الصالح نجم الدين أيوب ليتسلم مصر والقاهرة، فتمَّ له الأمر، وأوعز إلى بعض مماليكه أن يقتلوا العادل في سجنه خنقًا، بحيث يبدو الأمر وكأنَّه انتحر! 
أما الناصر داود، فقد منحه الصالح 20 ألف دينار فحسب، وتحلل من قسمه له، بحجة أنه كان قسم المُكرَه، فلا يقع. فوقعت العداوة بين الرجلين، وفرَّ الناصر داود إلى الكرك. 
عزَّز الصالح نجم الدين أيوب حكمه في مصر، واستقدم المئات من المماليك من أصحاب الأصول التركية، وأسكنهم في قلعةٍ جزيرة الروضة بالقاهرة، ولذا عُرِفوا بالمماليك البحرية، وكانوا مقاتلين أشداء، لا يعرفون ولاء لغيره، ولم يكن الصالح يعلم أنه بهذا يصنع تغيرًا فريدًا في تاريخ مصر لقرون سيصبح هؤلاء المماليك فيها هم الرقم الأصعب في المعادلات المصرية والشامية كذلك. 
خلفاء صلاح الدين يسلمون ما حرَّره للصليبيين 
بينما دارت رحى الصراع الأيوبي – الأيوبي، كانت القدس ما تزال في قبضة الصليبيين، والذين حاولوا كسر اتفاقهم مع السلطان الكامل وشرعوا في تحصين المدينة، فاعترض بعض الأمراء المسلمين، وهدم الناصر داود أحد الأبراج التي بناها الصليبيون بالمجانيق، فامتدحه بعض الشعراء. لكن حسابات السياسة ستفرض نفسها فوق كل اعتبارٍ آخر. 
تشكَّل في الشام تحالف أيوبيٌّ كبير معادٍ للصالح أيوب، يتزعَّمه عمه الصالح إسماعيل في دمشق، وابن عمه الناصر داود. وأخذ هؤلاء يعدون العدة لغزو مصر، وشرعوا في التحالف مع الصليبيين في الشام للتقوي بهم في مواجهة الصالح أيوب الذي تتضاعف قوته بمرور الأيام. 
تصاعدت المباحثات بين الطرفين على التنازلات المطلوب منحها للصليبيين مقابل إتمام التحالف ضد الصالح أيوب؛ والذي استغلَّ انتشار تلك الأخبار للتشنيع على خصومه المتواطئين مع أعداء الأمة ضده، لكنه مع ذلك حاول التواصل مع خصومه الأيوبيين لتجنب صدامٍ كبير، والوصول إلى حلول وسط بديلة. 
عام 639هـ، حظي نجم الدين أيوب، بانتصارٍ معنوي في صراعه ضد خصومه الأيوبيين في الشام، فقد وصل إلى مصر واحد من أبرز علماء العصر هو الإمام عز الدين بن عبد السلام، بعد أن نفاه الصالح إسماعيل الأيوبي حاكم دمشق – عم الصالح أيوب – لاعتراضه على مهادنة إسماعيل للصليبيين، وإدخالهم إلى دمشق لشراء الأسلحة من سوقها لمحاربة المسلمين في مصر، ولتحريضه لأهلِ دمشق على الفتك بالصليبيين، وعدم طاعة إسماعيل في تلك الخيانة. استقبل أيوب الإمام الثائر بحفاوة، وقلَّده أحد مناصب القضاء. 
في العام السابق للمعركة 641هـ، تكاثفت المراسلات بين الصالح أيوب، وخصومه الأيوبيين في الشام، وأوشكوا على الاتفاق على اعترافهم بحكمه في مصر، مقابل اعترافه بحكم عمه الصالح إسماعيل لدمشق، على أن يكون لأيوب السيادة الاسمية على كافة البلاد، وأن يُطلق إسماعيل سراحَ الأمير المغيث عمر بن الصالح أيوب، الأسير لديه في دمشق. لكن المفاوضات فشلت في اللحظات الأخيرة، وعادت العداوة للتصاعد بين المعسكريْن لتصل إلى نقطة اللاعودة. 
إثر فشل مفاوضات الصلح بين الأيوبيين، أتمَّ الشاميون تحالفَهم مع الصليبيين، حيث يساهم الصليبيون بالآلاف من فرسانهم، لاسيَّما من فرسان الهيكل والاسبتارية – أقوى فرسان الصليبيين وأكثرهم تعصبًا – في الجهود الحربية ضد الصالح أيوب، مقابل تسليمهم معظم المناطق التي انتزعها منهم صلاح الدين الأيوبي قبل 50 عامًا بعد حطين، مثل طبرية وعسقلان والعديد من الحصون، وكذلك تسليم القدس بالكامل للصليبيين، مع أن الاتفاق مع الكامل الأيوبي كان على استثناء منطقة الحرم القدسي وتركها للمسلمين. فاحتفل الصليبيون في القدس، ودنَّسوا الحرم القدسي وشربوا الخمر فوق قبة الصخرة. فاستفزَّت تلك الأنباء مشاعر المسلمين، لاسيَّما في مصر. 
وصل المنصور الأيوبي حاكم حِمص إلى مدينة عكا، عاصمة الوجود الصليبي في الشام آنذاك، وأتمَّ الاتفاق مع الصليبيين، وخرج بصحبة الآلاف منهم جنوبًا في الطريق إلى مصر، ولحق بهم الآلاف من قوات الصالح إسماعيل من دمشق، وقوات الناصر داود من الكرك، وعسكرت القوات المشتركة في غزة، التي زحف نحوها جيش مصر بقيادة كبير مماليك الصالح، ركن الدين بيبرس الصالحي (وهو غير الظاهر ركن الدين بيبرس الشهير). 
إزاء الموقف العسكري الخطير، قرَّر الصالح أيوب استخدام ورقته الرابحة المُحرقة، فأرسل إلى الخوارزمية في الشرق أن يعبروا نهر الفرات ويزحفوا إلى الشام لدعمه، ووعدهم بالأموال الطائلة، وبالإقطاعات الكبيرة في الشام بعد الانتصار، فخرجوا بالآلاف من فرسانهم، واندفعوا كالسيل نحو فلسطين، لكنهم أعملوا السلب والنهب في كل ما طالته أيديهم في الطريق. 
علم الخوارزمية بخلو القدس من المدافعين عنها من الصليبيين لخروج معظمهم في الحملة على مصر، فاقتحموا القدس، وأعملوا السيف فيمن بقي بها من الصليبيين، وخربوا كنائسها، وأحرقوا جثث القتلى من الصليبيين، ثم توجهوا جنوبًا إلى غزة ليلتحموا بالجيش المصري. وبدا أن غزة على موعدٍ مع معركةٍ تاريخية حاسمة ستحدد مصائر المنطقة لعقودٍ وربما لقرون. 
موقعة غزة 1244م.. حطين المجهولة 
اكتملت في غزة حشود الحلف الأيوبي الشامي – الصليبي، وكذلك تراصَّت صفوف الجيش المصري وقوامه الرئيس من مماليك الصالح أيوب، وانضمَّ إليهم ما يقارب 10 آلاف من الخوارزميين. 
قاد الجيوش الصليبية الكونت والتر الرابع أوف براين، حاكم يافا وعسقلان، وضمت كما ذكرنا الآلاف من أشرس الفرسان الصليبيين وأكثرهم تنظيمًا وتعصبًا، لاسيَّما من فرسان الهيكل، والاسبتارية، والألمان. وكانت ميمنة الجيش من الصليبيين، والقلب لجيش المنصور صاحب حمص، والميسرة لقوات الناصر داود. 
هجم الفرسان الخوارزمية كالصاعقة على القلب، فكسروا قوات المنصور، وقتلوا منها المئات، وبدأت الميسرة كذلك بالتضعضع تحت وطأة السيل الخوارزمي، وبدا كأنَّ الكثير من الجنود المسلمين قد انكسرت همَّتهم سريعًا؛ إذ كانت المعنويات متضعضة لكونهم يحاربون إخوانًا لهم في الدين تحت راياتِ الصليبيين. 
بعد انكسار معظم الجند المسلمين، استدار الخوارزمية والمماليك بكامل قوتهم إلى الصليبيين، فأعملوا فيهم الطعن والضرب، حتى أفنوا الآلاف منهم، ولم ينجُ من الصليبيين في تلك المعركة من القتل أو الأسر إلا بضع مئات. 
قدَّرت بعض المصادر التاريخية عدد قتلى جيش التحالف الشامي – الصليبي، بما يقارب 30 ألفًا. ومثلت تلك الهزيمة ضربة قاصمة للوجود الصليبي في الشام؛ إذ عجز الصليبيون في الشام في العقود التالية عن حشد قواتٍ هجومية مؤثرة، واكتفوا بالدفاع عمَّا بقي بحوزتهم من الحواضر والحصون. 
في القاهرة، أقيمت الاحتفالات الهائلة لأيام مع وصول أخبار النصر، وأجري استعراض كبير للغنائم وللأسرى ورؤوس القتلى من الصليبيين. واستغلَّ الصالح نجم الدين أيوب الانتصار في غزة، واستعاد معظم فلسطين، وعزَّز وجوده في القدس. 
ثم توجَّهت القوات المصرية والخوارزمية لحصار دمشق، معقل عم الصالح وخصمه الصالح عماد الدين إسماعيل، فشددوا الحصار عليها، وفشلت محاولات إسماعيل لتوسيط الخليفة العباسي بينه وبين ابن أخيه الصالح نجم الدين أيوب، فاضطر إسماعيل لتسليم دمشق والفرار إلى بعلبك، لتعود الوحدة بين دمشق والقاهرة لأول مرة منذ أواخر عهد الكامل الأيوبي. 
ومن أغرب المفارقات، أنه بعد أقل من عاميْن من انتصار الصالح أيوب في غزة بفضل الخوارزمية، وقعت العداوة بينه وبينهم؛ إذ لم يفِ لهم الصالح بالكثير مما طمعوا فيه، فاستولوا على بعض المدن الخاضعة له في فلسطين، وراسلوا عدوه وعدوهم السابق الصالح إسماعيل للتحالف معه ضد أيوب، وحاصروا دمشق لانتزاعها من الصالح أيوب. 
لكن الكثير من الشاميين كانوا قد ضاقوا ذرعًا بالخوارزمية وبطشهم وتقلباتهم، فتشكَّل تحالف مضاد للخوارزمية، يقوده المنصور أمير حمص – الذي كان يقود قلب جيش التحالف الشامي الصليبي في غزة، وكسره الخوارزمية – وأمير حلب، واصطدموا بالخوارزمية قرب دمشق، وهزموهم هزيمة شديدة، وقتلوا قائدهم بركة خان، فتمزَّقت قوتهم إلى الأبد، واحتفل الصالح أيوب في القاهرة بالقضاء على حلفائه الألدَّاء، وتصالح مع أميري حلب وحمص إلى حين، وثبت مُلكه في مصر والشام. 
ما بعد غزة.. إلى المنصورة وما وراءها 
في أجواءٍ تشبه ما تلا حطين قبل أكثر من نصف قرن، تلقَّت أوروبا بصدمةٍ بالغة أنباء الهزيمة الصاعقة في غزة، والخسارة الثانية لبيت المقدس. وبدا أن ما بقي من الوجود الصليبي في الشرق الإسلامي مُهدَّد بالإفناء العاجل… إذا لم تدفع القوى الأوروبية بحملةٍ صليبية جديدة كالتي قادها ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد بعد انتزاع صلاح الدين للقدس، ونجح فيها في استعادة العديد من المواقع التي فقدها الصليبيون في الساحل الشامي. 
تصدَّى لتلك المهمة ملك فرنسا لويس التاسع، الذي ذاع صيته في أوروبا بتدينه المتعصب للكاثوليكية، وكان الهدف هو قطع رأس العالم الإسلامي آنذاك، وهي مصر، قاعدة دولة نجم الدين أيوب الذي جدد الخطر الصلاحي، وأعاد توحيد مصر والشام. 
وهكذا بعد أقل من سنواتٍ خمسٍ من هزيمة غزة، كانت سفن الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع بنفسه، تداهم مياه ميناء دمياط، الثغر البحري الأهم لمصر آنذاك، ويرسل رسالة تهديد سافر إلى نجم الدين أيوب وأمراء مصر، ينذرهم بمصير المسلمين في الأندلس وجزر البحر المتوسط التي كان الصليبيون الإسبان ينتزعونها في تلك الأثناء، ويتركون المسلمين الذين سكنوها لقرون بين قتيل وجريح وأسير ومُستَضعَف ولاجئ. 
بدت الأمة الإسلامية في تلك الأثناء في وضع لا تُحسَد عليه، وأعداؤها ينقصونَها من الشرق – المغول – ومن الغرب – الإسبان – ويستهدفون القلب في مصر، ولكن العقود  التالية ستشهد انقلابًا تاريخيًّا يغير الكثير في تلك الخارطة، وستكون البداية مع سقوط لويس التاسع أسيرًا في قبضة أمراء مصر الجدد، المماليك، بعد فشل حملته الصليبية الهادرة فشلًا ذريعًا، ولكن لتلك الأحداث جولات أخرى.