الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مفهوم الأمة في الفقه السياسي الإسلامي

مفهوم الأمة في الفقه السياسي الإسلامي

23.07.2017
د. رحيل محمد غرايبة


الدستور
السبت 22/7/2017
ربما يكون المفهوم الأكثر أهمية وقوةً وأثراً والأكثر غياباً وتجاهلاً في الفقه السياسي هو "مفهوم الأمة" بمعنى المفهوم الجمعي في فلسفة بناء الدولة والمجتمع والسلطة؛ القائم على صهر المجتمع كله في إطار القيم الكبرى التي تجعل العيش المشترك يستند إلى مرجعية قيمية عليا، والتي من شأنها تسهيل الحياة واستقرارها وتنظيم التعامل المشترك بين الأفراد والجماعات، وتشكل منطلقاً للتشريع بكل مستوياته ودرجاته، من أجل تحقيق أكبر درجات الرضى الجمعي على أعمال الإدارة العامة ونشاطات السلطة الحاكمة.
مفهوم الأمة يتأسس على خطاب الجماعة والخطاب العام الذي جاء يخاطب المجتمع بجميع أفراده ومكوناته بصيغة العموم في جميع التكاليف والذي يظهر من خلال اتباع منهج الاستقصاء في البحث، بما فيها التكاليف الفردية مثل قوله تعالى: " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ"،،، "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ "،،،" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ "،،، " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ "،،، " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ "،،، وهذا يبنى عليه مفهوم فلسفي عميق، أن المجتمع يتكافل في حمل المسؤولية المشتركة في تنفيذ الخطاب وأداء التكاليف، بحيث يكون الإسلام  تحت وصاية الأمة كلها، ولم تعط الوصاية عليه لفرد أو عائلة أو فئة أو حزب أو جماعة أو شعب أو عرق بعينه.
 هذه الفلسفة الجمعية كانت واضحة أشد الوضوح في مرحلة النبوة ومرحلة الخلافة الراشدة، وتعاملوا مع شأن السلطة واختيار الحاكم بناءً على هذا المفهوم، فعندما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: "لقد مات نبيكم محمد، ولا بد لهذا الأمر من يقوم به، فهاتوا آراءكم..." مما يدل دلالة واضحة أن أمر اختيار الحاكم منوط بالأمة كلها، وكلهم شركاء بهذا الشأن على قدر المساواة، ولو كان الأمر منوطاً بفرد  بعينه أو قبيلة معينة أو فئة محددة  لما كان هناك حاجة للاجتماع ابتداءً ولا للاختلاف والجدال وتبادل الرأي والأخذ والرد بين المهاجرين والأنصار كما نقلت كتب التاريخ والسير والأحاديث، وقد تجلى هذا المفهوم الواضح بكل محطة من محطات الاختيار للحاكم في العصر الراشدي، فعندما جعل عمر بن الخطاب الأمر بين ستة مرشحين (علي وعثمان، وسعد وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام)، واتفقوا جميعاً على توكيل عبد الرحمن بن عوف في مسألة استطلاع رأي المجتمع قام به خير قيام، فبقي ثلاثة أيام بلياليها يطوف على الناس وعلى البيوت بيتاً بيتاً، وعلى النساء في خدورهن يسألهم جميعاً: هل تريد عليا أم عثمان، ثم أعلن نتيجة الاستفتاء العام في المسجد أمام الناس جميعاً، عندما قال : لقد رأيت الناس لا يعدلون بعثمان أحداً ..، ويتضح هذا المفهوم على لسان علي بشكل حاسم  بعد مقتل عثمان، عندما جاءه الثوار يعرضون عليه البيعة، قال لهم: هذا الأمر ليس لكم، هذا الأمر لعامة المسلمين، اذهبوا إلى أهل بدر...
من هذه المقدمة المختصرة يتضح تماماً مفهوم فلسفة السلطة والحكم في الفقه السياسي الإسلامي يقوم على الخطاب الجمعي العام، وأن الأمر منوط بعامة أفراد الشعب، وعليهم أن يبتكروا الوسيلة العملية التطبيقية التي تعبر عن هذه الفلسفة، وعن هذا المفهوم في كل عصر وفي كل مكان بحسب أدوات المعرفة المتوافرة، وبحسب أسلوب التعرف على الرأي الجمعي بنزاهة وشفافية وعدالة مطلقة تبتعد تمام البعد عن كل أساليب الظلم والقهر، وتبتعد عن استخدام العنف والقوة في تزييف إرادة الأمة، ومن هنا يتضح تمام الوضوح بطلان أي وسيلة في الوصول إلى السلطة أو اعتلاء سدة الحكم بغير إرادة الأمة الصحيحة، الخالية من كل عيوب الرضى التام الذي لا تشوبه شائبه، ولذلك لا يجوز اصباغ الشرعية على ولاية المتغلب، أو على إمامة القهر والغلبة، ولا على كل أساليب حصرالإمامة أو  الخلافة في الوراثة لأنها تناقض قاعدة (السلطة للأمة) مناقضة صريحة تبطل الشرعية وتنسف قاعدة اختيار الحاكم المعتمدة بإجماع الأمة عند جميع مذاهب أهل السنة والمعتزلة والأباضية.
وما تم بعد ذلك من طرق الحصول على البيعة تحت قائم السيف والتهديد بالقتل، أو من خلال مصادرة إرادة الأمة الجمعية في اختيار حكامها؛ يشكل انحرافاً خطيراً في المسار السياسي الفقهي منذ عهد معاوية عندما جعل الأمر لابنه يزيد، وتوالى تطبيق هذا العرف في الفرع المرواني ثم آل العباس وكل من جاء بعدهم، لأن ذلك يعد مخالفة صريحة لقاعدة أساسية من قواعد الحكم وأصلاً  ثابتاً من أصول إدارة الدولة في الفقه السياسي بلا أدنى ريب، وبقيت الأمة تدفع الثمن الباهض في كل مراحل تاريخها.
آن الأوان لوضع حد لهذا الانحراف الخطير في تطبيق قواعد الحكم في الفقه السياسي على مستوى الأمة العربية في كل أقطارها، وعلى الامة العربية أن تتعاضد بكل مكوناتها من أجل إعادة بناء الدولة على أساس إرساء حق الأمة في اختيار أصحاب السلطة، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، واختيار حكوماتها، من خلال الانتخابات الحرة والاستفتاءات الشعبية المنظمة القائمة على العدل والمساواة والشرعية الوطنية.