الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من يستقر على رأس الشرق الأوسط… عمامة الخلافة أم قبعة الخواجه؟ 

من يستقر على رأس الشرق الأوسط… عمامة الخلافة أم قبعة الخواجه؟ 

10.09.2020
إبراهيم نوار



القدس العربي 
الاربعاء 9/9/2020 
بعد أكثر من مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى، تجد منطقة الشرق الأوسط نفسها ساحة لمشاهد صراع بين تيارات الخلافة الإسلامية السابقة، وأحفاد الخواجات القدامى، الذين كانوا قد رحلوا عن المنطقة منذ زمن. المشهد المأساوي الذي نراه الآن في شرق المتوسط والخليج وشمال افريقيا والقرن الافريقي، يخبرنا أن مئة عام من تاريخ شعوب هذه المنطقة ضاعت هباء، وكأن التاريخ لم يتحرك ولو قليلا إلى الأمام، حيث يتصارع الأتراك والإيرانيون والإسرائيليون والفرنسيون والروس والأمريكان على قيادة المنطقة. 
المشهد يخبرنا أن مئة عام من "الحكم العربي" هي كالعدم، وربما تكون أسوأ، لأنها أوقعت المنطقة في (غيبوبة تاريخية) وصادرت السياسة، وفشلت في كل اختبارات التغيير الرئيسية، ولقنت شعوبها دروسا مريرة، تنهى عن مجرد التفكير في التغيير والثورة، وتفرض منطق أن الرضا بالواقع، والقبول بالانحطاط، هما أحسن الخيارات، وأفضل طرق الأمان. 
 
اللانظام الإقليمي العربي 
 
منذ ظهور الدولة العربية بمعناها الحديث، بعد سقوط الخلافة العثمانية، باستثناء مصر التي كانت ترتبط بدولة الخلافة بعلاقة إسمية فقط منذ عام 1840، أشرفت القوى الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا،على إقامة نظام إقليمي يضمن استمرار مصالحها في المنطقة الناطقة باللغة العربية، على اختلاف شعوبها، بعد أن نجحت بالتعاون مع الشريف حسين وأبنائه في تأسيس تيار عروبي، بدءا من جمعية "العربية الفتاة" في باريس، إلى الجيش العربي الذي قاتل مع الإنكليز والفرنسيين في شبه الجزيرة وسوريا الكبرى والعراق، في الوقت الذي كانت فيه شعوب أخرى في المنطقة مثل، المصريين والجزائريين تناضل ضدهم. وهذه مفارقة كبيرة في تاريخ المنطقة. 
ومع أواخر النصف الأول من القرن العشرين وقعت حرب فلسطين عام 1948، وهي الحرب التي بدأت من خلالها عملية بناء وتطوير هويتين نقيضتين، واحدة للتيار العروبي، وثانية ليهود إسرائيل، يرتبط وجود أي منهما بنفي وجود الأخرى. وخلال العقود التالية للحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، تم تكريس الخطاب السياسي العربي في اتجاه "نفي" الهوية الإسرائيلية، وليس في اتجاه بناء أسس هوية عربية سليمة. بمعنى آخر فإن الخطاب العروبي (البعثي والناصري) في النصف الثاني من القرن العشرين كان بالأساس خطابا سلبيا عدائيا ضد إسرائيل، ولم يكن فعلا إيجابيا يخدم بناء مقومات الهوية العربية، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا. بل إن الخطاب السياسي العربي بشكل عام، بصورتيه "التقدمية" التي تصدرتها القاهرة وبغداد ودمشق والجزائر، و"الرجعية" التي تصدرتها الرياض وعمّان والرباط، كان خطابا يقوم على مصادرة السياسة، وتأكيد استبداد الدولة، وتهميش المجتمع والأفراد إلى الحد الأدنى؛ وبهذا اشتركت "الدولة العربية" بطرفيها التقدمي والرجعي في الغايات والأهداف، على الرغم من تناقض الواجهة السياسية، وهذه مفارقة ثانية في تاريخ الدولة العربية. 
 
مئة عام من "الحكم العربي" هي كالعدم، وربما تكون أسوأ، لأنها أوقعت المنطقة في (غيبوبة تاريخية) وصادرت السياسة 
 
وقد أدى تناقض الخطاب السياسي بين الدولة "التقدمية" والدولة "الرجعية" إلى نشوب "الحرب الباردة العربية" التي بلغت ذروتها خلال حرب اليمن في الستينيات، ثم انتهت بالمصالحة السعودية – المصرية الشهيرة في مؤتمر قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم، بعد هزيمة 5 يونيو. هذا المؤتمر سجل رسميا تحول مصر من دولة مانحة إلى دولة متلقية للمعونة، كما سجل بداية الصعود الإقليمي للدولة القبلية – الدينية. وعلى الرغم من التماسك الظاهري في العلاقات العربية – العربية حتى حرب أكتوبر 1973، فإن التطورات التي تلت الحرب كشفت عن الشقوق العميقة بين المعسكرات العربية المختلفة، في ظل حالة "اللانظام الإقليمي" ما أسفر عن صراعات جديدة، ما تزال مستمرة حتى الآن. كذلك أدت هذه التطورات، بما فيها فشل ما سُمّي "ثورات الربيع العربي" إلى تكريس الطابع الاستبدادي للدولة، واستمرار فشلها في الاختبارات الاستراتيجية الرئيسية، بما في ذلك اختبار "نفي إسرائيل" أو "إسترجاع فلسطين" الذي كان واحدا من أهم أركان مشروعية الدولة العربية بعد الحرب العالمية الثانية. 
وسط حالة (اللانظام الإقليمي) وتشوهات الهوية السياسية، وفشل الدولة العربية في اختبارات الوجود الأساسية، وجد تيار الخلافة الإسلامية، أو (السلفية الدينية – السياسية) طريقا يسير فيه، لمحاولة القفز بالمنطقة كلها إلى الماضي من جديد؛ فتأسست دولة للخلافة الإسلامية في داخل العراق وسوريا منذ عام 2014، وحاولت وما تزال تحاول التمدد في مناطق أخرى، وسط تجمعات المسلمين. ونستطيع بسهولة أن نرصد تسلل تيار الخلافة برا وبحر وجوا إلى داخل العراق وسوريا وليبيا ومصر والسودان والصومال واليمن وغزة ولبنان، بالإضافة إلى جذوره في بلدان مثل السعودية وإيران وتركيا، ونفوذ تنظيماته غير الحكومية مثل "القاعدة" و"داعش" و"جند الخلافة" و"أنصار السنة" و"أنصار الله" و"حزب الله" و"جند الله" وغيرهم. ويعبر هذا التيار عن نفسه بأشكال سياسية مختلفة، من خلال السياسة الرسمية لبعض الحكومات، ومن خلال التنظيمات غير الحكومية التي ترفع أعلام الخلافة بألوانها التي تروق لكل منهم، حسب مذهبه وهويته السياسية، من الأسود إلى الأخضر إلى الأحمر إلي الأصفر! 
 
مظاهر فشل الدولة العربية 
 
إن مرحلة (الحكم الوطني) في تاريخ الدولة العربية فشلت في اختبار الديمقراطية، وبدلا من أن تنتج دولة حيوية ناهضة، ترتبط بعلاقة صحية بالمجتمع، فإنها أنتجت الدولة الفاشلة، واستبداد الحكام، وانسداد قنوات التجديد السياسي، ومصادرة السياسة بشكل عام. كما فشلت في اختبار التنمية؛ فعجزت عن توفير الغذاء، ومكافحة الفقر، وتوفير فرص العمل الملائمة، كما أدت إلى غلبة السياسات الريعية والجبائية، وانهيار التعليم، وخنق إمكانيات التجديد التكنولوجي. وفشلت حتى في اختبار المحافظة على الحدود، ووحدة أراضي الدولة في العراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، واليمن، والسودان وليبيا والصومال. وتحتفل الآن الحكومات العربية بفشلها المدوي في اختبار حل المشكلة الفلسطينية، وفي اختبار مواجهة فيروس كوفيد – 19. ومن المنطقي أن يؤدي الفشل في اختبارات الحكم والتنمية والقوة وغيرها إلى خلق فراغ يقدم إغراء لقوى خارجية بالتدخل لملئه، وهو ما يفسر تقاطر ورثة قوى تقليدية قديمة على المنطقة العربية، التي تعاني أيضا من تشوهات الهوية، والتخبط في العلاقات بين شعوبها. 
روسيا تريد استعادة شرفها القيصري الذي انتهكته ثورة البلاشفة حين أعلنت الخروج من الحرب العالمية الأولى، ومن ثم أضاعت فرصتها في اقتسام الغنائم الناتجة عن انهيار إمبراطورية "رجل أوروبا المريض" بينما أحفاد الرجل المريض يحلمون باستعادة المجد الإمبراطوري السابق. فرنسا تسعى إلى استعادة دورها الأبوي في شرق المتوسط، وأن تمد ولايتها إلى شعوب سوريا الكبرى. الآن يعتبر إيمانويل ماكرون نفسه المتصرف الأول في شؤون لبنان، ويرغب أيضا في مد النفوذ الفرنسي إلى مناطق أخرى تعاني من فشل الدولة، وفراغ القوة مثل العراق وليبيا. 
الولايات المتحدة ورثت دور بريطانيا العظمى، الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، ثم توارت وخبت. لكن مرحلة القيادة الأمريكية للشرق الأوسط، التي بدأت في النصف الثاني من القرن الماضي، تبدو وقد أصيبت محركاتها بالعطب، وهي الآن تريد الرحيل، إلا إذا كان بقاؤها هو لتحقيق الربح المالي؛ فهي تحتفظ بقواعد عسكرية هنا، وبقوات مستأجرة هناك في مقابل أتاوات كافية؛ فبقاؤها مرهون بوجود من يدفع لها. وقد وصل الأمر ببعض الحكام العرب إلى الشعور بالهلع، لمجرد سماع فكرة أن الولايات المتحدة تريد الانسحاب من الشرق الأوسط؛ فوجدت واشنطن في ذلك تجارة رابحة لها. 
 
الدور الإسرائيلي الإقليمي 
 
وسط حالة اللانظام التي تعيشها المنطقة، والسباق على القيادة، بصعود القوى غير العربية، وفشل الدولة العربية، نجحت إسرائيل أخيرا في تحقيق انقلاب في القضية المركزية للسياسة العربية الإقليمية. إسرائيل نجحت في التغلب على خطر نفي وجودها، بتطوير أسس لنفي الهوية العربية وتقطيع أوصالها، ومن ضمنها الهوية الفلسطينية. كما استخدمت حكومات عربية كمعول من معاول هدم هذه الهوية. 
 
ومع أن مقومات الهوية الفلسطينية صامدة ولن تموت، فإن التفاعلات السياسية الأخيرة تفضح فشل الخطاب السياسي العربي، وتعلن حدوث انقلاب إقليمي سيؤدي، في حال استمراره، إلى نظام جديد في المنطقة، تذوب فيه الهوية العربية وتتلاشى، وتلعب فيه إسرائيل دور القيادة بمساعدة الولايات المتحدة، ويتم من خلاله إعادة رسم دور القوى المتصارعة على قيادة الإقليم، سواء تلك التي ترتدي عمامة الخلافة، أو التي ترتدي قبعة الخواجة. لقد أصبحت إسرائيل في موقع يسمح لها بصياغة وقيادة استراتيجية مدمجة لشرق البحر المتوسط والخليج والقرن الافريقي الكبير، باعتبارها لاعبا رئيسيا في كل واحد من هذه الأقاليم الفرعية على حده. الاختبار الصعب الذي ستواجهه إسرائيل، بعد اختبار تحدي الهوية الفلسطينية، سيكون في شرق المتوسط حيث تتقاطع مصالح روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وإيران. واشنطن من ناحيتها تعد العدة لتسليم موقع القيادة إلى إسرائيل، كما فعلت بريطانيا مع الولايات المتحدة في المنطقة بعد حرب السويس، ومن ثم فإن مستقبل الدور الإقليمي لإسرائيل سيتوقف على مواجهة التحدي الفلسطيني، وعلى إدارة علاقات ذكية مع الأطراف الأخرى.