الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من يزوّر تاريخ السوريين؟

من يزوّر تاريخ السوريين؟

29.10.2019
عبد الكريم بدرخان


سوريا تي في
الاثنين 28/10/2019
أعادتْ مظاهراتُ لبنان البالغة السلميّة والجمال الصُّورة المشرقة للربيع العربي، صُورة ميدان التحرير في 25 يناير، وصُورَ الثورة السورية في سِلميّتها الأولى وحينما كان الجانب السلمي يطغى فيها على المسلّح فيما بعد. وصرنا نسألُ أنفسنا بحرقةٍ كبيرة: ماذا لو لم تُقابَلْ مظاهراتُنا بالرصاص؟ ماذا لو وقفَ الجيش على الحياد ولم يكن مجرّد أداة من أدوات بطش السلطة وإرهابها؟!
وفي مقابل فرحنا بحِرَاكِ اللبنانيين ضدّ النظام الطائفي وزعمائه، وحزننا العميق لأنّنا ولدنا في بلدٍ تحكمه عصابةٌ مافيوزية لا حدودَ لإجرامها وعمالتها؛ ظهرتْ أصواتٌ من السوريين المؤيّدين والرّماديّين تعلنُ تضامنها مع مظاهرات لبنان ومطالب اللبنانيين، مع أنها لم تقفْ يوماً مع مظاهرات سوريا ومطالب السوريّين. كما راحَ آخرون يشيدون بحِرَاك اللبنانيين الحضاريّ الراقيّ، ويذمُّون ثورة السوريين التي اختصروها واختصروا جميعَ مَنْ شاركوا فيها على أنهم مجموعة من "المتخلّفين" و "المتشدّدين" و "الإرهابيين".
في الحقيقة لم يصبرْ شعبٌ على سِلْميَّته، ولم يتظاهرْ شعبٌ أعزلُ في مواجهة الرصاص لأشهرٍ مثلما فعلَ السوريُّون. صحيحٌ أنّ الانشقاقات العسكرية بدأت منذ الأشهر الأولى للثورة، وصحيحٌ أنّ الكتائب الأولى من "الجيش الحرّ" قامتْ بحماية المظاهرات والاعتصامات في بعض المناطق لا كلّها؛ إلا أن الطابع المدني السلمي ظلَّ غالباً على الثورة السورية خلال عامها الأول على الأقلّ. ثم كيف لنا أن ننسى اعتصامَ الناشطين السياسيّين والحقوقيين أمام وزارة الداخلية يوم 16-9-2011، بمشاركة المفكّر الراحل د. طيّب تيزيني؟ وكيف لنا أن ننسى اعتصام الساعة في حمص يوم 18-4-2011 الذي كان شبيهاً كثيراً بطُقُوس ميدان التحرير في القاهرة، وكذلك بساحاتِ لبنان اليوم، لكنه انتهى بمجزرةٍ ارتكبتْها القواتُ الأمنيّة. وكيف لنا أنْ نتجاهلَ عشراتِ المظاهرات الطلابية التي شاركتْ فيها شاباتٌ وشبّانٌ مثل مظاهرة حيّ القيمرية يوم 20-7-2011، ومظاهرة حيّ ساروجا يوم 4-10-2012، ومظاهرات جامعة حلب خلال عامي 2011 و2012؟ بالإضافة إلى ذلك، نتذكّرُ فنون المقاومة السلمية التي أبدع فيها شبابُ الثورة في دمشق، مثل إطلاق بالوناتٍ تحملُ كلمة "حرية"، وإطلاق قصاصاتٍ ورقيّة عليها شعاراتُ "إسقاط النظام"، وتلوين مياه "البَحراتِ" التي تتوسّط "الدوّارات" باللون الأحمر كدلالةٍ على الدمّ الـمُرَاق، وكذلك الكتابة على الجدران، ورفع "علم الثورة" على الجسور الرئيسية. ومَن ليس مواطناً سوريّاً؛ قد لا يعرف أنّ أي عملٍ من هذه الأعمال هو بمثابة عمل انتحاريّ بكل معنى الكلمة. دون أن ننسى الإضرابات التي حدثتْ في بعض المدن، مثل إضراب تجّار دمشق بعد مجزرة الحولة.
لا يمكننا إحصاءُ طرق الاحتجاج السلمي التي استعملها السوريين
وفي هذا السياق لا يمكننا إحصاءُ طرق الاحتجاج السلمي التي استعملها السوريين، فمن الأعمال الفنية كالأغاني ولوحات الكاريكاتور، إلى الأفلام التسجيلية والوثائقية، إلى توقيع البيانات التي كانت مهمّةً في بداية الحِرَاك، والمقالات والأعمال الأدبية المتواصلة حتى اليوم. وقد ترافق ذلك كلُّه مع عمل حقوقيّ شمَلَ توثيقَ الانتهاكات والجرائم وأسماء الشهداء والمفقودين، والدفاع عن معتقَلِي الرأي. فهل نغضُّ البصرَ عن جميع هذه الأعمال السلمية والمدنية؛ ونختصرُ الثورة بالسلاح فقط؟ أو بأنها "ثورةُ النصرة" أو "ثورة دواعش"؟!
ثم متى كان "داعش" مع الثورة أو من الثورة أو إلى جانب الثورة؟ وهو التنظيمُ السرطاني الذي نهشَ لحمَ الثورة وأكلَ مناطقَها وأبناءَها؟ وكان في كلّ منطقةٍ يُسيطر عليها، يُسَارعُ إلى تصفية العسكرييّن المنشقّين، والناشطين الإعلاميّين والحقوقيّين، وشباب الثورة من قادة المظاهرات وقادة الفصائل ذات المشروع الوطني. وكأنّ تنظيمَ "داعش" يحملُ قائمةً بالمطلوبين لدى أفرُع الأمن السورية، ثم ينفّذها حرفيّاً. ثم من أين جاءَ تنظيم "داعش"؟ أَوَليسَ تطُوّراً عن "الدولة الإسلامية في العراق" التي تشكّلتْ من آلاف الجهاديّين الذين استحضرَهُم نظامُ الأسد إلى سوريا؛ منذ غزو العراق في آذار 2003 وحتى انطلاق الثورة السورية في آذار 2011؟ والذين درّبتْهم المخابراتُ السورية في معسكراتٍ خاصة ثم أرسلتْـهُم عبرَ الحدود إلى العراق؟ أَلَيْسَتْ نواةُ "داعش" من صنع نظام الأسد؟ وخلال تلك السنوات الثمان؛ لم يتوقف المسؤولون العراقيّون والأمريكيُّون عن مطالبة بشار الأسد بوقفِ إرسالِ الإرهابيّين إلى العراق، وهذه تصريحاتُ مسؤولين من أعلى المستويات، من جورج بوش إلى نوري المالكي. فكيف يحاولُ البعضُ أنْ يدّعي أنّ "داعش" من نتاج الثورة السورية، أو أنه تنظيمٌ مُعادٍ لنظام الأسد الذي بناهُ حجراً بحجر؟!
لا غرابةَ في أنْ يُزوَّر تاريخ سوريّا في ذاكرة غالبيّة السُّوريين، فقد سبقَ أنِ اختُصِرَت الاحتجاجات الممتدّة من عام 1978 إلى 1982 بأنها "أحداث الإخوان" أو "أحداث حماة". بينما هي كانتْ ثورةً شعبيّةً وطلابيّة وعماليّة نقابيّة وبورجوازيّة مَدينيّة، بدأت حينما طالبتْ نقاباتُ المحامينَ والأطبّاء والمهندسين برفع حالة الطوارئ، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والسماح بحرية التعبير والتجمُّع. فكانَ جوابُ النظام بحلِّ هذه النقاباتِ الـمُنْتَخَبة، وزجِّ العشرات من أعضائها في السجن. بعد ذلك، قام التجّار بإضراباتٍ واسعة شلّتْ المدن السورية بالكامل، ردّتْ عليها ميليشا "سرايا الدفاع" باقتحام المحالّ التجارية المغلقة وسرقتها.  وصولاً إلى مجزرة حماة التي راح ضحيّتها ما بين 10 آلاف و25 ألفاً؛ بحجّة وجود مقاومة مسلّحة تتمثّل في "الطليعة المقاتلة" لجماعة الإخوان المسلمين التي يتراوح عدَدُها ما بين 200 إلى 300 مقاتل، فاستُبيحتْ المدينةُ قتلاً واغتصاباً ونهباً. وبعد القضاء على "المعارضة الإسلامية" وزجّ عشرات الألوف منها -وممَّن لا علاقةَ لهم بشيء- في السجون؛ بدأتْ حملاتُ الاعتقال والملاحقة لأعضاء الحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، وكذلك لأعضاء رابطة العمل الشيوعي حتى لم يبقَ منهم واحدٌ خارجَ السجن، إلا مَن استطاعَ الهُروب خارج البلاد. ثمّ؛ بعد كلّ هذي السنوات من الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري؛ نختصرُ هذه الحقبة بـ "أحداث الإخوان" أو "أحداث حماة"؟!
ثمّة انتفاضةٌ شعبيّة أُخرى في وجه نظام البعث مُسِحَتْ من ذاكرة السوريين
لم يقفْ تزويرُ التاريخ هنا فحسب؛ فثمّة انتفاضةٌ شعبيّة أُخرى في وجه نظام البعث مُسِحَتْ من ذاكرة السوريين، كانت في عام 1964 بعد سنة فقط من انقلاب 8 آذار، وذلك عندما طالب مجموعةٌ من السياسيّين والمثقّفين والمحامين والأطبّاء والمهندسين... برفع حالة الطوارئ وإعادة العمل بالدستور، وإطلاق الحرّيات العامة، وتشكيل حكومة انتقاليّة من عناصر وطنية، وإجراء انتخابات نزيهة ديمقراطية. تبعتْـها مظاهراتٌ من الطلّاب والعمّال والموظّفين الحكوميّين والتجّار الصغار والكبار، فاستجابَ نظامُ البعث لها -كعادته- بالقمع الوحشي، وباعتقال مئات التظاهرين، وتكسير المحلّات التجارية التي قامتْ بالعصيان المدني وسرقتها.
بعد ذلك، أخذَ الصراعُ بين البعث المستولي على السلطة والمدينةِ السورية الرافضة له؛ منحىً طائفيّاً، فوقعتْ اشتباكاتٌ ذاتُ منحىً طائفيّ في بانياس وفي حماة، فتدخّل الجيشُ التابع للقيادة العسكرية لحزب البعث (اللجنة الخماسيّة)، تدخُّلاً كشفَ عن انحيازها الطائفي لصالح فئةٍ ضدّ أُخرى، فقُصِفَتْ مدينةُ حماة بالمدفعيّة لأول مرة، وكذلك اقتُحِمَ جامع خالد بن الوليد في حمص بالدبّاباتِ لأوّل مرة. وكان ذلك كلُّه تحت إشرافِ الحاكم العسكريّ العُرفي وموافقته، وهو الفريق أمين الحافظ.
قيلَ سابقاً إنّ التاريخ يكتبه المنتصرون، أما اليوم فيجبُ على المهزومين والمقهورين والمعذّبين أنْ يكتبوا تواريخهم أيضاً، لعلّها تزاحمُ تاريخَ أصحاب السلطة والقوّة وتنتصرُ عليه. ولكي نبني منها وعليها وثائق لمحاكمة أولئك الطغاة، محاكمةً تاريخية على الأقل.