الرئيسة \  مشاركات  \  من وحي حلب الشهباء

من وحي حلب الشهباء

20.12.2016
د. محمد أحمد الزعبي




الحصان الظمآن عندما يرى الماء يجر صاحبه بقوة إليه ، وهذا بالضبط ما حصل لي مع قلمي الذي جرني بالقوة إلى الورقة التي أكتب عليها هذه المقالة ، بعد أن رأى بركة دماء الأطفال تغمر شوارع حلب ، رغم معرفته ( القلم ) بعدم جدوى مايكتب وما يقرأ ( بضم الياء )، بعد أن أغلق العالم كله ليس فقط عينيه كي لايرى وأذنيه كي لا يسمع ، وإنما قلبه أيضاً كي لايتأثر بصراخ الأطفال الجوعى والمرضى والجرحى والمحاصرين في حلب ، ولست بحاجة هنا إلى أن أسمي المسؤولين عما ججرى ويجري في حلب ، فلقد باتوا معروفين للجميع .
 لقد كتبت ذات يوم بأن العمود الفقري للنظام هم الطائفة العلوية ، والعمود الفقري للمعارضة هم العرب السنة ، وأن مايكسو هذا العمود الفقري عند الطرفين هو من مختلف مكونات الشعب السوري من عرب وكرد ، مسلمين ومسيحيين ، أكثرية وأقلية ، سنة وشيعة وعلويين ... الخ . ولا يجهلن احد أن العمود الفقري هو من يعطي الكائن البشري قوامه ومقوماته ، بل هو الذي يفرقه عن الحيوانات المختلفة مايسير منها على اربع أو مايسير على اثنتين الأمر الذي يعني أن الدور الذي تلعبه المكونات التي تكسو العمود الفقري سواء عند المعارضة أو عند النظام ، إنما تأتي بالدرجة الثانية من حيث دورها وفعاليتها وأهميتها بالقياس لدور وفعالية وأهمية العمود الفقري . وهو ما يتناقض مع ما فتئ يلح عليه الغرب ( أوروبا وأمريكا )من إعطاء الأقليات المتمثلةب ( كسوة العمود الفقري ) دوراً أساسياً على حساب العمود الفقري نفسه .
 إن الطبيب الناجح هو من يبحث عن السبب الحقيقي (سبب الأسباب ) للمرض ، وليس من يكتفي برؤية أعراض هذا المرض فقط ، ذلك أن معرفة العرض لاتغني عن معرفة السبب ، إذا ماأراد الطبيب أن يمارس دوره كطبيب وليس كمجرد مسعف ، ويشير التحليل السوسيولوجي ( الإجتماعي ) للثورة السورية بصورة لالبس فيها إلى أن السبب الحقيقي ( العميق ) وراء ما يجري في سوريا منذ ست سنوات ، والتي كان الشهر الأخير في حلب الشهباء خاتمة مطافها الدموي المؤلم ، هو النظام الشمولي اللاديموقراطي الذي فرضه العسكر الطائفيين على الشعب السوري منذ عام ١٩٦٣، والذي كانت خاتمته غير السعيدة ذلك النظام الديكتاتوري العسكري الذي فرضه حافظ الأسد بقوة السلاح على الشعب السوري عام ١٩٧٠، والذي ورثه من بعده لولده بشار عام ٢٠٠٠ ، الذي ورثه بدوره لولي الفقيه في طهران ولحسن نصر الله في لبنان ، وأخيرا وليس آخراً لقيصر روسيا الجديد في موسكو فلادمير بوتين عام 2011 .
إن الكاتب بما هو مواطن سوري مواكب لأحداث تلك المرحلة ، لن يتردد الآن في أن يشير بإصبع الإتهام لمسؤولية نظام عائلة الأسد الذي استولى على السلطة عام ١٩٧٠ ، عن كل من : ضياع الجولان ( البلاغ ٦٦ المشبوه ) ، و تربع الجيش الصهيوني فوق جبل الشيخ المطل على دمشق (شقيقة حلب سيف الدولة ) ، و الإنقسام الذي يشهده مجتمعنا السوري اليوم بسبب سياسات وممارسات نظام حافظ وورثته ، و عن الدماء التي تجرى في سوريا منذ عام ٢٠١١ وحتى هذه اللحظة ، وأخيراً (وليس آخراً )
 عن تدمير حلب الشهباء ، وقتل وتشريد سكانها . وعن فشل تطبيق القرارين الأممين 2118 و2254 ، وبالتالي مقترحات كوفي عنا ن ( جنيف 1) للخروج من هذه الأزمة المزمنة .
لقد وصف المرحوم حسين العودات ما يجري من مفاوضات بين النظام والمعارضة في جنيف بأنه " طبخة حصو "، ومن الواضح
أنه كان يشير إلى عدم التكافؤ بين طرفي الحوار الجالسين على طاولة المفاوضات في جنيف ،من حيث عدم تمثيلهما لما أطلقنا عليه " العمود الفقري " لكل من النظام والمعارضة ، وإنمافقط الكسوة التي تكسو هذا العمود الفقري . إن الحل الصحيح للمسألة السورية لكي نتجاوز مرحلة " طبخة الحصو " هو أن يجلس على طاولة الحوار في جنيف أو في غيرها ، الممثلون الحقيقيون لطرفي الصراع من جهة ، وأن تكون الأمم المتحدة وبالذات مجلس الأمن ، جادين في حل هذه الأزمة ، وليس مجرد باعة للكلام المنمق المعبر واقعياعن موقف " إذهب أنت وربك فقاتلا إننا ههنا قاعدون " من جهة أخرى . إن القرار الأممي ٢٢٥٤ كان يمكن أن يكون وحده كافياً لحل الصراع في سورية ، فيما لو صدقت نوايا الدول الكبرى في مجلس الأمن ، وفيما لو جرى تطبيقه فعلياً وليس اللف والدوران حوله .ويخيل للكاتب أن هذه القرار ( 2254 ) لم يقر - على مايبدو - من أجل التنفيذ وإنما من أجل " التنفيس " لاأكثر ولا أقل .
 لقد حاولت المملكة العربية السعودية في لقاء المعارضة السورية في الرياض ( ديسمبر ٢٠١٥ ) إنقاذ هذه اللعبة الأممية كي لا تبقى تدور في حلقة مفرغة ( طبخة حصو ) ولكنها واقعياً زادت الطين بلة ، والأزمة تأزماً ، ولم يزد دور الرياض عن نقل الصراع من من الرياض إلى جنيف ، ومن جنيف رجوعا إلى دمشق والرياض وأخيرا إلى موسكو ومن موسكو إلى حلب ، ومن حلب إلى إدلب ، ومن إدلب إلى الرياض . إنها " الحلقة الشيطانية " Teufelskreis
 لقد انتهت قصة حلب هذا اليوم ( ١٥.١٢.٢٠١٦) ، وسكت عادل الجبير ، عن تهديداته الكاذبة . ولابد من القول هنا أنه لاحلب ولا الرياض يقصّان قصة الثورة السورية كلها ، فالثورة ماتزال باقية والنار مايزا ل وميضها تحت رماد حلب ، وطائر العنقاء سوف يبقى يحلق في سماء دمشق وحمص وحماة وحلب وإدلب ودرعا ودير الزور وكافة المدن والقرى السورية التي دمرها النظام وأعوانه وقتلوا وهجروا سكانها إلى أن تنتصر الثورة ،وعندها سيعود طائر العنقاء إلى عشه ، وتعود الحياة الديموقراطية البرلمانية التعددية التي غابت شمسها عن سوريا منذ ١٩٦٣ ، إلى سابق عهدها .ويعود المهجرون إلى بيوتهم ، وتعود غربان قاسم سليماني وحسن نصر الله وفلادمير بوتين إلى أعشاشها في لبنان وطهران وموسكو ، غير مأسوف عليها . وتنتهي بذلك لعبة الأمم في " الجمهورية العربية السورية " .