الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من عالم يموج بمئات ملايين النازحين إلى حركات الاحتجاج الكبرى

من عالم يموج بمئات ملايين النازحين إلى حركات الاحتجاج الكبرى

10.12.2018
يوسف بزي


سوريا تي في
الاحد 9/12/2018
قافلة المهاجرين من جنوب القارة الأميركية إلى حدود الولايات المتحدة، كدفق بشري لا يتوقف، تكشف الهشاشة التي تعانيها دول أميركا اللاتينية ومجتمعاتها. فرغم مرور ثلاثة عقود على تعميم الديمقراطية وزوال معظم الديكتاتوريات في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية، إلا أن عملية الدمقرطة لم تتساوق مع إصلاحات اقتصادية كافية، لترسيخ الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية. حصدت نخبة محظوظة نتيجة الازدهار المالي (لا التنموي)، وتفاقمت الهوة بين أقلية من الأغنياء وأكثرية من الفقراء. والأهم، أن الدولة المركزية أظهرت باستمرار عجزاً في تلبية حاجات التكاثر السكاني وتطلعات المواطنين لشروط عيش لائقة.
كانت السياسات تتخبط مع تعاظم التحديات البيئية والصحية والتعليمية، ما جعل الإحباط الذي أصاب الطبقة الوسطى، يسود على نحو مؤذ سياسياً. إن الضغوط التي تعرضت لها تلك المجتمعات جراء التوسع المفرط في سياسات اقتصادية تخلو من أي "رعاية" للأمن الاجتماعي وشروط العمل، واختلال الأنظمة الضريبية خصوصاً، أدت إلى ما يمكن اعتباره بداية النزوح الكبير باتجاه الشمال.
العالم يموج حرفياً بمئات الملايين من البشر اليائسين، أو الطامحين إلى حياة أفضل. القسم الأعظم من هؤلاء هم ضحايا مباشرون للحروب الأهلية، أو لآلة العنف السلطوية
ما يحدث في أفريقيا، هو الصيغة نفسها لكن الرواية هنا أشد قسوة وإيلاماً. إذ نشهد دولاً فاشلة ومنهارة، ومجتمعات جرى تحطيمها اقتصادياً و"ثقافياً"، وانقرضت تنظيمات اجتماعية سياسية كانت قادرة باستمرار على تأمين شبكة من التكافل والكفاية. لذا، يمكن لأي رائد فضاء أن ينظر نحو القارة الأفريقية ليرى قوافل بشرية تصعد بلا توقف كفيضان هائل، من جنوب الصحراء إلى شواطئ المتوسط متجهة إلى أوروبا.
في السنوات الأخيرة، عايشنا الأهوال السورية وخروج نحو ستة ملايين سوري براً وبحراً، عبر غابات شرق أوروبا، وعبر البحر اليوناني والإيطالي. لكن سرعان ما انتبهنا، أن "سفر الخروج" السوري هذا، كان جزءاً من ملحمة كبرى تضم ملايين الهاربين من بنغلادش وباكستان وأفغانستان وإيران والعراق وسوريا والأقاليم الكردية وفلسطين ولبنان، وكان يلاقيهم على الدرب نفسه الصوماليون واليمنيون.. في الوجهة نحو الشمال والغرب.
العالم يموج حرفياً بمئات الملايين من البشر اليائسين، أو الطامحين إلى حياة أفضل. القسم الأعظم من هؤلاء هم ضحايا مباشرون للحروب الأهلية، أو لآلة العنف السلطوية التي تسحق بلا توقف مواطنيها.. وهم في الوقت عينه ضحايا عولمة اقتصادية هوجاء، غير مقيدة لا بحس أخلاقي ولا بضوابط سياسية دولية ولا برقابة التشريعات والقوانين. عولمة اقتصادية أشبه بالنهب لما فيها من تركيز فاقع للثروات، مترافقة مع سيادة كلية للفساد، إلى حد يمكن اعتبار أن "الفساد" في القرن الواحد والعشرين يوازي طاعون القرون الوسطى في قدرته على تخريب قارات بأكملها. أما الظاهرة التي فاقمت من الانهيار فهي التدمير الذي لا كابح له للبيئة، بمعناها الإيكولوجي والمناخي والاجتماعي. لا يقتصر الأمر على الجفاف أو السياسات الزراعية الفاشلة أو تدمير الثروات الطبيعية، إنما أيضاً الاقتلاع الاجتماعي الذي أجبر سكان الأرياف الشاسعة على الهجرة إلى مدن مكتظة ومختنقة ومصابة بالفوضى أصلاً، وباتت تعاني من قدرتها على توفير الطاقة أو المياه الصالحة للشرب أو الهواء النظيف، عدا عن تردي نوعية إمدادات الغذاء.
اليوم، يبدو أن هذه الصيغة من العولمة السائدة أصابت قلب مجتمعات أوروبا وأميركا الشمالية. ابتدأ الأمر مع انهيار منظومة مالية تقدر بمئات المليارات كادت أن تطيح بالاقتصاد العالمي عام 2008، عندما انكشفت لعبة الاستثمارات في الديون العقارية التي تحولت إلى فقاعة انفجرت بالنظام الرأسمالي وكادت تعطبه. دفع الثمن عشرات الملايين من الأميركيين. أما الذين سببوا الكارثة، فتم تعويمهم إن لم نقل مكافأتهم بمئات المليارات من أموال الضرائب التي دفعها الفقراء أولاً.
من تداعيات تلك الأزمة، ومن تبعات زلزالها، كانت الثقة بأوروبا الموحدة قد بدأت بالتلاشي مع اندلاع الأزمة اليونانية والبرتغالية والإسبانية، خصوصاً، إلى أن وصلت إلى بريطانيا نفسها، حيث كان الجواب الواضح في استفتاء البريكست: قرار الخروج من أوروبا، والنكوص نحو "القومية" الاقتصادية والسياسية.
بهذه الروح وصل ترامب إلى الرئاسة، كرد شعبوي على "فساد" النخبة الأميركية، من ناحية، وعلى ضعف الإصلاحيين من أمثال أوباما الذي لم يحزم في أي شيء.
ازداد الأمر سوءاً حين سيطرت الليبرالية الاقتصادية، في مجتمعات الشرق والجنوب، من دون الليبرالية السياسية. كان النموذجان السوري والمصري فاقعين
أما الفرنسيون، فها هم في الشارع، بعدما اختاروا إيمانويل ماكرون، كتعبير عن يأسهم من تشرذم اليسار وفقر خياله، وتحفظهم عن يمين تقليدي برهن فشله مرات عدة، خصوصاً بعدما أضحت "الديغولية" على يد ساركوزي فارغة من محتواها.
ما يشتكي منه الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون.. هو بالضبط المسائل نفسها والمعضلات ذاتها، بل والآلام عينها التي دفعت مئات الملايين من المهاجرين إلى يأس الهروب، وإن استصعبنا أوجه المقارنة بين فداحة الفقر والظلم أو العوز والجوع أو انعدام الحقوق السياسية والمدنية للذين ينزحون من جنوب العالم وشرقه، وسكان الشمال والغرب.
لكن ما يوحدهم جميعاً، ما يوحد البشرية، ما يجمع بين حركة "احتلوا وول ستريت" و"السترات الصفر" وساحات "الربيع العربي"، ليس فقط التوقعات أو التطلبات المتشابهة للبشر في المعايير المقبولة للعيش، بعدما عممتها الثقافة الاستهلاكية على مدى عقود وفق وعود التحديث والحضارة، بل أيضاً اقترافات "العولمة" الحالية التي فصلت ما بين الليبرالية الاقتصادية والديموقراطية والعدالة، وخصوصاً عندما حصرت الديموقراطية في آليات إجرائية انتخابية وسياسية دون مضمونها المساواتي اقتصادياً واجتماعياً، على نحو جوّف معنى العدالة بقدر ما أفرغ مفهوم الحرية من معناها.
ازداد الأمر سوءاً حين سيطرت الليبرالية الاقتصادية، في مجتمعات الشرق والجنوب، من دون الليبرالية السياسية. كان النموذجان السوري والمصري فاقعين. وصفة مروعة لكيفية استحواذ عصبة مافياوية ليس على السلطة فقط بل على الدولة ومقدراتها، على السياسة وعلى الاقتصاد في آن واحد. وصفة لفساد تام هو عبارة عن إهانة في كل لحظة لكرامة المواطنين.
الفارق بين الشمال – الغرب والجنوب – الشرق، يكمن هنا أساساً، حيث لا تزال "الدولة" مفارقة للسلطة. ولذا، فحركة "السترات الصفر" أو أي حركات احتجاجية فئوية أو عمومية ليست ثورة على نسق الثورة السورية أو الليبية أو المصرية.. وليست حرباً أهلية في الكونغو أو الصومال أو اليمن. هي حركة دفاع عن "الدولة" بوصفها المؤسسة التي يملك الشعب وحده حق تقرير مصيرها ووجهتها، الدولة التي تستمد شرعيتها أبداً من رضى المواطن.
لكن "وحدة الحال" لسكان العالم، تعني فيما تعنيه، عولمة الاحتجاج. احتجاج معولم ضد "العولمة". فالمطالب التي يرفعها الفرنسيون الآن، هي في العمق البحث عن عولمة أخرى (بغض النظر عن تيارات الهوية والخوف القومي والنزعات الفاشية والشعبوية)، فليس صدفة أن تظاهرات طهران أو حمص أو القاهرة أو بنغازي أو نيويورك أو باريس ترفع عبارة موحدة: العدالة الاجتماعية.
ليس لنا بديل عن العولمة سوى أنسنة العولمة. أما أهل "الممانعة" أو أصحاب الوعي اليساري "العروبي" الذي يظنون أنهم "رفاق" السترات الصفر، فحكايتهم كحكاية جحا وزواجه من الأميرة، إذ راح يروج بين الناس أن عرسه قريب، طالما أنه هو وحده "موافق" على الزواج.