الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ملفّات سورية متعثرة

ملفّات سورية متعثرة

29.07.2019
رانيا مصطفى


العرب اللندنية
الاحد 28/7/2019
مع وصول الدفعة الأولى لمنظومة أس400- الروسيّة إلى تركيا، بدت مصالح الدول المتدخلة في الشأن السوري، وتحالفاتها، أكثر ارتباكا وتعقيدا، ما انعكس سلبا على فرص الاقتراب من حل للأزمة السورية، رغم ما تحقق من تقدّم في ملف اللجنة الدستورية، الذي يشرف عليه مندوب الأمم المتحدة، غير بيدرسون.
حسمت تركيا خيارها بالانضمام إلى المعسكر الشرقي، بقيادة روسيا، تحت تهديد ابتعادها عن حلف شمال الأطلسي، وخسارة عضويتها فيه، أو على الأقل خسارة فرصة الاستفادة من اتفاقيات الدفاع المشتركة؛ وبالفعل لم يعد بإمكان أنقرة لعب دور في برنامج مقاتلات أف- 35 الأكثر تطورا.
يحقق الخيار التركي لأنقرة أهدافا أبعد من سوريا؛ فهي باتت قوة إقليمية رئيسية، وتحتاج إلى تعزيز دفاعاتها الجوية في وجه منافستها في الاتحاد الأوروبي، اليونان، على الغاز الطبيعي في شرق المتوسط في محيط قبرص، ينقذها من أزمتها الاقتصادية، ويعطيها دورا مركزيا في التحكم في مصادر الطاقة في الشرق، إلى جانب روسيا، الأمر الذي يزعج دول الاتحاد الأوروبي ويدفعها إلى الوقوف ضد الصفقات التركية مع جمهورية قبرص الشمالية، باعتبارها غير شرعية، حيث يدعم الاتحاد الأوروبي اليونان في رفض استقلالية جمهورية قبرص التابعة لتركيا.
فضلا عن دعم الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية، وعصبها الرئيسي وحدات حماية الشعب الكردية، فرع حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا في تركيا، وأن الولايات المتحدة تماطل بشأن تهدئة مخاوف تركيا على أمنها القومي، ولم تحرز زيارة الممثل الأميركي الخاص لشؤون سوريا، جيمس جيفري، الأخيرة إلى أنقرة تقدما ضمن اجتماعات اللجنة المشتركة الأميركية-التركية رفيعة المستوى، بشأن حدود وعرض المنطقة الأمنية في شمال شرقي سوريا، وإخراج وحدات الحماية منها، ولا في ملف “خارطة الطريق” بخصوص منبج، والذي كان من المفترض إنجازه منذ يونيو الماضي، وخاصة في ما يتعلق بطبيعة المجلس المدني المحلي، وخروج الوحدات الكردية منه.
هذه الأسباب وغيرها دفعت تركيا إلى تعزيز التحالف مع شريك صعب الإرضاء، ومتطلب، كروسيا، رغم عدم ثقتها بها، لكنها في الوقت نفسه أرادت إرسال رسائل تهديد إلى الغرب، الذي لا يريد خروجها من حلف الناتو، وإلى روسيا، التي ترغب بتقسيم الحلف. لكن اقتراب تركيا من الحليف الروسي لا يعني تقاربا في الملف السوري؛ فقد ازدادت حدة التصعيد في إدلب وريف حماة، منطقة خفض التصعيد الأخيرة، وتصاعد الصراع الروسي-التركي، عبر حليفيهما السوريين.
يبدو أن تركيا فقدت ما كانت تحظى به من دعم غربي، ومن خطوط حمراء أميركية في ملف إدلب؛ ما دفعها إلى استغلال ملف اللاجئين السوريين لديها. تمارس الحكومة التركية ضغوط التضييق على اللاجئين، وتوقيف قرابة 6000 شخص، وإجبار بعضهم على التوقيع على وثيقة اختيار العودة الطوعية إلى سوريا، وإعادة 400 شخص حسب ما صدر عن بعض المنظمات الحقوقية، والتضييق على من حصلوا على وثيقة الحماية المؤقتة للالتزام بالقوانين التركية بالعودة إلى المدينة التي صدرت فيها الوثيقة، ما يهدد بفقدان الكثيرين لفرص عملهم.
جاء قبول نظام أردوغان لهذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين ضمن سياسة تركيا في احتضان وتبني المعارضة السياسية وهيئاتها، من المجلس الوطني ثم الائتلاف، حيث يشكل الإخوان المسلمون، ومن يدور في فلكهم، العصب الرئيسي لهذه المعارضة، والقوة الأكثر فاعلية وتأثيرا فيها، ما دفع هذه المعارضة وما نتج عنها من حكومة مؤقتة، وفصائل إسلامية تتلقى الدعم من تركيا، إلى إبداء الولاء المطلق لحكومة حزب العدالة والتنمية؛ فكان موقف هذه المعارضة مخزيا حيال القرارات التركية بالتضييق على السوريين.وعلى عكس هيئة التفاوض السورية، التي علقت مشاركتها في اجتماعات جنيف، خلال اجتماعها الأخير في الرياض، احتجاجا على التصعيد الروسي-النظامي في إدلب، ستذهب الفصائل المسلحة التي توالي تركيا إلى أستانة مطلع الشهر المقبل، لمحاورة الروس. بينما تتأهب فصائل “درع الفرات” و”غصن الزيتون” لمعركة قد تشنها تركيا على منطقة شرقي الفرات، ومنبج، للسيطرة عليها، وطرد وحدات الحماية الكردية، في خطوة تحقق المصالح التركية الصرفة، وتفتح جبهات استنزاف جديدة على الأراضي السورية.
يحشد الجيش التركي قواته وأسلحته الثقيلة على الحدود مع سوريا بالقرب من تل أبيض، ويتطلع إلى الهجوم على منبج وعين العرب/كوباني وتل أبيض؛ لكن من المستبعد أن تنفذ أنقرة تهديداتها بالهجوم على شرقي الفرات، دون ضوء أخضر أميركي، لا يبدو أنه ممكن بعد الانزعاج الأميركي من صفقة أس400- مع روسيا.
روسيا هي الرابح الأكبر من إتمام صفقة أس400- مع تركيا؛ فغير إبعاد الأخيرة عن حلف شمال الأطلسي، وضرب هذا الحلف من الداخل، فإن روسيا التي تتطلع إلى السيطرة على كامل الأراضي السورية، عبر دعم النظام السوري وقواته، لا تزال عاجزة عن تحقيق تقدم في ملف السيطرة على إدلب وشمال حماة، بسبب شراسة الفصائل أصحاب الأرض، وبسبب افتقادها لدعم ملموس من الميليشيات الإيرانية، كما في السابق، بعد التنافس الناعم الروسي-الإيراني على الاستثمارات السورية، وبعد التقارب الأمني الروسي-الأميركي-الإسرائيلي في القدس المحتلة، وكذلك لأن نظام ولاية الفقيه لم يعد قادرا على تمويل ميليشياته على كل الأراضي السورية، بسبب ما يعانيه من حصار اقتصادي، وبات يقنن في دعم ميليشياته في العراق، ويفضل الاقتصار على بعض المناطق السورية، وإدلب ليست واحدة منها.
تتطلع روسيا إلى الاستفادة من التهديدات التركية لشرقي الفرات، والخلاف التركي-الأميركي، بأن يدفع الولايات المتحدة، ومعها قوات سوريا الديمقراطية إلى التوافق مع روسيا وعودة النظام إلى شرقي الفرات، إذا ما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من شرقي الفرات، خاصة مع رفض ألمانيا الطلب الأميركي بإرسال قوات إلى سوريا، وقبول ضعيف من فرنسا وبريطانيا وبعض الدول. كما تتطلع روسيا إلى السيطرة على إدلب عبر اتفاق مع تركيا، ربما يكون بمقايضتها بملف تل رفعت.
وكذلك تريد روسيا من تقاربها مع تركيا أن تضغط على الحليفين الأميركي والإسرائيلي، ومن خلفهما دول عربية، والذين يريدون إخراج تركيا أيضا من المعادلة السورية، بعد إيران، وذلك من أجل تحصيل تنازلات أكبر تتعلق بإبقاء النظام السوري، ورفع العقوبات عنه، والسماح بتدفق أموال إعادة الإعمار.
إتمام صفقة أس400- الروسية-التركية يعني قلب الأوراق، سواء في ما يتعلق بضرب حلف الناتو الغربي، وتقدم حلف روسيا الشرقي، أو في تعطيل التقدم في الملفات السورية بين أنقرة وواشنطن؛ لكن ذلك يعني المراوحة في المكان. وإذا كانت روسيا هي الرابح الأكبر من كل ذلك، فإن الشعب السوري لا يزال مستمرا في مأساته من القتل والتهجير والترحيل، ويدفع ثمن التدخلات الدولية، والأكثر إيلاما، ثمن رداءة المعارضة التي أنتجها النظام، وتبعية الفصائل المسيطرة على الأرض.