الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معنى الذي يجري في سوريا

معنى الذي يجري في سوريا

10.05.2020
عدلي صادق



العرب اللندنية
السبت 9/5/2020
لطالما تداول المعارضون السوريون، على مر العقود، وكذلك إعلام الحكومات العربية التي خاصمت النظام السوري، عناوين الموضوعات نفسها التي تظهر الآن بعض تفصيلاتها، من خلال مشكلة رامي مخلوف ابن عمته الرئيس بشار الأسد. فبعد عقود من عمل محمد مخلوف وابنه رامي وسائر الأسرة، كرديف ريعي لعائلة الأسد، في ثنائية يتكامل فيها من يقبض على السياسة والأمن، مع من يقبض على المفاصل الرئيسة في اقتصاد البلاد، اختلف الطرفان ووصلا إلى نقطة اللاعودة.
لعلّ الجديد في هذه المشكلة، أن طرفي الشراكة العائلية المديدة، المتكتمين تقليديا على ما يدور بينهما، قد تحولا إلى العلن، وهذا لن يحدث بالنسبة لمخلوف، دون الاستناد إلى قوة بديلة لن تكون غير الروس.
ومن باب التفصيل، لا يختلف اثنان، على أن من بين طبائع النظام السوري، هو التكتم الشديد على ما يجري داخل الأقانيم الثلاثة: الأسرة والأمن والاقتصاد الموازي، الطفيلي والريعي، الذي يتسم بالفساد من رأسه إلى أخمص قدمه.
لذا تجد كل الأقاصيص التي رويت على أصعدة هذه الأقانيم الثلاثة، ناقصة الإحداثيات، شأنها شأن الوثائق المسربة التي تحير المؤرخين، عندما تظهر متأخرة، وقد شُطبت بعض سطورها المهمة. فحتى مشكلة رفعت الأسد، الذي حاول الانقلاب على شقيقه الرئيس حافظ في مارس 1983 لم يحدث أثناءها أي تلاسن علني ولم يقل رفعت ولا أخوه الرئيس المريض آنذاك شيئا في العلن، على الرغم من وجود ثلاثة عناصر ـ أيضا ـ في المشكلة وفي حلها، وهي: المال والطائفية وصلة الدم.
وفي الحقيقة إن ما يحدث اليوم، فيه العناصر الثلاثة نفسها، مع الاختلاف في المقاصد بين رفعت الأسد ورامي مخلوف، فالأول معني بالانقضاض على السياسة، والثاني بالاستمرار في الانقضاض على الاقتصاد. ففي العام 1983 عندما تعرض حافظ الأسد لنوبة قلبية، شكل لجنة مؤقتة لإدارة البلاد أثناء علاجه، ولم يكن رفعت من بين تلك اللجنة (عبدالحليم خدام، عبدالله الأحمر، مصطفى طلاس، حكمت الشهابي، عبدالرؤوف الكسم وزهير مشارقة) وأيامها استشاط رفعت غضبا عندما لم ير في تشكيل اللجنة سوى أن جميع أعضائها من أهل السنة الموالين لأخيه، ما جعله يستنفر الطائفة ويتوجه للانقلاب.
وعندما نهض حافظ من سريره، وتدارك أموره دخل عنصر المال والأمن الشخصي لرفعت ومن معه في تأمين الحل والتسوية المالية، فخرج الانقلابي بما جمعت يداه من اعتصار المجتمع، وفوق ما لديه من أرصدة، حصل على مئتي مليون دولار تطوع القذافي بدفعها، حسب رواية عبدالحليم خدام!
القصة هذه المرة تلامس الفضيحة، لأن جديدها غير مسبوق، على صعيد التطورات الدرامية في بنية السلطة الحاكمة، وما يتخللها من صراعات و”تصفيات” وانشقاقات. فالجديد يتسم بثلاثة عناصر لم يتوقعها أحد. الأول، أن المشكلة انفجرت داخل العصبية العائلية والطائفية للممسكين بتلابيب الحكم. والعنصر الثاني، أن ما ينكشف يؤكد صحة كل ما قيل في الخارج، بخصوص عمليات النهب الواسعة التي تترافق مع الاستبداد الفاجر، مع توافر مفسرين وشهود لما يقوله رامي وتقوله السلطة، كانوا مع النظام وانشقوا عنه. أما العنصر الثالث فهو أن المشكلة ليست مقطوعة الصلة، بما يُدبر للدولة السورية كلها، وليس لنظام الحكم فيها وحسب، وأن العنصر الخارجي يلعب دورا مركزيا في السيناريو وسياقاته!
لعل الأخطر، من بين الفرضيات الكامنة في الخلفيات، هو الدور الروسي، لاسيما وأن سوريا تشهد مرحلة من التحولات التي تديرها القوى المتواجدة على أرضها أو المعنية بجغرافيتها. فالإيرانيون اقتربوا من الرحيل مرغمين وظافرين من الغنيمة بالإياب، ويبدو أن الطرفين الروسي والإسرائيلي، متفاهمان ضمنا وتفصيلا وسرا، بأن الإيرانيين معطوفون على سائر الأصوليات والبيارق الطائفية المتشددة.
أما الرئيس بشار الأسد، فإن تصرفه الأرعن في بدايات الأزمة السورية، عندما كان قادرا على احتوائها بأسهل الطرق، لكنه اختار الحل الأمني وتفجير مجرى الدماء، يتكرر اليوم على الأقل في نظر الروس، الذين باتوا يرونه ذا عقلية خشبية لا تستطيع مغادرة عقلية حافظ الأسد قبل أربعين سنة. ففي 2011 كان بمقدوره أن يعزل عاطف نجيب، رئيس المخابرات السورية في محافظة درعا، وأن يتمثل دور الوطني الحكيم، فيؤدي زيارة إلى المحافظة، أو يدعو وجهاءها لتطييب نفوسهم لكي يخرج فائزا يرفعه السوريون على الأعناق. فلم يكن ذلك يكلفه أكثر من القول ـ ولو كذبا ـ إنه أحال نجيب إلى المحاكمة بتهمتي تعذيب الأطفال بوحشية، ثم التعدي بالشتائم على أعراض أمهات الأطفال في محافظة درعا ذات التقاليد الريفية، وأهمها الذود عن شرف العائلة.
فلا يزال بشار عاجزا عن الاقتناع بأن الدكتاتوريات تخلق واقعا وطنيا داخليا هشا، ليس على مستوى المجتمع وحسب، وإنما أيضا على مستوى المؤسسة العسكرية نفسه، وأن عودة النظام إلى دكتاتوريته، لم تعد ممكنة. فقبل أيام أراد الأمن السوري ممارسة عادته القديمة، بعد أن سيطر على جنوبي غرب البلاد، فأعدم مجموعة شبان أمنوا على أنفسهم بشفاعة مصالحة ميدانية رعاها الروس. ولم تتأخر عائلات القتلى عن الأخذ بالثأر، فأعدمت عددا من الشباب السوريين العاملين ضمن سلك الشرطة. وبعد ذلك ظهر رامي مخلوف، وتحدى بشارا وأخاه وزوجته وحلقته الضيقة، بتأمين روسي، وحدثت اشتباكات داخل البيئة الطائفية والاجتماعية للنظام، ما يجعل بشار الأسد مضطرا لأن يدرك إلى أين أوصل نفسه وبلاده.
فالروس يريدون تأمين استقرار سوريا تحت هيمنتهم، لكي يحصلوا على مقابل خسائرهم من ثروة وهم متفاهمون مع إسرائيل، وها هم بعد أن أوشكوا على الإجهاز تماما على المعارضة المسلحة وعاهات الدواعش، يبدأون في تفكيك عصبية النظام من داخله. والإيرانيون سيجدون أنفسهم ظافرين من الغنيمة بالإياب. وتقارير الصحافة الروسية الملعوبة، التي لا تنطق عن الهوى، تقول إن بشارا أصبح عبئا عليهم، ولا يمكن إعادة تأهيل النظام بوجوده، ولديهم مشروع لكي تصادق عليه الأمم المتحدة، لفرض دستور جديد، وإعادة صياغة النظام والعمل على تأهيله بالاتفاق مع الأميركيين. والثمن الذي يتقاضاه الأميركيون وإسرائيل هو طرد الإيرانيين، وأخذ سوريا من يدها إلى تسوية لم يكن حافظ الأسد يرضى بضعفها إيجابيا لصالح بلاده.