الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معضلة أردوغان السورية بين تنمر الحليف الروسي وتشفي الحليف الأمريكي والعالم الذي يتفرج على كارثة إنسا

معضلة أردوغان السورية بين تنمر الحليف الروسي وتشفي الحليف الأمريكي والعالم الذي يتفرج على كارثة إنسا

10.02.2020
إبراهيم درويش



القدس العربي
الاحد 9/2/2020
مرة أخرى يقف العالم متفرجا على المأساة السورية ويتذكر أن الحرب الأهلية التي مضى عليها تسعة أعوام لم تنته. وتتشكل أمام ناظري العالم وقائع مأساة كبرى مرشحة لأن تكون الأسوأ، وهي كارثة تتجمع خيوطها منذ نيسان (إبريل) العام الماضي مع بدء محاولات النظام السوري لبشار الأسد استعادة معقل المعارضة الأخيرة في مدينة إدلب.
وعلى خلاف المعارك الأخرى تمثل إدلب كل ما حدث في سوريا خلال الأعوام التسعة الماضية، فقد تحولت المحافظة إلى ملجأ لكل الذين أجبروا على الخروج من مدن وبلدات المعارضة التي أجبرت على الاستسلام. وخلال أعوام زاد عدد سكانها عن الثلاثة ملايين نسمة معظمهم من المدنيين، وسيطرت عليها الجماعات الجهادية خاصة هيئة تحرير الشام الموالية لتنظيم القاعدة.
وتم تأخير الهجوم على المحافظة عبر تدخل تركيا التي تفاهمت مع روسيا وتم الاتفاق على إنشاء نقاط مراقبة تعرضت يوم الإثنين لقصف من القوات السورية مما أدى إلى سقوط سبعة جنود أتراك ومدني تركي. وردا على ذلك شنت القوات التركية عملية قالت إنها قتلت فيها 76 جنديا سوريا. فيما حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من المزيد من الأعمال الحربية إن لم تتراجع القوات السورية عن مواقع المراقبة التركية في إدلب. ولكنها لم تتراجع مما أدى بأنقرة لإرسال تعزيزات جديدة في محاولة منها لمنع قوات اختلاط الأوراق.
تصدع علاقات
ذلك أن تركيا لا تريد الدخول في مواجهة مفتوحة مع روسيا التي تسيطر على القرار في سوريا. وليست من مصلحة أردوغان أو بوتين تخريب العلاقات فيما بينهما رغم اقتراح عدد من المحللين كسميح اديز في “المونيتور” بأن تركيا وروسيا في الواقع في حالة حرب غير معلنة اليوم. أو ما قاله المعلق ديفيد غاردنر في صحيفة “فايننشال تايمز” )4/2/2020) عن التحالف الذي انهار بين الرئيسين من أن الأتراك يشعرون بطعنة روسية في الظهر فيما ترد موسكو أن الأتراك لم يفوا ببنود الاتفاق الذي وقع قبل عامين من أجل نزع سلاح الجماعات الجهادية في إدلب. كما أن النظام السوري المدعوم من الميليشيات الإيرانية والطيران الروسي لم يكن ليقبل ببقاء نقاط المراقبة التركية حول إدلب ويلتزم بخفض التصعيد. ولا يمكن النظر إلى معركة إدلب بمعزل عن المخاوف التركية وتطور أولويات أنقرة. فرغم وقوف أنقرة وموسكو على جانبي النزاع في الحرب إلا أن المصالح المشتركة بينهما جمعتهما للتعاون. فقد اكتشفت تركيا أن الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية وتطور جيب كردي مستقل على حدودها الجنوبية يعتبر تهديدا وجوديا ولهذا حرفت انتباهها قليلا لمواجهة هذا الخطر وقامت بثلاثة توغلات لمنع امتداده أولا من شرق الفرات إلى غربه حيث منعت في عملية درع الفرات (2016) إلى غصن الزيتون (2018) سيطرة الأكراد على عفرين. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2019 قامت تركيا بتوغل في المناطق الكردية أدى لتشويش الجيب، مع أن العملية كانت محدودة ومشروطة بالموافقة الأمريكية والروسية.  وفي الجانب الروسي رأى بوتين في توتر علاقات أردوغان مع أوروبا وأمريكا فرصة للتأثير على دول الناتو. ورغم نهاية الخصام بين البلدين إثر إسقاط الطائرة الروسية عام 2015 إلا أن العلاقة لم تكن اصطفافا حقيقيا، وهي تشبه علاقة موسكو مع طهران. إلا أن الاستراتيجية التركية تختلف عن استراتيجية بوتين في سوريا، فالأولى باتت ترى أن عمقا لها في داخل البلد كفيل بمنع قيام جيب كردي يهددها، خاصة أن امتداداته موجودة في جنوب تركيا على شكل حزب العمال الكردستاني وفي جبال قنديل في العراق. وبالمقابل استخدمت روسيا سوريا كنقطة انطلاق لها لتوسيع مصالحها وتأثيرها في الشرق الأوسط. ويجب ألا ننسى أن الجيب التركي في شمال- غرب سوريا يعتمد في وجوده على الروس. وكان سببا في دفع الأكراد إلى أحضان النظام السوري، مما يصب في مصلحة موسكو وطهران. وبالضرورة فالعلاقة التركية- الروسية ليست سهلة لأنها قائمة على زواج مصلحة بين البلدين. وما يجمعها هي مصالح الغاز والعمق الإستراتيجي والتناقضات الجيوسياسية، وأحيانا يشعر الأتراك بالغبن من طريقة معاملتهم كما شعروا مع أمريكا عندما سلّحت الميليشيات الكردية في الحرب ضد تنظيم “الدولة” (داعش). وأحيانا يجري التعبير عن الغضب بطريقة رمزية كما فعل أردوغان أثناء زيارته لأوكرانيا وهتف للجيش “المجد لأوكرانيا” والتي كانت توبيخا واضحا للرئيس بوتين. فالعلاقة بالضرورة معقدة. وكما قال مسؤول تركي لصحيفة “فايننشال تايمز”(5/2/2020) “من السهل على بعض المسؤولين والمعلقين الغربيين القول إن تركيا أدارت ظهرها إلى الغرب، مثلما أننا نصطف بالكامل مع الروس في كل شيء، فهذا ليس هو الحال”. كما أن تركيا ليست تابعة للقرار الروسي مثل نظام الأسد، ولكنها تعتمد عليه ولا يمكن أن تلغي كل شيء في ضربة قلم. ومن هنا يمكن أن تتجاوز العلاقة الأزمة الأخيرة من خلال ترضيات لأردوغان بشكل يحمي أمن بلاده.
أمريكا غاضبة أيضا
ومشكلة أردوغان أن علاقات بلاده مع أمريكا تضررت بعد قراره شراء منظومة الصواريخ الروسية أس-400 التي اعتبرت تهديدا لحلف الناتو. ولهذا جرى استبعاد تركيا من برنامج تصنيع مقاتلات اف-35. وقبل عدة أشهر فقط قامت أمريكا بشجب تركيا لتحركاتها في سوريا ضد القوات الكردية. ونقلت رويترز يوم الأربعاء الماضي أن أمريكا أوقفت برنامج الاستخبارات العسكرية السري مع تركيا في شهر تشرين أول (أكتوبر) بعد الاجتياح التركي لشمال سوريا. ووقع الاجتياح بعد أن أعلن الرئيس ترامب بشكل غير متوقع بأن القوات الأمريكية في سوريا ستغادر. ومع أنه لم يتم تنفيذ ذلك الوعد، إلا أن سوريا ليست على سلم أولويات الإدارة: وفي خطاب حالة الاتحاد يوم الثلاثاء الفائت لم يشر إليها إلا في سياق زعيم تنظيم “الدولة” المقتول، أبو بكر البغدادي. وكان يأمل ترامب أن يغسل يديه من سوريا، ولكن أزمة إدلب تشير إلى أنه لن يكون الأمر بتلك السهولة. وحتى لو رفض الغرب دعم تركيا في عملياتها في سوريا، فهناك حقيقة مزعجة أخرى وهي أن تركيا حليفة لأمريكا ويخزن فيها حوالي 50 قنبلة نووية أمريكية على بعد 250 ميلا من الحدود السورية، وهي أيضا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) وهو ما يعني أن أمريكا وكندا وكثير من البلدان الأوروبية ملتزمة بحمايتها إن هي هوجمت. وربما رأت واشنطن اليوم في التوتر الحاصل بين موسكو وأنقرة مدعاة للرضا، خاصة أن الحاكم التركي، كما تقول “واشنطن بوست”، اكتشف الغدر الروسي الذي واجه إدارة باراك أوباما عندما كان بوتين يعد بالحد من وحشية النظام ليساعده على قصف المدن والبلدات وقتل المدنيين. وفي أزمة إدلب تلقي الصحيفة اللوم على موسكو، وترى ضرورة معاقبتها وليس الأسد كما اقترح المبعوث الأمريكي لسوريا جيمس جيفري، فالعقوبات لم تعد مجدية على نظام اقتصاده منهار.
 
أكثر من عدو
 
في قلب المعضلة التركية سياسة أردوغان الخارجية الحاسمة التي تبناها على عدة جبهات سواء في سوريا أو ليبيا أو شرق المتوسط وجلبت له أعداء وليس أصدقاء، فقد كان قراره إرسال قوات لدعم الحكومة الشرعية في ليبيا مدعاة لغضب الأوروبيين. فهو وإن استطاع الحصول على مقعد في مؤتمر برلين وترتيب العلاقة من جديد مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إلا أن أكبر ناقد له في أوروبا هو إيمانويل ماكرون الذي شجب التدخل التركي في ليبيا، مع أنه داعم للجنرال خليفة حفتر. ولا يمكن استبعاد المواجهة العسكرية على أي من الجبهات لكن خلاف المواقف حول ليبيا، خاصة على الساحة الأوروبية تعمل لصالح أردوغان. لكن ليس في سوريا التي قتل إصرار روسيا على حماية نظام الأسد في مجلس الأمن الدولي أية فرصة للإجماع. فلم تستخدم موسكو الفيتو لمنع شحب دولي بل وقام الدبلوماسيون الروس بتعطيل ميزانيات في المنظمة الأممية لجمع الأدلة عن جرائم الحرب أو حتى إصدار تقارير تشجب الدور الروسي في قصف المدارس والمستشفيات والمؤسسات المدنية كما ورد في تقرير لموقع “بلومبيرغ” (4/2/2020).
 
إيران
 
ويضاف إلى هذه التوليفة من التحديات إيران التي لم تكن موجودة في العمليات السابقة على إدلب، ولكنها الآن حاضرة كما كشفت تسريبات لصحيفة بريطانية عن وجود حوالي 800 من عناصر لواء الفاطميين المكون من مقاتلين أفغان على جبهة إدلب. وربما كان قرار إيران التدخل ردا على مقتل قائد فيلق القدس، قاسم سليماني في غارة أمريكية الشهر الماضي في العاصمة بغداد، أو أنها تريد توزيع وجودها في سوريا وبعيدا عن دمشق والجنوب السوري حتى لا تكون عرضة لغارات إسرائيل. وربما اعتقدت أن تركيا لم تعد مهتمة كثيرا في سوريا بعد تركيز اهتمامها على ليبيا. وتجازف طهران في علاقتها مع أنقرة، خاصة أن الاخيرة ساعدتها على تجاوز آثار العقوبات الأمريكية.
 
المدنيون
 
وبعيدا عن الحسابات السياسية للدول فإن المدنيين في إدلب، بمن فيهم الكثير من النساء والأطفال هم من يعانون. فالحرب السورية امتدت لحوالي عقد وارتكبت خلالها جرائم وحصل نزوح جماعي وبأي مقياس فهذا الهروب الأخير من ادلب يأتي في ترتيب أعلى. وتقول المجموعات الحقوقية بأن ما لا يقل عن 150 ألف شخص فروا من بيوتهم على مدى الأسبوعين الماضيين، مما يوصل عدد النازحين منذ 1 كانون أول (ديسمبر) الماضي إلى 500 ألف. ويظهر فيديو من منطقة القصف زحمة السير للهروب من المنطقة القريبة من منطقة القصف. ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” (6/2/2020) ما قاله ديفيد ميليباند، مدير منظمة انترناشونال ريسكيو كوميتي :”على مدى الشهرين الماضيين قتل ما يقارب 300 مدني نتيجة لتكثيف القتال في شمال غرب سوريا، وإن استمر هذا العنف، فإن حوالي 800 ألف شخص في مرمى النار لن تكون أمامهم خيارات كثيرة لأمنهم”.  وأثبتت التحقيقات بأن الغارات الجوية السورية استهدفت بشكل متعمد المستشفيات العام الماضي. ومن هنا فواجب الحكومات الأجنبية الاعتناء بما يحصل في إدلب. فقد رأى العالم الآثار التي قد تتسبب بها كارثة إنسانية في سوريا. فقد فر من البلد أكثر من 5.6 مليون لاجئ منذ بدأت الحرب. وتستضيف تركيا حوالي 4 ملايين منهم. ولهذا كان أردوغان واضحا أنه لن يسمح بدخول لاجئين جدد إلى بلاده التي كانت تأمل أن ينقصوا لا أن يزيدوا. وفي النهاية ربما كان التدخل التركي الأخير قادرا على وقف التقدم نحو إدلب ومنع مذبحة فيها. كل هذا يذكرنا بحقيقة مرة أخرى أن الحرب مستمرة ولم ينتصر فيها أحد.