الرئيسة \  تقارير  \  معسكرات إعادة التجميع: كيف حاولت فرنسا تفكيك الأرياف الجزائرية

معسكرات إعادة التجميع: كيف حاولت فرنسا تفكيك الأرياف الجزائرية

17.07.2022
فابيان ساكريست


فابيان ساكريست* – (أوريان 21) 5/7/2022
الغد الاردنية
السبت 16/7/2022
خلال حرب الاستقلال، قام الجيش الفرنسي بتجميع سكان عديد القرى الجزائرية في عملية يشار إليها بشكل محتشم باسم “التهدئة”، ويقصد منها منع المقاتلين الاستقلاليين من الاستفادة من دعم أهالي هذه القرى. وفي الحقيقة، تم حشر أكثر من مليوني جزائري في معسكرات تخضع للسلطة العسكرية، مما أدى إلى تفكيك المجتمع الريفي.
* *
في ألف قرية من قرى إعادة التجميع، يتعلم مليون جزائري كيفية العيش في القرن العشرين”. تحت هذا العنوان صدر عدد جريدة “باريس-جورنال”، الصادر بتاريخ 11 أيار (مايو) 1959. وهو عنوان صادم فعلاً، إذ يتعلق الأمر في الحقيقة بالمعسكرات التي حشر فيها الجيش الفرنسي أعدادًا كبيرة من سكان الريف الجزائري، بقصد مواجهة حرب العصابات التي كانت تقودها جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني بشكل أفضل. ومع ذلك، تبرز هذه الصيغة الرهانات الدلالية للنقاش الذي أثير بعد نشر تقرير “روكارد” (1) الذي كشف في آذار (مارس) 1959 عن وجود هذه السياسة الواسعة للتهجير القسري.
في رده على منتقديه الذين اتهموه بإنشاء عدد كبير من المعسكرات من هذا النوع على التراب الجزائري، يقول الجيش الفرنسي إنه عمل من خلال ذلك على ضمان “حماية” سكان الريف من “المتمردين” الجزائريين؛ بل وحتى على العمل على ترقيتهم اقتصاديًا واجتماعيًا من خلال تهيئة “قرى جديدة”. وكانت هذه الاستراتيجية الخطابية ناجحة. فضلا عن منح شرعية جديدة للجيش -لا تخلو من المفارقات- لتكثيف “إعادة التجميع” باسم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فرض هذا الخطاب على الساحة العامة صورة “القرية” بدل “المعسكر”، مما عزز الكبت الجماعي تجاه إحدى أضخم حالات عنف الدولة في التاريخ المعاصر.
عند نهاية الحرب، كان ما لا يقل عن 2.35 مليون جزائرية وجزائري يصارعون من أجل البقاء في هذه المعسكرات. وبالتالي، فإن ما يقارب ربع سكان الريف كانوا يخضعون لنوع خاص من الحبس المصحوب بالتسلط العسكري، وغياب الحريات الأساسية، والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية المستدامة في الغالب. ممارسة تكاد تكون عادية.
كانت هذه “التجمعات” المعروفة بفضل أعمال ميشيل كورناتون معسكرات بالتأكيد، قام الجيش والإدارة الفرنسيان بإنشائها على الأراضي الجزائرية خلال حرب الاستقلال، ولم يقل عددها عن 2.392 معسكرًا. وما نزال حتى اليوم غير قادرين على تقدير عددها بدقة، ما يؤكد سعة نطاق هذه الممارسة التي صارت شبه عادية بعد أن ولدت في منطقة الأوراس، في شرق البلاد، لقاء تأثيرات متعددة.
تمت عمليات الترحيل الأولى -التي وصفت بأنها “انسحابات”- بتحريض من الإداريين المدنيين والأطر العسكرية ابتداء من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، وكان يفترض أن يتم من خلالها تهجير أهالي منطقة الجبل لترك المجال مفتوحا للوحدات العسكرية، وإجبار الجزائريين على إظهار طاعتهم للسلطة. وبعد ذلك تبنى هذه التجربة ضباط ما يسمى بـ”مصلحة شؤون الأهالي الأصليين بالمغرب” (2)، الذين تم انتدابهم في الأوراس ليحلوا محل الإدارة أثناء الحرب. وقد وضعوا عقيدة أولية لإعادة التجميع، تتأرجح بين قطبين متكاملين. ففضلا عن كونها أداة مواتية لمحاربة المجاهدين -حيث تحرمهم من الدعم اللوجستي والمعنوي الذي يقدمه السكان لحرب العصابات التي يقودها جيش التحرير الوطني- كان ينتظر أن يسمح تجميع السكان بتركيز عمل الدولة وتسهيل الإصلاحات التي تهدف إلى التخفيف من التفاوتات الاجتماعية، بقصد استمالة سكان الريف لصالح الحكومة الفرنسية.
ولكن، منذ البداية صار هذا الجانب الإصلاحي -المتمثل في خلق “مركز إعادة تجميع نهائي”- ثانوياً، ليصبح مجرد مشروع افتراضي تعلنه السلطة العسكرية لتبرير تسريع التهجير القسري للجزائريات والجزائريين، الذي يسمح أساسا بتعويض قلة عدد العسكريين آنذاك، والذي لم يكن كافيا لضمان تغطية شاملة للإقليم. وقد أدى تبني “عقيدة الحرب الثورية” إلى تسريع انتشار هذه الممارسة، بدفع من الضباط المقتنعين بأن فرنسا تواجه في الجزائر نوع الحرب نفسه الذي تسبب في هزيمتها في الهند الصينية، والذي يتعين خوضه بأساليب جديدة.
كما ذهبت التعبئة المدنية في الاتجاه نفسه. ففي قسنطينة (شرق الجزائر) مثلا، قامت الإدارة الجهوية بقيادة المحافظ موريس بابون بالدفع نحو الدينامية نفسها باسم الضرورات العسكرية لقيادة حرب عصابات مضادة و”ثورة مضادة”، تهدف إلى هزيمة جبهة التحرير الوطني/ جيش التحرير الوطني على أرض معركتها -أي الثورة الاجتماعية والسياسية، ومن ثم تسمح إعادة التجميع بتدمير المجتمع الريفي لكي تتم إعادة بنائه بشكل أفضل لصالح قوى “التهدئة”.
على خطى الجمهورية الخامسة
أدى انقلاب أيار (مايو) 1958 الذي قاد إلى استكمال عسكرة الإدارة الجهوية وإدارة المقاطعات، ثم التحضير لاستفتاء أيلول (سبتمبر) 1958 -الذي تم من أجله تجميع الجزائريات والجزائريين بأعداد كبيرة- إلى تسريع هذه الحركة، على الرغم من محاولات الإدارة المركزية التي كانت تسعى إلى ضبط هذه الممارسة المكلفة جدا ولم تكن تشجعها.
من خلال تبني مبدأ “إعادة التجميع النهائي” مع تقييد إمكانيات التمويل، سعت الإدارة المركزية بالجزائر إلى الحد من جزء التنمية في هذه الاستراتيجية، في وقت كانت السلطات الإقليمية تتبناها كحجة لإضفاء الشرعية على تكثيف عمليات التهجير. وهي دينامية متناقضة استمرت بعد العام 1959، عندما تبنى الممثل الجديد للحكومة في الجزائر، بول ديلوفريي، مبدأ “المركز النهائي” بإطلاق برنامج الـ”ألف قرية”، ولم يكن العنوان الذي ذكرناه أعلاه سوى أحد أصدائه العديدة في فرنسا.
كانت هناك ثلاثة أهداف لهذا البرنامج: إخماد الفضيحة النسبية الناجمة عن نشر تقرير روكارد من خلال بذل مجهود دعائي مكثف؛ وخلق دينامية تسمح باستعادة السلطة المدنية صلاحياتها التقليدية، وبالتالي استعادة التحكم في الإنفاق العام الذي استباح الجيش لنفسه إدارته؛ وإحداث تحول لدى السكان والمجتمع الريفي في إطار مخطط قسنطينة، من خلال الإكثار من هذه “القرى الجديدة”، التي عُهد بتقييمها إلى إدارة تفتيش عامة للتجمعات السكانية، لكنها كانت ضعيفة ولم تدم طويلًا. ويبقى أن حجة تحويل هذه المراكز إلى قرى استخدمت بشكل أساسي لإضفاء الشرعية على استمرار إعادة التجميع، حتى جعلها عملية ممنهجة في مناطق معينة. وقد بلغ هذا المنطق ذروته مع الجنرال جان كريبان.
تتميز مراكز التجميع -التي كانت نوعا معينا من المعسكرات يختلف عن معسكرات الاعتقال والمحتشدات- بغياب شديد للتجانس يعود إلى أسباب عدة. فهناك طرق التهجير، حيث يتعلق الأمر بتهجير سكان قرى بأكملها بالقوة العسكرية، أو بتجميع لاحق لجزائريات وجزائريين فارين من المناطق المحرمة. وكذلك بسبب طرق الإقامة في المعسكر، من خلال النقل إلى قرى تم إخلاؤها أو إلى أخرى ما تزال مأهولة، أو إنشاء معسكرات من العَدَم، قريبة إلى حد ما من أراضي المنشأ.
كما يسهم التشكل الديموغرافي في هذا التباين، مع وجود مدن صغيرة تجمع بين أسر بضع عشرات من العمال الزراعيين، ومخيمات الرُّحل الكبيرة لسكان جنوب وهران، الذين يقترب عددهم أحيانا من عشرات الآلاف. وهذا فضلاً عن التشكل الاجتماعي، حيث إن علاقات العمر والجنس تتغير وفق كثافة المواجهة المحلية، حتى وإن كان أغلبية السكان من الأطفال والأحداث من جهة (بين 45 و55 % من مجموع سكان المخيمات، مقابل 42 % في المناطق الريفية خارج المخيمات)، وذكور من جهة أخرى (متوسط النسبة بين الجنسين 0.89 رجل لكل امرأة، على عكس المعدل الريفي البالغ 1.19).
مراقبة، وتأطير، وتنظيم
مع ذلك، تتميز هذه المعسكرات بممارسات هيكلية مماثلة من حيث تأطير الدولة، إذ يجب مراقبة السكان المدنيين الذين هم رهان وأداة النزاع، وتأطيرهم وتنظيمهم في القتال ضد جبهة التحرير الوطني/ جيش التحرير الوطني، وفق سلسلة من تقنيات الرقابة الاجتماعية، منها شبكة الأسلاك الشائكة التي تحدد مجال الممارسة. وكانت سلطة ضباط الشؤون الجزائرية المكلفين بهذه الأقسام الإدارية المتخصصة، والذين غالبًا ما أوكلت إليهم إدارة المعسكرات، شكلاً من أشكال النشاط الرعوي.
في هذه الأماكن الخاضعة للمراقبة العسكرية، تعتمد الحياة اليومية للسكان المهجرين بشكل أساسي على الانضباط الذي تفرضه السلطة، سواء من حيث المجال (كما يتضح من التنظيم المهيمن للإسكان على نموذج خطة رقعة الداما) أو من حيث الحياة الاجتماعية، من خلال إرساء طقوس للحياة اليومية، ورقابة صارمة على المداخل والمخارج، ومراقبة الأنشطة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، سواء كانت تندرج ضمن المجال الجماعي أو الأسري، بل وربما حتى هيكلة وتنظيم المدنيين وفقا لمبدأ “التسلسلات الهرمية الموازية” الذي يفضله أعضاء “المكتب الخامس”.
وباعتبار أن الهدف من التجميع كان تشكيل “مجموعة الدفاع الذاتي” التي تسمح نظريا بتحرير القوات العسكرية المسؤولة عن مراقبته، سعى قادة الأقسام الإدارية المتخصصة جاهدين للحصول على تأييد -إن لم يكن انخراط- الجزائريات والجزائريين. وقد اعتمدوا في ذلك على ترسانة من التقنيات التي تتراوح بين الإكراه (من العنف الرمزي إلى العنف الجسدي) والإقناع، وذلك من خلال توزيع الأغذية، وبناء المساكن، والتشغيل في ورشات العمل، وأيضا وعلى الخصوص تعليم الأطفال الصغار وتشغيل المراهقين. وكانت كل هذه الوسائل تسعى في الوقت نفسه إلى تحويل الجزائريين عن جبهة التحرير الوطني والفوز بدعمهم.
كرس العديد من الضباط جزءًا كبيرًا من وقتهم لهذه الأشغال التي تهدف أيضًا إلى التقليل من آثار الأزمة الاقتصادية والصحية والاجتماعية الناتجة عن الاقتلاع العنيف وغير المخطط له في كثير من الأحيان. وكانت حالة الهشاشة، وحتى البؤس، التي وصلت إليها الأسر الريفية إنكارًا صارخا لمشروع تطوير القرى المذكور أعلاه.
أدت خسارة وسائل الإنتاج -وهي ظاهرة واسعة الانتشار من دون أن تكون ممنهجة- إلى حرمان غالبية العائلات المهجَّرة من وسائل عيشها التقليدية، من دون أن يتم تقديم وسائل بديلة لها. وإذا كانت هناك بعض الأنشطة النادرة مدفوعة الأجر (تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن أجر “الحركي”، عامل قوي لتجنيد الأعوان، كان يفوق الارتباط الوطني)، فهي جد قليلة، ولا تكفي لتشغيل مئات الآلاف من الفلاحين المجبرين قسرا على البقاء بلا عمل. وجعل هذا الوضع من هذه الأسر المنبتّة عرضة إلى شكل آخر من الاعتماد على المساعدات في الغذاء والملبس التي توزعها الإدارة أو المنظمات الخيرية القليلة (مثل منظمة “سيماد”، والصليب الأحمر، والإغاثة الشعبية الفرنسية)، والتي سمح لها بدخول المعسكرات بعد العام 1959. وكانت مظاهر سوء التغذية وما يترتب عليه من هشاشة جسدية، وكذلك الاكتظاظ والمساكن غير الصحية، فضلا عن ضعف الهياكل الأساسية العامة وخاصة الطبية منها، كلها عوامل تقود إلى أزمة صحية كامنة مستدامة. صحيح أن هذه الأزمة لم تكن ممنهجة، لكنها حالة عامة في هذه المعسكرات، حيث بات ارتفاع معدل الوفيات ملحوظًا. ويمكن -من دون مبالغة- تقدير أن ما يقارب 200 ألف جزائري -أغلبهم من الأطفال- لقوا حتفهم هناك، وأن هذه الوفيات كانت نتيجة مباشرة لتواجدهم في المعسكرات.
ميزت عواقب اقتصادية واجتماعية أخرى هذه المعسكرات على المدى الطويل. فعلى الرغم من تنوع المسارات الفردية والعائلية، فإن معظم هذه العواقب استمر في الواقع بعد الاستقلال، مما يبرز الطبيعة “المستدامة” لذلك العنف المفروض على السكان. وهكذا شكلت ممارسة إعادة التجميع أوج أزمة الزراعة التقليدية التي نشأت قبل الحرب. ففي هذا المجتمع الذي يغلب عليه الطابع الريفي، أكمل هذا الاجتثاث -من خلال منع العمل الزراعي والتقليل من قيمته- عملية التدمير وإنهاء وجود الفلاحين التي بدأتها الإصلاحات العقارية في القرن التاسع عشر. وإذا كان هذا الواقع قد أسهم في تفسير إحجام الفلاحين عن العودة الى أنشطتهم التقليدية، فإن استمرار هذه المعسكرات كان يعود أيضًا إلى عوامل أخرى، من بينها أولاً وقبل كل شيء تدمير البيئة الريفية (تدمير القرى، انقطاع الوتيرة الزراعية، ترك الأراضي الزراعية بورا مما ساعد على تنامي الحياة البرية، والحد من القطعان أو حتى اختفائها)، التي غالبًا ما تعيق أي عودة إلى الوضع الطبيعي. خاصة وأن هؤلاء السكان يواجهون أنماطًا جديدة من العيش التي تشكل الثقافة الحضرية. لكن سكان المعسكرات القدامى، الذي يتراوح مجال إمكانياتهم الاقتصادية بعد الحرب بين البطالة والعمل الزراعي المأجور أو الهجرة إلى المدن، نادراً ما وصلوا إلى هذا العالم الحضري كما كانوا يطمحون.
ثمة اضطرابات بيئية واقتصادية واجتماعية كثيرة يجب أخذها في الاعتبار من أجل الخروج بتقييم صحيح لطبيعة ومدى ونطاق عنف الدولة هذا، خاصة في سياق إحياء ذكرى استقلال الجزائر، حيث ما تزال معسكرات التجميع -التي تبدو ذاكرتها مدفونة تحت أساطير “التهدئة”- مجهولة إلى حد كبير.
*فابيان ساكريست: مدرس في التعليم الثانوي، ومحاضر في جامعة بواتييه وباحث مشارك في مختبر أبحاث Migrinter. ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.
هوامش:
(1) ميشال روكارد، الوزير الأول السابق، كان في تلك الفترة متفقدا للمالية، وقد حرر هذا التقرير تحت تلك الصفة.
(2) “الأهالي الأصليون” تقال بالفرنسية “أنديجان”، وهي تسمية لا تخلو من ازدراء.