الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مصير الأفكار الكبرى في التاريخ

مصير الأفكار الكبرى في التاريخ

10.12.2018
محمد بدر الدين زايد


الحياة
الاحد 9/12/2018
عندما ناقشت الأسبوع الماضي الورطة التي أوقع فيها دونالد ترامب بلاده والعالم برفض تقرير حكومته المدعوم برأي 300 عالم حكومي أميركي فيما يتعلق بتغيير المناخ، فإنني أضيف اليوم إشكالية أخرى – وهي أن الرجل يهدر بذلك أحد أكبر القيم والمفاهيم الكبرى في العالم منذ عصر النهضة، وهي قيمة وجدوى العلم، وهي مسألة تزداد أهميتها إذا تذكرنا أن جانباً كبيراً من الإنجازات والريادة الأميركية في العالم تحققت بفضل العلم واكتشافاته واحترامه، بل للولايات المتحدة فضل محاولة الاستفادة من مناهج العلوم الطبيعية في تطوير الأبحاث الاجتماعية، وامتد هذا إلى خدمة عملية صنع الفرار الأميركي السياسي بما أحاط هذا من إيجابيات وسقطات ليس هذا موضعها الآن.
وفي الواقع إن تأمل ما يحدث في العالم اليوم، أو بالأدق في الكرة الأرضية، يشير إلى أن المراجعات والتساؤلات قد امتدت إلى كثير من المفاهيم الكبرى التي اعتبرتها البشرية جزءاً مهماً من إنجازاتها على مر العصور، وأناقش بعضها اليوم، من ذلك فكرة الاندماج وبناء التكتلات الكبرى، وفي هذا الإطار كان الاتحاد الأوروبي هو النموذج والمثال الذي حاول الآخرون الاحتذاء به، ولكنه بعد مسيرة حافلة بالانجازات بدأ في التراجع الواضح، فعجز عن أن يحول قوته الاقتصادية إلى قوة سياسية واضحة في العالم، ثم جاء خروج المملكة المتحدة ليحدث هزة ضخمة تعقد من المسيرة الأوروبية، وجاءت هذه النكسات بعد سلسلة نجاحات ضخمة وتوسع كبير في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، وبدأنا بشكل مصاحب لخروج بريطانيا نسمع عن قلاقل هنا وهناك وتهديدات لتوجهات قومية وشعبوية في العديد من دول القارة ونقاشات حول جدوى الاستمرار في هذا الاتحاد، صحيح أن الكتلة الألمانية الفرنسية الصلبة استطاعت إعادة التماسك، ما فسر الموقف الأوروبي الحاسم والحاد في التعامل مع انفصال كاتالونيا عن إسبانيا، الأمر الذي قلل بشكل ملحوظ من ترديد هذه النغمات، وصحيح أيضاً أن علاقة المملكة المتحدة تاريخياً بهذه الفكرة ملتبسة منذ البداية، ما فسر بطء انضمامها أصلاً، ولكن هذا كله لا يغير من واقع أن قدسية ومكانة فكرة التكتلات والاندماج لم تعد كالسابق.
وربما يمكن القول إن نموذج التراجع أكثر وضوحاً فيما يتعلق بفكرة أكبر في منظومة التقدم، وذلك فيما يتعلق بفكرة حقوق الإنسان والتطور الديموقراطي التي تحتل بالضرورة مكانة أكبر في منظومة الأفكار الكبرى منذ عصر النهضة والتنوير، رغم أنها فكرة تمتد جذورها في الحضارات القديمة خاصة الإغريقية، وكان للديانات السماوية إضافاتها المهمة بهذا الصدد، على أن الانطلاقة الكبرى كانت مع الثورتين الفرنسية والأميركية قبلها، ومع ذلك ما كان ممكناً حدوث تقدم حقيقي في هذه المسألة إلا بعد انتهاء الظاهرة الاستعمارية أو تقلصها بدرجة كبيرة وهي التي تشكل الانتهاك الأكبر لحقوق الإنسان وتعطي لشعب ما حق استعباد شعب آخر، وشهد الربع الأخير من القرن العشرين ازدهاراً وتقدماً كبيراً في هذا الصدد، وصحب هذا تبلور لمفاهيم في القانون الدولي الإنساني وحق التدخل لحماية الشعوب، على أن العقد الأخير شهد حالة من التراجع الملحوظ على صعيد الطروحات والممارسات في كثير من بقاع الأرض، وهو تراجع يعود بدرجة كبيرة إلى أن جذور توظيف هذه المفاهيم لخدمة السياسة والمصالح الغربية كانت جزءاً من الإدعاءات الغربية تاريخياً حتى قبل توظيفها ضد الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية ويتم تطبيقها تجاه دول الجنوب تاريخياً بطريقة انتقائية، ما أشاع معه مفهوم المعايير المزدوجة في السياسات الغربية، وكانت قمة هذه المعايير المزدوجة المستمرة بأشكال أسوأ اليوم هو الموقف من القضية والشعب الفلسطيني، وهي النموذج الصارخ على الكذب والنفاق الأميركي بشكل خاص. ويمكن القول كذلك إن النموذج الآخر المثير، الذي أظن أنه لم ينل بعد اهتماماً كافياً، هو جنوب السودان، فقد كان أحد المواضيع المفضلة لدى منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الكنسية الغربية حتى يتم انفصاله عن السودان، وما أن حدث وتبين مدى تعقد الوضع القبلي والاجتماعي والاقتصادي في هذه البلد، حتى رفعت هذه المنظمات ومعها دولها أيديها عن هذا البلد، وتركته لتناقضاته القبلية التي تتسم بدرجة عالية من التجاهل لمصالح البلاد، ليصبح استقلال جنوب السودان نقمة ومعاناة لشعبه أكثر مما كان الأمر قبل ذلك. وبالطبع هناك الكثير من النماذج الأخرى. وجاءت تطورات وتعقيدات الظروف التي أحاطت بما سمي الربيع العربي لتثير المزيد من الشكوك حول توظيف هذه الأدوات في سياسات الدول الغربية لتبرير التدخل وتعميق الاضطراب في كثير من المجتمعات العربية. وقد أدت هذه التطورات إلى زيادة حالات اللجوء والهجرة من هذه الدول، لتضيف إلى حالة مستمرة من سعي كثيرين ممن ضاقت بهم الحياة في بلادهم لمحاولة اللجوء إلى الدول الأوروبية والمتقدمة، لتواجه بسياسات وإجراءات مفهومة من هذه الدول لتقييد حركة اللجوء هذه، وليصحب هذا صعود لأفكار القوميية والتعصب الوطني اليميني والشعبوي في بعض الأحيان، والذي لا يكترث بالأساس لقضية حقوق الإنسان.
شخصياً أعتقد أن الأفكار الكبرى كحقوق الإنسان والديموقراطية والعدالة ليست اختراعاً غربياً، وإن كان دور الغرب هو الأبرز ولكنه يظل خلاصة وحصيلة التطور الإنساني، لعبت الحضارات المختلفة القديمة والأديان السماوية وحتى غير السماوية أدواراً في بلورتها وتطورها، ومن ثم هي مكتسبات وتطلعات مشروعة للإنسانية، وأن ما نراه اليوم هو نكسات وتراجعات، بسبب السياسات والمصالح الدولية، خاصة الغربية منها، وبسبب استمرار توظيف الدين في السياسة بمستويات متزايدة، وهي إشكالية كبرى تتجاوز عالمنا العربي والإسلامي، فمثلها مثل الظاهرة الصهيونية التي هي أحد أكبر نماذج هذا في التاريخ الحديث، وإنما أيضاً في تيارات مسيحية يمينية متعصبة كانت ومازالت في عدد من المجتمعات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة ممثلة في كتلة مهمة اليوم تقف خلف رئيسها الحالي دونالد ترامب. يضاف إلى كل ذلك خلل في المعايير والسلوك نتيجة لارتباك العالم الذي ترتب على طفرة التكنولوجيا الهائلة في مجالات الاتصال والمعرفة، ومعنى هذا أن فصول التطور البشري ما زال أمامها الكثير لمكافحة هذه الإشكالات والسياسات والارتقاء بمستويات المعيشة ونوعية الحياة، ومعنى هذا أيضاً أن فوكوياما كان مخطئاً حول نهاية التاريخ، فما زال هناك الكثير لبناء عالم أكثر تنوراً وتوازناً.