الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مدن سوريا المنسية تنتظر شهودها

مدن سوريا المنسية تنتظر شهودها

07.02.2019
سوسن جميل حسن


سوريا تي في
الاربعاء 6/2/2019
في الشمال الغربي السوري، حيث توجد عقدة لم تزل قيد التفاوض حاليًا من قبل الأطراف الضالعة في الأزمة السورية الحالية، توجد منطقة تسمى الكتلة الكلسية، تبدأ من الحدود التركية شمالاً وحتى طريق خان شيخون - أفاميا جنوبًا، ومن طريق حلب - معرة النعمان - خان شيخون شرقًا حتى سهل الغاب ووادي العاصي غربًا، رصدت فيها المنظمات الدولية المعنية بالتراث الإنساني ما يقارب ثمانمئة موقع أثري وقرية تحكي قصة من تاريخ البشرية في هذه البقعة المصابة بلعنة التاريخ والجغرافيا "سوريا"، وتقدم البراهين على المستوى الحضاري الذي وصلت إليه في الماضي، والحياة التي ازدهرت فيه.
إنها "المدن المنسية". تلك المدن التي مرت بفترات ازدهار كان أهمها في العصر الروماني والبيزنطي، حتى النصف الأول من القرن السابع الميلادي، ثم بدأ الدمار والانحدار إثر الغزو الفارسي للمنطقة واستباحة الأرض وأشجارها وساكنيها، فقطعوا أشجار الزيتون التي كانت سفيرة المنطقة إلى العالم، فمنها عرف العالم زراعة الزيتون التي صار لها مالكوها وحاضنوها ومصدرو زيوتها وثمارها إلى كل بقاع الأرض، بينما عجزت سوريا عن أن يكون لها موقع الريادة أو حتى المنافسة في هذه الصناعة النبيلة. لتأتي الطبيعة وتتحالف مع الزلازل التي تحدثها الحروب فتنقض على المنطقة أيضًا وتزيد من دمارها، وبعدها الحروب بين الحمدانيين والبيزنطيين في المنطقة التي أدت أيضًا إلى تدمير بعض القرى، ثم الحروب الصليبية، وعادت الحياة في القرن التاسع عشر بشكل بطيء إلى بعض مراكز السكن الرئيسية وتسارع السكن الجديد والزراعة بعد الحرب العالمية الأولى بفضل زيادة الأمان في الريف وفتح الطرق الجديدة وتوفر الأسباب التي تساعد في تشكل المدن والتجمعات البشرية بفضل التطور الذي شهده العالم في ذلك التاريخ.
المدن والقرى التي صُنفت على أنها آمنة عاشت على صدى الحرب ولحقتها بعض الشظايا
يحضرني التاريخ، وقصص المدن المنسية وتراجيدياتها وأنا أعود إلى البلاد مسكونة بهواجس الواقع محاصرة بالأخبار التي تعرض نزيفنا وأرواحنا وبازارات التفاوض والمساومة الرخيصة علينا، ويصدمني واقع مدننا، حتى تلك التي لم تكن منسية ولم تأكلها الحرب من السماء والأرض والبحر كغيرها، المدن والقرى التي صُنفت على أنها آمنة عاشت على صدى الحرب ولحقتها بعض الشظايا واستقبلت أبناء أخواتها من المدن والقرى التي التهمتها الحرب أو أوشكت على التهامها، مع أن هذه المدن الباقية بحكم المنسية بواقعها الذي تتحكم فيه إدارة الحرب ومافياتها، إنها تعيش كضحايا للسياسات الغبية والجبارة، تتكيف مع التغيرات بطريقة تسلب منها في المقابل كل حوافز الحياة، مقيدة بالقدر العام الذي لا حرفة لها به.
لقد انساق الشعب السوري إلى مصائره الكارثية تحت سطوة السياسات التي رسمت خرائط الطريق له، مثلما لو أن هذا القدر العبثي هو أقصى ما يستحقه شعب في عصر الحقوق الإنسانية والمعرفة التي أماطت اللثام عن تاريخ البشرية ونسّقت حقبه المظلمة وما حفل به من ظلم وجور وإذلال بني البشر تجاه بعضهم البعض، لكن التاريخ في هذه المنطقة الحاضرة المنسية يعيد نفسه بفجور أكبر. تجتاح حياته الأمراض والعوز والفقر والمجاعة والهجرة والموت، ويحاصره الانهيار من كل صوب، فكل أركان الحياة تتداعى في التعليم والقضاء والدوائر الحكومية والخدمات والبنية التحتية، والحياة تسير معاقة نازفة بينما لا يملكون قدرة على إبداع ما يعافيها ويجعل منها حياة تحتضن أبناءها.
المدن السورية المنسية عقدة العقد في الأزمة السورية، تصرّ الحرب على الإمساك بمصيرها ودفعها إلى حظيرة النسيان من جديد، تتصارع عليها أطراف الحرب وتتفاوض عليها في الوقت نفسه، تعلو أصواتهم ليس بالحناجر فقط بل بالسلاح، بالقصف من السماء، من الأرض، بكل الأسلحة التي يضخها سوق السلاح العالمي إلى هذه المنطقة، ويبقى مصيرها مفتوحًا على كل احتمالات الخراب أمام نسيان آخر، نسيان أو تناسي الضمير العالمي للمجازر التي ترتكب كل يوم، والمجازر الأخرى اللامرئية تلك التي تعمل في العمق وفي السر بالتغيير الديموغرافي والضخ العقائدي ومصادرة الوعي والضمير والمجال العام.
لم تعد وحدها تلك المدن منسية، صارت سوريا بأطرافها المترامية في طي النسيان بالنسبة لذاكرة أبنائها الحالمين بالعودة وأولئك الباقين فيها على مشارف الموت والخراب، الكل مصاب بفجوة عميقة في ذاكرته وروحه، لقد دقت الحرب أسافينها بين السوري وماضيه، وبينه وبين أهله وأصدقائه وأتراب طفولته، فصار معلقًا في فضاء لزج مشبع بالصور التي تفوح منها رائحة البارود مختلطة برائحة الدم واللحم البشري المحترق. غادرت الأماكن مواقعها. ورمت ساكنيها إلى المجاهيل يكابدون وجع أن يكونوا شهودًا مخذولين محبطين على عصر البربرية والانحطاط الإنساني، أليست عقوبة شاقة أخرى تضاف إلى ما مورس بحق هذا الشعب؟ أن تبقى صور الشهادة التي عاينوها عالقة على أرواحهم في الوقت الذي نسفت فيها أرواحهم ونسف ماضيهم ونسفت ملامح هوياتهم التي ما إن باشرت تحبو في طريق تشكلها كهوية قادرة على النهوض حتى صادرتها أنظمة الاستبداد السياسي والديني وتنازعتها وشرذمتها وتركتها وقودًا لحرب لم يشهد التاريخ المعاصر مثلها؟
كيف للسوري أن يتصالح مع الحياة ويستعيد توازنه بعد هذا الشرخ الرهيب بينه وبين ماضيه القريب؟ كيف يستعيد صلته بالأمكنة فيما لو رجع إليها بعد أن صارت أطلالاً؟ كيف تنمو روحه في المستقبل وقد اقتلعت جذورها، فلا الدار دار ولا الأصحاب أصحاب ولا الأهل والجيران؟ لقد كابد السوريون باصطيادهم الخسيس لصالح هذه الحرب مرارة العيش في هذه المرحلة، وشهدوا واختبروا من التاريخ ما لم يشهدوا ويختبروا بشراسته من قبل، لم تقف الحرب بجبروتها عند الصدوع والشروخ التي أحدثتها بينهم وبين ماضيهم، بل حفرت الخنادق بين أجيال أبنائهم وبين المستقبل، المستقبل المرتهن للسياسة الحاقدة الجبانة، وحولتهم آلتها إلى كائنات هائمة بين واقع وأوهام. ومثلما الشعب السوري منسي ومتروك لأقدار عبثية ليست من صنع الغيب بل من صنع البشر بكل ما يحملون من طاقة على الشر، كذلك مدنهم وقراهم صارت منسية، يستعيد التاريخ شيطنته عليها، من دون أن يكون لها من يقيم لها المهرجانات تحت رعاية القيادة الحكيمة والحزب الأوحد الذي حباها الله به قائدًا للدولة والمجتمع.
هل ستكون هناك "فرقة ناجية" بضمير نزيه مقاوم لكل أشكال التجييش والتضليل والتعمية تفاجئنا وتفاجئ التاريخ يومًا ما بأنها وثقت جزءًا من الحقيقة عن هذا العصر السوري المتفسخ؟ إنها المسؤولية التي تهز بنيان كل ضمير في لحظة صحوه، مسؤولية الأمانة في زمن الخيانات، النزاهة في واقع الاستنقاع والعفن، لكنها مسؤولية تستحق المواجهة والتصدي لها، إنها حق أبنائنا وأحفادنا علينا، نحن الذين عشنا لنكون شهودًا على تاريخ بلدنا خلال خمسين عامًا.