الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "محرقة إدلب" وأهدافها

"محرقة إدلب" وأهدافها

03.06.2019
عقاب يحيى


جيرون
الاحد 2/6/2019
تقول الوقائع إن اتفاقات خفض التصعيد، وتحديد مناطق بعينها، كانت كذبة كبيرة، ومسرحية قامت بها روسيا، لتمكين النظام من استعادة السيطرة عليها، تحت وقع المحرقة الروسية وما فرضته من أمر واقع، و”مصالحات” قسرية خدمت المشروع الروسي والنظام السوري، والوجود الإيراني.
لقاءات أستانا التي كانت من إعداد وإخراج الروس بشكل رئيس، والتي اضطرت تركيا إلى المشاركة فيها بعد هزيمة حلب، كان ظاهرها إيقاف أعمال العنف والحرب، من “الطرفين المتحاربين” (النظام وفصائل المعارضة) وباطنها شيء آخر، حيث إنها ركّزت على المناطق التي كانت خاضعة للمعارضة فقط، وانتهت بالتهامها، ولم يبقَ منها سوى إدلب.
إدلب حكاية طويلة بفصول متعددة، حيث أُجبر آلاف المقاتلين والمواطنين على الانتقال إليها، من المناطق التي كانت المعارضة تسيطر عليها، وضمن وعود خلّبية عن الأمان والأمن، حتى وصل عدد القاطنين فيها إلى نحو 4 مليون، يمثل اللاجئون من شتى المناطق السورية نحو ثلاثة أرباعهم، وهم إمّا من المقاتلين التابعين لفصائل “الجيش الحر”، أو من مؤيدي الثورة في عموم المدن والمناطق السورية.
نظريًا، برزت لقاءات أستانا وكأنها المنطلق لفرض مناطق خفض بالتصعيد، بضمانة من الأطراف الرئيسة التي تشكلها، بينما كان الواقع خلاف ذلك، حيث إن تلك الاتفاقات التي عقدت في الغوطة الشرقية، وريف حمص، ودرعا لم تكن تركيا طرفًا مباشرًا فيه، بل دخلت أطراف عربية ودولية على الخط كضامن، منهم الولايات المتحدة الأميركية، والأردن، ومصر، والذين تنصّلوا من التزاماتهم، وتركوا أهالي المنطقة وفصائل الجيش الحر فيها وحيدين أمام آلة الحرب الروسية المتطورة، وأسلوب الأرض المحروقة، واستهداف الحاضنة الشعبية والبنى التحتية لخلق واقع ضاغط من الأهالي يطالب بالأمن والأمان وخروج القوى المقاتلة بأي شكل، وثمن، ولم يبق من تلك المناطق سوى إدلب.
شكليًا، جرى الاتفاق بين أطراف أستانا على أن تتولى تركيا أمر إدلب، لمعالجة وضع “هيئة تحرير الشام” (التنظيم المصنف على أنه إرهابي، والذي نجح في بسط سيطرته على الجزء الأكبر من المدينة وريفها)، بحلّ ما، وقامت تركيا بوضع 12 نقطة تفتيش ومراقبة، وعلى أساس أن تنجح في “احتواء” أو تفكيك تلك الهيئة، خلال زمن منظور (ستة أشهر)، وتبين بالواقع الملموس أن استخدام القوة العسكرية لتصفية وجود تلك (الهيئة) عملية شبه مستحيلة، وشديدة الكلفة، لكونها متغلغلة جدًا بين السكان، وتقيم معظم أنفاقها وتحصيناتها وقواها العسكرية بين المواطنين؛ ما يعني أن كلفة إزالتها ستكون باهظة من أرواح المدنيين، ومن عمليات التدمير الشامل، كما جرى في حلب ومناطق سورية الأخرى، وهو أمرٌ رفضته تركيا، ورفضت تحمل مسؤولية تلك الضحايا والدمار، وما ينتج عنهما من حركة نزوح ولجوء ستتجه بجزء كبير منها نحو تركيا كملجأ وحيد متاح.
لذلك، فلقاء أستانا الأخير كان فاشلًا، بشهادة أطراف كثيرة حضرته، ولم يحقق نتائج واضحة، أو متفق عليها بشأن إدلب، ولذلك، أيضًا، بدأت روسيا ومعها النظام، وبمشاركة إيرانية عبر فيلق القدس، عمليات عسكرية متصاعدة، وصفها الرئيس الروسي بأنها محدودة، وقام عديد المهتمين بشرح أهدافها، والجغرافيا التي تشملها، وأنها تخصّ أساسًا تأمين حماية قاعدة حميميم الروسية من وصول الطائرات دون طيار، وصواريخ غراد، وبعض أنواعى المدفعية، إضافة إلى وضع اليد على الطريقين السريعين بين حلب ـ دمشق، وحلب اللاذقية، بينما كانت تصريحات النظام، وحشوده العسكرية تركز على “استعادة إدلب بالكامل” وإعادتها إلى سيطرة النظام.
تركيا التي اتهمت من أطراف سورية متعددة بأنها متواطئة مع روسيا، أو متفقة معها، أو بينهما مقايضة، ردّت بشكل صريح على أنها تعتبر المساس بوضع إدلب، واتفاق خفض التصعيد فيها أمرًا يمسّ بأمنها القومي، وارتبط ذلك بتقديم دعم لوجستي لفصائل “الجيش الحر”، وتسهيل قدوم عديد الفصائل العسكرية، خاصة تلك التي تنحدر من مناطق الغوطة وحمص ودرعا، إلى إدلب للمشاركة في الدفاع عنها، مما أوجد ميزانًا جديدًا للقوى كان من نتائجه المباشرة استعادة عديد المناطق التي استولى عليها النظام، بإسناد ودعم روسيا، وتكبيده خسائر فادحة، وبما اعتبر تطورًا نوعيًا تقف تركيا بقوة خلفه، وقد عكس ذلك تصريح اللواء فيكتور كوبتشيشين، الناطق باسم الجيش الروسي في قاعدة حميميم حول إدلب وتركيا، إذ يقول: “جاء الردّ التركي على مقترحاتنا عكس ما توقعنا، لذلك سنقوم بالإجراءات اللازمة، وهي اقتلاع الإرهاب من المناطق التي تهدد أمن جنودنا ومصالحنا ومصالح حلفائنا”.
لذلك تشنّ روسيًا حربًا إجرامية شاملة ضد إدلب، ومعها جحافل النظام، وقطعان إيران عبر سياسة الأرض المحروقة، وتحت عنوان “محاربة الإرهاب”، في حين تدلّ وقائع القصف اليومي أن المستهدف الرئيس هم المدنيون، والحاضنة الشعبية، وأن “هيئة تحرير الشام” المرفوعة كراية، وذريعة لم تستهدف بشكل رئيس، ولم تتضرر مواقعها.
تطورات “المحرقة” تفتح أشداق الموت والدمار، وترسم لوحة سوداء عن طبيعة الاحتلال الروسي، وتشابك أهدافه مع النظام، وتمكينه من استعادة السيطرة على إدلب، وبالوقت نفسه، يطرح الأمر تحديات كبيرة على فصائل الجيش الوطني الحر، لإثبات جدارته، والاستفادة من الدروس السابقة في مزيد من التوحّد، والعمل المشترك لإفشال الخطة الروسية بتدمير إدلب، كما أنه يطرح على تركيا مهمات كبيرة، لعل منها إعادة النظر في طبيعة العلاقة مع روسيا، وتقديم مزيد الدعم لفصائل الجيش الحر، ووضع حد لوجود “هيئة تحرير الشام” وما تمثله من تهديد دائم لإدلب وسكانها، ولمجموع الفصائل التابعة للجيش الوطني الحر، ونزع هذه الذريعة.