الرئيسة \  واحة اللقاء  \  متى تنتهي حالة الانفصام عن الواقع؟!

متى تنتهي حالة الانفصام عن الواقع؟!

05.11.2019
يحيى العريضي



سوريا تي في
الاثنين 4/11/2019
لم تختلف مقاربة الروس للمسألة السورية في قمع انتفاضة الحرية السلمية السورية كثيراً عن مقاربة النظام لها؛ حيث كانت اليافطة التي تلظيا تحتها: "مقاومة الإرهاب". فلم يغب عن تصريحات الروس بخصوص سوريا البحث عن حلٍ سياسيٍ للمسألة. قالها الرئيس بوتين ذاته نهاية 2015؛ بأنه في سوريا لثلاثة أشهر عسكرية، ثم يكون الانتقال إلى عملية سياسية.
مضى على وجود القوات الروسية في سوريا أكثر من أربع سنين؛ تألقت خلالها بالعمل العسكري واستعراض كل صنوف أسلحتها الحديثة على الأرض السورية. صدرت خلال فترات القتل والتدمير المستمرة قرارات دولية دعت إلى وقف إطلاق النار وإطلاق عملية سياسية في الحل السلمي. ساهمت روسيا العضو في مجلس الأمن بصناعة تلك القرارات، وما توقفت عن الحديث عن حل سياسي. عقدت "أستانا" و "سوتشي"؛ وأخيراً رأت أن المدخل لحل سياسي يكون من خلال القرار الدولي 2254، والبداية من لجنة دستورية سورية تكتب دستوراً جديداً للبلاد.
لم تختلف سردية نظام الأسد عن السردية الروسية في "حل سياسي" إلا في تضارب النوايا والأهداف. عاشا على الحديث في "السلام"، والقيام بالأعمال العسكرية في الوقت ذاته. وكان الفرق الأساس هو أن الروس بحاجة فعلية إلى جنى سياسي؛ أما نظام الأسد- ورغم الحديث في الموضوع- فلا يستطيع إيقاف العسكرة شريان حياته. أخيراً تغلبت إرادة الروس، رغم كل محاولات النظام في العرقلة والتملص حتى من مجرد خطوة بسيطة نحو حل سياسي تمثل بإطلاق اللجنة الدستورية.
كانت آخر محاولة للنظام في التملص من هذا الاستحقاق ما ورد على لسان رئيس النظام في تسخيف هذه الخطوة والنأي بنفسه عنها. ففي مقابلة مع تلفزيونه المحلي سعى للتبرؤ حتى من وفده في اللجنة مسدلاً عليه صفة: "الوفد المدعوم من الحكومة"؛ رغم أن ما صدر عن الأمم المتحدة، وبمباركة ودعم الروس أنفسهم، سمّى مَن يصفهم بالمدعومين حكومياً "وفد الحكومة السورية"؛ ولكنهم لم يكونوا- حسب توصيف رأس النظام- أكثر من أشخاص لديهم "هوى سوري"؛ وذلك رغم أن وزير خارجيته كان قد وقّع مذكرة الاتفاق على اللجنة.
وللإمعان بالإساءة للجنة، أسدل صفة "العملاء او المرتبطين بالأجنبي أو الإرهابيين" على الثلثين الآخيرين. وإن دلّ هذا الموقف على شيء، فإنه يعكس حالة من الضيق، والارتباك، والمحاولة اليائسة للتفشيل؛ الأمر الذي تمت ترجمته في قاعة الأمم المتحدة في جنيف بخطابات استعلائية موتورة منفصمة عن الواقع تحاكي سردية عمرها تسع سنوات دمّرت سوريا؛ تقول للسامع / إما أنا، أو لا أحد/ عاكسة ذلك الشعار "أحكمها، أو أدمرها" الذي أوصل سوريا إلى هذا الحال.
خطاب المقابلة التلفزيونية ركّز على "محاربة الإرهاب"؛ وهكذا كان خطاب وفده الذي تبرأ منه.
"جنيف"، التي حاربها، وسعى لإفشالها على الدوام، اعتبرها مجرد "جغرافيا"؛ رغم أن الحُماة الروس، والأمم المتحدة حمّلوها البعد السياسي؛ وكان صدى ذلك مسموعاً في القاعة. رأى في ما ستركز عليه اللجنة من مضامين دستورية تليق بسوريا حرة خالية من الاستبداد خلقاً لدستور فيه فصل للسلطات وضمان للحريات، لعبة لإضعاف الدولة وتحويلها إلى دولة لا يمكن السيطرة عليها.
لا يختلف اثنان على أن القضية السورية، بتعقيداتها وبكثرة الأيادي المتدخلة فيها، لا يمكن أن تحلّها لجنة دستورية؛ وما خرج السوريون من أجل دستور
كان الفرق بينه وبين من أرسلهم أن لغته لم تكن شوارعية وتتحدث عن "الإليات" وبيعها، كما خرج من أفواه بعض مُرسَليه مدّعي الثقافة المنمقين.
لا يختلف اثنان على أن القضية السورية، بتعقيداتها وبكثرة الأيادي المتدخلة فيها، لا يمكن أن تحلّها لجنة دستورية؛ وما خرج السوريون من أجل دستور؛ وما قال من هم فيها بأنهم "سيصنعون العجائب"؛ وما هي - إن رأى منتجها النور- إلا خطوة نحو حل في سوريا، لا يمكن أن يكون مقبولًا، إلا إذا كان منسجماً مع طموحات السوريين في وطن حر لا يعيد تجربة مريرة دموية لتسع سنين.
أخيرا تلك الخطابات التي سُمعَت من "الوفد المدعوم من الحكومة"، وذلك اللقاء التلفزيوني، تستهدف جمهوراً سورياً؛ قد يكون مغلوباً على أمره؛ وأكثر ما يحتاجه هذا الجمهور ليس إلا التفاتة صادقة تحس به، وتعيده إلى حياة حرة كريمة؛ لا أن تستمر بتخديره وبالمكابرة وبالاستهانة بعقله. فهكذا سرديات منفصمة عن الواقع هي التي أوصلت سوريا إلى حال كهذا.
ربما يغيب عن بعض أولئك المستهدفين من تلك الرسائل، التي تكرّس المأساة وتفتت السوريين أكثر، أن وجهتها الأساس هي صاحبة اليد العليا في سوريا؛ كي تبقي على هذا المنظومة، وتأخذ أي شيء تريد. ولا أدري إذا كان هذا ما يقبله السوريون، أو يليق بهم!