الرئيسة \  تقارير  \  مترجم: بعد عقود من تفككها.. كيف ما زلنا نعاني من عواقب سقوط الإمبراطوريات؟

مترجم: بعد عقود من تفككها.. كيف ما زلنا نعاني من عواقب سقوط الإمبراطوريات؟

27.06.2022
ساسة بوست


ساسة بوست
الاحد 26-6-2022
إن التوصُّل إلى تسوية براجماتية هو أفضل ما يمكننا فعله ويجب أن نفعله في حرب روسيا وأوكرانيا، بحسب ما خلُص إليه أناتول ليفين، أحد كبار الباحثين في معهد كوينسي لفن الحكم الرشيد، وذلك في مقاله المنشور في مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، حيث سلَّط الضوء على الدروس التي يستقيها العالم حاليًا من سقوط الإمبراطوريات عبر التاريخ في التعامل مع الحرب الدائرة في أوكرانيا.
الإمبراطورية السوفيتية
استهل الكاتب مقاله بالإشارة إلى أن الاتحاد السوفيتي كان يُوصف عادةً في الغرب بأنه “الإمبراطورية السوفيتية”، وهذا صحيحٌ فعلًا من عدة نواحٍ رئيسة. وخلال الحرب الباردة، احتلت موسكو مجموعة من الدول على طول محيطها الخارجي، والسجل التاريخي لتوسُّع روسيا من خلال الغزو والاستعمار واضح لكل ذي عينين. لكن هذا لم يُؤدِّ إلى ما كان ينبغي أن يكون نتيجة منطقية في الإعلام أو الأوساط الأكاديمية عندما يتعلق الأمر بفهم الصراعات في المناطق السوفيتية السابقة: تحديدًا، لوضع هذه الصراعات في السياق الأوسع لما يحدث عندما تسقط الإمبراطوريات.
ويبدو عدم الاهتمام هذا أمرًا غريبًا، بالنظر إلى الانشغال الشديد من جانب المثقفين الليبراليين الغربيين بالإمبريالية وانتقاداتها. ويوضح الكاتب قائلًا: “عندما غطيتُ انهيار الاتحاد السوفيتي وتداعياته بصفتي صحفيًّا في صحيفة التايمز البريطانية، كوَّنتُ رأيي من خلال السنوات التي أمضيتها في العمل في جنوب آسيا، أولًا كوني طالبًا يدرس التاريخ الإمبراطوري ومن ثم بصفتي صحفيًّا. ولذلك، كان طبيعيًّا أن أرى تفكك المناطق السوفييتية في إطار مرحلة ما بعد الإمبراطورية. وربما كان هذا هو الاختلاف الجوهري بين رأيي ورأي معظم زملائي الغربيين”.
وبالطبع، كان الاتحاد السوفيتي حالة خاصة جدًّا بين الإمبراطوريات. ويوجد خط فاصل أساسي تتداخل فيه جميع الإمبراطوريات: وهو ما بين الإمبراطوريات البرية والبحرية. وكانت روسيا إمبراطورية برية، وبقيت هكذا في نواحٍ عديدة، من حيث تكوينها وسياستها على حدٍ سواء، لكن هذا أسفر عن عواقب وخيمة أثناء انهيار الاتحاد السوفيتي وبعده، واستمر ذلك حتى الآن، بحسب الكاتب.
علاقة غامضة بين الإمبراطوريات والحروب
يُوضح الكاتب أنه على الرغم من الحرب الوحشية المستمرة في أوكرانيا، فإن النزاعات والخلافات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي لم تكن الأسوأ في تاريخ الإمبراطوريات. وفي كل الحالات، أدَّى سقوط الإمبراطوريات إلى اندلاع أعمال عنف واسعة النطاق، والتي كانت تحدث، تارة أثناء الانهيار الإمبراطوري وبعده مباشرةً، وتارة بعد مرور عدة عقود على ذلك الانهيار. ولا تزال عواقب سقوط إمبراطورية هايسبورج والإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية وتفككها تؤثر حتى الآن، وعلى مدى أجيال لاحقة، في المناطق الخاضعة لها، مثل إيرلندا والشرق الأوسط وجنوب آسيا وأوروبا الشرقية والبلقان.
وهناك علاقة غامضة تمامًا تربط الإمبراطوريات بالصراعات المحلية، إذ ينطوي تكوين الإمبراطوريات على أعمال عنف شاملة وعلى إبادة جماعية أحيانًا. ومع ذلك، يتطلب الحفاظ على المصالح الاقتصادية والسياسية للإمبراطوريات ضمان توفر السلام عبر أراضيها. ومن المعلوم أيضًا أن الإمبراطوريات تعمل على تجميد النزاعات وإثارتها واحتضانها. ويُعزَى ذلك أحيانًا إلى أن الحكم الإمبراطوري يُرجئ النزاعات السابقة، مثل نزاعات الهندوس والمسلمين في الهند البريطانية أو نزاعات الأرمن والأذريين في عهد القيصر والسوفييت.
وفي بعض الأحيان يكون مصدر الصراع هو إنشاء الإمبراطورية دولًا جديدة أو دولًا ذات حدود جديدة، كما حدث في العراق، من خلال الخلط بين الأعراق المختلفة التي لم تعِش من قبل في النظام السياسي نفسه، أو تفريق الناس بين الدول المجاورة، أو إجبار الأعداء القدامى على العيش في ظل دولة واحدة، كما في يوغوسلافيا السابقة وعددٍ من دول أفريقيا.
ولا يسفر ذلك عن نشوب حروب أهلية فحسب، بل يُؤدي أحيانًا إلى اندلاع حروب بين الدول التي خلَّفتها الإمبراطوريات، كما هو الحال في كشمير ويوغوسلافيا السابقة وأوكرانيا، حيث تقاتل تلك الدول لإعادة ترسيم الحدود وفقًا لنسختها من الشرعية الطائفية أو العِرقية والدينية.
تداعيات انهيار الإمبراطوريات البحرية والبرية
يُنوِّه الكاتب إلى أن السُّخط المرير أحيانًا يكون سببًا في الهجرة الجماعية التي أطلقتها التنمية الاقتصادية الإمبراطورية أو الاستعمار الموجه، مثل نزوح الإنجليز والأسكتلنديين إلى إيرلندا، والصينيون إلى جزر الهند الشرقية، والهنود إلى فيجي وجزر الهند الغربية، والتاميل إلى سريلانكا، والجورجيين إلى أبخازيا، والروس إلى جمهوريات البلطيق وأجزاءٍ من أوكرانيا.
ولم تكن النتائج بمنأى في أي مكان عن التوترات الخطيرة. وربما يكون أفضل ما يمكن أن نأمله هو ترتيبات رسمية أو غير رسمية مثل التي تنتهجها ماليزيا ودول البلطيق، حيث يحتكر السكان الأصليون السيطرة على الحكومة وقوات الأمن، بينما يسيطر أحفاد المهاجرين الصينيين والروس على كثير من الاقتصاد أو جزء منه. أما أسوأ النتائج فهي المذابح المروِّعة مثل قتل الصينيين التي واكبت الانقلاب الإندونيسي عام 1965 أو الأحداث العنيفة مثل الحرب الجورجية الأبخازية في 1992- 1993 التي بدأت بمذابح جورجية مسلحة ضد الأبخازيين وانتهت بالتطهير العِرقي لمعظم السكان الجورجيين.
ولم يقدم القانون الدولي أو النظام الديمقراطي إجاباتٍ واضحة على أي من هذه الخلافات. وكانت نظرية تقرير المصير العِرقي باسم الديمقراطية، كما تبناها الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون في نهاية الحرب العالمية الأولى، هي التي قدمت أساسًا منطقيًّا ليبراليًّا للفصل العنيف وعمليات التطهير عبر النسيج العِرقي. وعلى غرار كوسوفو وقره باغ وشبه جزيرة القرم، غالبًا ما تعمل مبادئ القانون الدولي والديمقراطية ضد بعضها بعضًا، ونتيجةً لذلك تنتقي الدول وتختار من بينها ما يحقق مصلحتها الخاصة.
وفي نهاية المطاف، ليس من المنطقي أن نتوقع أن يلتزم السكان المحليون وقادتهم بالقوانين الدولية التي لم يضعوها أو يوافقوا عليها من الأساس. وعندما انهارت الإمبراطوريات البريطانية والعثمانية والسوفيتية وإمبراطورية هابسبورج وتفككت يوغوسلافيا، كان من الطبيعي جدًّا أن يسعى الكاثوليك الأيرلنديون الشماليون والأكراد وألمان إقليم السوديت وألبان كوسوفو والمسلمون الكشميريون والبنجاليون والبيافران والصرب والكروات والبشتون والشيشان وأوسيتيا الجنوبية وأرمن قره باغ وروس القرم للحصول على الاستقلال أو الاتحاد مع الأعراق في دولٍ مجاورة.
وأحيانًا، كانت النتيجة تقسيمًا مقبولًا دوليًّا كما هو الحال في آيرلندا وجنوب آسيا والسودان. وفي معظم الحالات، تُحدَّد الأمور من خلال مزيج من البراجماتية والقوة السائدة.
ويلفت الكاتب إلى أن هناك اختلافًا جوهريًّا واحدًا بين تداعيات انهيار الإمبراطوريات البحرية والبرية: إذ يمكن للقوى البحرية أن تعود إلى ديارها عبر مئات أو آلاف الأميال من المياه وتعزل نفسها عن الصراعات التي تركتها وراءها. أما في الإمبراطوريات البرية السابقة، فقد ظلت الأمة الإمبراطورية القديمة تحافظ على حدود ممتلكاتها الإمبراطورية السابقة، وغالبًا ما تمتد أغلبيتها وأقلية سكانها عبر تلك الحدود. وهذا ما تجلى مع إمبراطورية تركيا، التي تضم عددًا كبيرًا من الأكراد الذين يتداخلون مع الأقليات الكردية في سوريا والعراق وإيران، وهم الذين لديهم تطلعات للاتحاد وتشكيل دولة كردية واحدة.
وكانت تركيا لتواجه مشكلاتٍ مماثلة مع الأقليات الأرمينية واليونانية لو لم تقضِ عليهم جميعًا تقريبًا وتُجلِيهم من ديارها. وواجهت ألمانيا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، بصفتها الدولة التي خلَّفتها الإمبراطورية الألمانية، هذه المشكلة في الاتجاه المعاكس: أقليات ألمانية عِرقية كبيرة في الدول المجاورة كانت لديها رغبة في لَمِّ شملهم في ألمانيا موحدة.
وتنطوي دول الاتحاد السوفيتي السابق على هذين العنصرين. وفي إحدى الحالات، سيطرت إمبراطورية بحرية، مثل بريطانيا، على مستعمرة على حدودها المباشرة، مثل أيرلندا، مما أدَّى إلى أن أولئك الذين ينتمون إلى أقلية الاستعماريين يظلون مواطنين في الدولة الإمبراطورية السابقة. ونتيجةً لذلك، تحكم بريطانيا حتى الآن جزءًا من أيرلندا، وتورطت حتى التسعينيات فيما يرقى إلى حرب ما بعد الاستعمار.
ضرورة التوصُّل إلى تسوية في أوكرانيا
يُؤكد الكاتب أنه لا يوجد شيء من هذا كله يُبرر الغزو الروسي لأوكرانيا، أكثر من كونه يُبرر التصرفات المروعة للدول الإمبريالية في مرحلة ما بعد انهيار الإمبراطورية. لكن هذا يشير إلى شيئين: أولًا: أن الحروب الروسية في أوكرانيا والقوقاز ليست جزءًا من خطة أوسع للعدوان على الغرب، وأن هذه الحرب تدور حول أوكرانيا. لذلك، يمكننا البحث عن حل عملي للحرب دون خوف من أن يشجِّع ذلك روسيا على تهديد الناتو والاتحاد الأوروبي، مع احتمالية استثناء دول البلطيق، إذا اتخذت فقط بعض الإجراءات العدوانية المتهورة ضد روسيا.
وبخلاف عدة تقارير غربية، لم يكن هناك دليل ملموس على أن هناك نوايا روسية حقيقية لغزو دول البلطيق، ناهيك عن فنلندا أو بولندا. وكما أخبرني مسؤول روسي سابقًا، “لقد حكمنا بولندا حوالي 200 عام، ولم تجلب لنا سوى مشكلات لا نهاية لها. فلماذا بحق الجحيم نرغب في ابتلاع ذلك القنفذ مرةً أخرى؟” ولذلك، ليس من الضروري، من وجهة نظر المصالح الغربية الحاسمة، السعي دائمًا لإيقاف روسيا.
ثانيًا: يتعين على الغرب أن يبذل جهودًا أكبر من أجل التوصل إلى تسوية في أوكرانيا في إطار روح من الواقعية الأخلاقية، بهدف تحقيق سلام دائم يضمن استقلال أوكرانيا والمسار المحتمل نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بدلًا من تلك الروح السائدة من النزعة القانونية المبالغة والأخلاقية الزائدة التي قد تجعل السلام مستحيلًا، وهو ما لن يغفره لنا التاريخ. وفي معظم الحالات التي تحقَّق فيها نوعٌ من السلام، مهما كان معيبًا، كان من خلال التوصُّل إلى شكل من أشكال التسوية البراجماتية. وهذا أفضل ما يمكننا فعله ويجب أن نفعله في حرب روسيا وأوكرانيا، بحسب ما يختم الكاتب مقاله.