الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ما فوق الاستبداد في سورية

ما فوق الاستبداد في سورية

19.03.2017
رؤوف بكر


الحياة
السبت 18/3/2017
بعد ستة أعوام من انطلاق التظاهرات في سورية، تُطرح تساؤلات عن الدوافع والمآلات، وإن تأخر الوقت. وعلى ما يظهر، أيقظ مسار 2011 رغباتٍ ووفر المناخ المناسب لتحقيق أحلام النظام الذي درس طيلة العقود الماضية، بعقلية سوسيولوجية أقرب إلى الأكاديمية، التناقضات داخل المدينة الواحدة أو حتى الأحياء المجاورة لبعضها بعضاً، وعمل على تهيئة ظروف تفاقمها وغذّاها وتغذى عليها.
وحينما كان كثيرون يستفسرون باستنكارٍ عن سبب استنكاف أكبر مدينتين عن الانضمام إلى الهبّة الشعبية، غابت حقيقة أن دمشق، عدا عن كونها محمية عسكرياً لأنها العاصمة، تحمل طابعاً كوزموبوليتياً بعض الشيء بوجود «مهاجرين» من الأرياف و «مستوطنين» من مناطق موالية للنظام. وابتُدع مصطلح «أولئك الذين من خارج السور والذين من داخله»، ويقصد به السور المحيط بالمدينة القديمة قبل التوسّع، للدلالة على الدمشقي «الأصيل» وتمييزه عن «الدخيل».
شكلت هذه الحركة المختلطة في الاتجاهين تباعاً ما بات يعرف بـ «حزام دمشق» الذي عمد النظام إلى تفريغه، مستغلاً ذريعة التظاهرات التي كانت نسبة معتبرة من الدمشقيين غير راضية عن اقتحامها مناطقها نتيجة مخاوف يعود جزء كبير منها إلى أسباب طبقية (حكي كثيراً بتذمّرٍ ملحوظ عن الأصول الدرعاوية لسكان حي الميدان، الحي الوحيد داخل العاصمة الذي خرج بقوة ضد الأسد).
أما حلب، فحرص النظام منذ منتصف الثمانينات على عدم الصدام مع أهلها مباشرةً واستفزازهم بجلب حاضنته الشعبية إليها، فعمد إلى تفكيك المجتمع وضربه بعضه ببعض من الداخل بأيدي أهله، بالتوازي مع سياسة «تتفيه» الحلبيين. ولعل هذا ما يفسر، على سبيل المثال، هذه النقمة المتبادلة والانقسام المخيف بين الشطرين المتجانسين مذهبياً للمدينة، الشرقي والغربي، الذي قد لا تعادله حالة العداء السني- العلوي المعروف تاريخياً في مدينة جبلة الساحلية. وعليه، كان من الطبيعي أن يتحول الشرق، الذي يقطنه الوافدون من الأرياف وشريحة الدخل المحدود، إلى مركزٍ للثورة، يقابله رفض القسم الغربي المسكون ببرجوازييها الالتحاق بالحراك ليس لأنهم باتوا تدريجياً مرتبطين عضوياً بالنظام فحسب، بل خشية دوافع فوقية أيضاً، «غزواً» شرقياً للمدينة بأكملها. وتحفل مواقف البرجوازية الحلبية، التي هي ليست على وفاق مع النظام بأي حال، باتهامات لأهالي ريف محافظتهم بأنهم نقلوا المعركة إلى المدينة صيف 2012 رغبةً في تخريبها تنفيذاً لبواعث طبقية دفينة.
ولهذا، يسهل تفسير الاحتفالات الكرنفالية التي شهدتها الأحياء الغربية لدى دخول القوات الحكومية تلك الشرقية.
وكان الأمر مختلفاً بعض الشيء مع حمص وحماة لوجودهما في خط فالق الزلازل المذهبي. فموقع المحافظتين على تماس المناطق التي شكلت الدولة العلوية قبل نحو مئة عام، بل وتداخلهما مع قرى وأحياء فيها، كوّن وعياً طائفياً لدى أغلبيتها السنية، تفوق على الطبقية إلى حدٍ ما، كان مفقوداً لدى سكان دمشق وحلب. ومن هنا، كانت قساوة رد النظام، فحدث الخروج الكبير لسكان حمص والكثير من مناطق ريف حماة وسهل الغاب. ولعل الإيجابية الوحيدة في هذه الحصيلة المحبطة هي الاستثناء الذي نجحت مدينة حماة في الخروج منه بالمحافظة على تعداد سكانها إلى حدٍ معقول، عبر الاتفاق الضمني بعدم إطلاق معارك لا تنتهي إلى نصرٍ عسكري يكون المدنيون الخاسر الوحيد فيها. وهذا أيضاً ما سهّل غياب لازمة اللوم الطبقي في الحالتين الحمصية والحموية، بخاصة مع وجود تجانسٍ معقول من هذه الناحية يطبع حمص تحديداً.
أما بالنسبة إلى شرق سورية، فيعلم النظام تركيبته الاجتماعية العشائرية وطرفية محافظاته المهملة، ما وفّر بيئة خصبة لاقتحام التنظيمات الإرهابية تلك المناطق، وأدرك كذلك التداخل العرقي والتوترات الناجمة عنه، ليلعب كل ذلك دوراً مساعداً في خلق نزاعات جانبية تخدم هدفه في تفكيك تلك المجتمعات. وتبقى إدلب، التي تكفي الإشارة إلى قرار منع النساء من رسم حواجبهن تحت طائلة العقوبات لفضح بؤس القائمين على إدارة المحافظة التي باتت بفضل تفاهتهم تملك قدرات ميتامورفوزية تجعلها قريبة من تورا بورا.
والمشهد اليوم يلخص الحالة: منصّات وسلال سياسية، وفصائلية ارتزاقية مستشرية وأمراء حرب متناحرون وطبقة متوسطة تحولت إلى شريحة لاجئين وعاطلين عن العمل في المخيمات والمنافي، بعد مقتل وتهجير أزيد على نصف سنّة سورية. وبالنظر إلى الخلفيات والأثمان معاً، يبدو أن مراعاة الأولويات كانت أجدى من المطالبة بكرسي الأسد.