الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ما بعد "آستانة": مرحلة مفصلية

ما بعد "آستانة": مرحلة مفصلية

04.02.2017
حنا صالح


الشرق الاوسط
الخميس 2/2/2017
دخلت حرب سوريا ما بعد مؤتمر "آستانة"، مرحلة مفصلية تُدار كما يبدو بنوع من التفاهمات الكبرى، تبقى موسكو محورها، وإن بتفاهم واسع مع أنقرة، ومحدود مع طهران، دون استبعاد هواجس دول الإقليم. العاهل الأردني حلّ ضيفًا على الرئيس الروسي مباشرة غداة "آستانة"، والمعارضة السورية التي لم تُدع إلى "آستانة" تلبي دعوة الوزير لافروف... كل ذلك في سياق جمع الأوراق، تحضيرًا لإنجاز الصفقة الكبرى مع واشنطن. أميركا الرئيس ترمب، التي تتحرك بدينامية بإعلان الاستعداد للمشاركة مع روسيا محاربة "داعش"، وبأمر تنفيذي للخارجية والدفاع أن تعدا في 90 يومًا "خطة لمناطق آمنة للمدنيين في سوريا".
كل ما يدور خلف الأبواب المغلقة، أو في الميدان (مؤتمر "آستانة" ساهم في تسريع التفجير بين "الجيش الحر" و"النصرة")، يناقش الأدوار وحجم النفوذ والمصالح سواء كانت أمنية أم جيوسياسية، كلها أمام الرئيس الروسي بوتين، الذي تجاوز وصف الرئيس الأميركي السابق أوباما لبلاده بأنها دولة إقليمية، فأنجز تفاهمًا عميقًا مع الرئيس التركي إردوغان، ووضع أجندة مع رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو، ولا يستعجل خلخلة تحالفه مع إيران، وله خط اتصالات مفتوح مع مصر، ولم ينقطع يومًا الحوار الروسي مع السعودية ودول الخليج، مباشرة أو عبر تركيا، التي يتزايد دورها ونفوذها وتأثيرها تحت مظلة الاتفاق مع روسيا.
بهذا السياق تحول مؤتمر "آستانة" إلى محطة بدء رحلة إنجاز "التسوية" في سوريا، دون أن يعني ذلك أن هذه "التسوية" هي الحل العادل الذي ينشده الشعب السوري، بقدر ما يجب أن تعكس الأوزان الإقليمية والدولية، بوصف ذلك بوليصة النجاح. إنجاز صيغة المشاركة السورية شكل ثمرة جهود روسية وتركية، مع قادة الفصائل العسكرية استمرت عدة أشهر، تخلت خلالها موسكو عن تصنيف "جيش الإسلام" و"أحرار الشام" فصيلين إرهابيين، وبتوقيعه اتفاقية وقف النار تخلى النظام عن هذا التصنيف، وشملت الاتصالات كثيرين من الضباط المنشقين وشخصيات من المعارضة السياسية في الهيئة العليا والائتلاف والمنصات.
موسكو التي لم تعامل الفصائل المسلحة كطرف مهزوم، تراهن على هذه الصيغة للذهاب إلى جنيف، وفق مرجعية يتم الآن بلورتها وتتمحورُ حول خريطة طريق، تبدأ بترسيخ وقف النار وآليات مراقبته، إلى مشروع مجلس عسكري يرسم التعاون بين الجيش النظامي والفصائل المسلحة ضد الإرهاب، والمسألة الثالثة بدء البحث في سُبل قيام حكومة وحدة وطنية، وليس هيئة انتقالية، تضم ممثلين عن النظام والمعارضة (سياسية ومسلحة) وجهات مستقلة، على أن تناقش وتقر الإصلاحات السياسية، وربما دستورًا جديدًا، وضعت موسكو مشروعًا انتقاليًا له (...) ولاحقًا انتخابات مبكرة. وتسرب معطيات عن إشارات روسية بأن الرئيس السوري، قد يفوضُ بعض صلاحياته للمجلس العسكري وحكومة الوحدة.
مفاوضات جنيف آتية، مع أرجحية مرجعية جديدة وجدول أعمال جديد وتركيبة جديدة من المشاركين، لأن مؤتمر "آستانة" قدّم إضافة تمثيلية، والمرحلة قد تكون أمام تجاوز الأجسام القائمة: هيئة عليا وائتلاف، ولا شك أن المباحثات مع لافروف قد تتعرض لهذه المسألة لمحوريتها. العودة إلى "جنيف" عبر "آستانة"، عملت لها موسكو، التي لم تتحرك إلا وفق أجندتها، فتدخلها العسكري الذي تزامن مع تراجع مريع بوضع النظام وميليشيات الحرس الثوري المذهبية من جهة، وذعر يسود أوروبا من وطأة تسونامي اللجوء من جهة ثانية، إلى تراجع واشنطن عن الخطوط الحمر التي رسمها البيت الأبيض، فتمكنت من قلب المشهد السوري. هذه الوقائع جعلتها تحدد لحظة انتصار حلب، منصة لوقف النار وبدء مسيرة التسوية.
هنا التوقيت الروسي محسوب، لأن بديله وإن كان من ناحية يهدد موسكو بالغرق في المستنقع السوري، فمن الناحية الأخرى لو تواصلت العمليات حتى إسقاط إدلب مثلاً، فذلك كان سيوحي بأن الحاجة لموسكو تراجعت، وهذا يمنحُ طهران الفرصة لمزيد من امتطاء النظام السوري لتوسيع هيمنتها. إنه صدام المشاريع، والغلبة بالنهاية للأقوى. موسكو التي تريد تحضير المسرح لصفقة شاملة مع واشنطن، لضمان بدء مرحلة الحصاد الروسي، أولويتها الآن هزيمة الإرهاب، وتسوية لاستعادة الاستقرار، مع تمسك ببنية الدولة والجيش الذي توليه اهتمامًا خاصًا. أما أولوية طهران فهي التمسك برموز النظام، وبالأخص بشار الأسد، واستكمال تفكيك الدولة السورية، بما يؤمن ديمومة نفوذها، ويغطي استكمال مخطط تغيير بنية المجتمع ونسيجه، لإقامة نمط حياة جديد، أشكالها تتبلور في بعض "غيتوات" حزب الله في لبنان.
اليوم إذا كان السخاء الروسي قد وفر لتركيا إقامة سد بوجه الطموح الكردي، وبات نفوذها كبيرًا على التركيبة الجديدة لـ"الجيش الحر"، فإن منحى التفاهم الروسي التركي العميق، والصفقة الدولية الآتية، عوامل من شأنها بدء تحجيم نفوذ إيران، حيث يصعب تصور مستقبل دائم في سوريا لميليشيات الحرس الثوري. هذا حفّز بعض قيادات المعارضة في مؤتمر "آستانة" للتوجه نحو الطرف الروسي، مراهنة منها على دوره لوضع حد للسيطرة الإيرانية. لكن جلجلة الشعب السوري ستبقى لسنوات، مع فارق جوهري يكمن من جهة بتراجع القتل والتغيير الديموغرافي، ومن الثانية بإطلاق مرحلة إعادة تجميع القوى التي دمرها الإجرام وشتتها في الداخل والمنافي، وبلورة قيادات ورؤى للشعب السوري هو بأمس الحاجة إليها.