الرئيسة \  تقارير  \  ما الدروس التي يحملها تضخم 2022 عن الرأسمالية؟

ما الدروس التي يحملها تضخم 2022 عن الرأسمالية؟

03.01.2022
جون أوثرز


الشرق الاوسط
الاحد 2/1/2022
خلال عام 2021 عاد التضخم ليطل برأسه من جديد. وبعد نقاش استمر عاماً، لم يعد بإمكان أحد إنكار ذلك. أما العام المقبل، فسيكشف لنا ما إذا كان هذا التضخم سيستمر، وحجم الإجراءات الاقتصادية العلاجية المؤلمة اللازمة للتصدي له.
الملاحَظ وجود انقسام في الآراء حول هذه القضية الحيوية، مثلما كانت الحال دوماً حول مثل هذه النوعية من القضايا. وفي الوقت الذي لا يزال المتفائلون يرون أنه حتى لو تبين أن التضخم الراهن أكثر من مجرد لحظة عابرة، فإنه سيتلاشى قريباً، فإن مدى صدقهم يعتمد على نتيجة بعض الصراعات الأشد عمقاً داخل إطار الرأسمالية.
وفي حين أن ذوي المهارات المتدنية وأصحاب المستويات المنخفضة من التعليم وذوي الأجور المتدنية قد اكتسبوا مزيداً من القوة التفاوضية خلال الجائحة، فإن التضخم يقلص هذه المكاسب. وعلى ما يبدو، سيتحد عدد من العوامل بالفعل لدفع التضخم نحو الانخفاض خلال العام المقبل.
المعروف أن أسعار السيارات المستعملة تضاعفت وارتفعت أسعار البنزين بنسبة 50% العام الماضي. هذا لن يحدث مرة أخرى. وعلى نحو تزامن، بدأت بالفعل الاختناقات في التجارة العالمية تتلاشى قليلاً. وهناك مجال واسع للبنوك المركزية لتشديد السياسة النقدية. وحتى الآن، لم تكن هناك محاولات لخفض الطلب عن طريق رفع سعر النقود أو تقليص المعروض منها.
إنه لأمر مشجع أن سوق السندات تتوقع أن يتجاوز التضخم بالكاد 2% بعد خمس سنوات من الآن، وأن أسعار الفائدة الفيدرالية لن ترتفع حتى إلى هذا الحد.
أما توقعات المستهلكين، فلا تختلف كثيراً. في الوقت الراهن، يعتقد المستثمرون أن ارتفاع الأسعار يمكن السيطرة عليه، وأنه ستجري السيطرة عليه بالفعل بسهولة نسبية.
ومع ذلك، لا يزال التضخم الأعلى على نحو دائم احتمالاً قائماً. وتعتمد مسألة تحقق ذلك على سؤالين أساسيين لطالما ابتُليت بهما الرأسمالية: هل سيحصل العمال على حصة أكبر على حساب رأس المال؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ستستوعب الشركات تكاليف الأجور المرتفعة أم ستنقلها إلى العملاء؟
منذ ثمانينات القرن الماضي، تطورت الرأسمالية لإبقاء التضخم تحت السيطرة. أما الخطر القائم الآن فيكمن في أن الرأسمالية قد شرعت في عملية تغيير للنظام.
ظلت حصة العمال من الناتج المحلي الإجمالي مستقرة عند مستوى أعلى بعض الشيء من 60% على مدى خمسة عقود بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أنها بدأت في الانخفاض بصورة حادة بعد انفجار فقاعة الدوت كوم عام 2000 وانخفضت أكثر بعد الأزمة المالية عام 2008.
ومثلما أوضحت إيلين زينتنر، الخبيرة الاقتصادية الرفيعة لدى مؤسسة “مورغان ستانلي”، فإن الانخفاض التاريخي “غير المسبوق” في نصيب العمالة من الناتج المحلي الإجمالي “يمثل كسراً في الهيكل الأساسي للاقتصاد”.
وبسبب الضعف المتنامي الذي تعانيه النقابات، تفاقمت صعوبة التفاوض الجماعي من جانب العمال. وبالمثل، قللت العوامل الديموغرافية من قدرة هذه النقابات على التفاوض. وبينما كان جيل طفرة المواليد في ذروة سن العمل، كان المعروض من العمالة وفيراً. وكان من شأن قدرة الشركات على تعهيد الإنتاج إلى الخارج إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة، خصوصاً الصين، زيادة كبح الأجور، وكذلك بسبب تدفق المهاجرين من المكسيك.
وعليه نجد أن ما كان بالفعل صفقة رديئة لأصحاب المستوى الأدنى من الأجور، تحول إلى صفقة مروعة خلال السنوات التي أعقبت الأزمة المالية لعام 2008، وذلك مع استغلال الشركات على نحو متزايد العمال بدوام جزئي الذين يتمتعون بمزايا أقل. وعلى مدار سنوات عدة في عهد الرئيس باراك أوباما، كانت أجور العاملين بدوام جزئي متخلفة كثيراً عن أجور العاملين بدوام كامل، وكذلك كانت متخلفة عن معدلات التضخم.
تحولت مشاعر الضيق من هذا الوضع إلى غضب شعبوي وأدت نهاية الأمر إلى صعود الرئيس دونالد ترمب. إلا أنه على ما يبدو، تسببت الجائحة، العام الماضي، في قلب سوق العمل رأساً على عقب. وبعد عمليات الإغلاق المتعلقة بالفيروسات، قفزت الوظائف الشاغرة إلى مستويات شبه قياسية، في ظل محاولات حثيثة من جانب الشركات لملء الوظائف منخفضة الأجر، لكنها باءت بالفشل.
ولذلك، اكتسب ذوو المهارات المتدنية والتعليم المتدني والأجور المنخفضة قوة تفاوضية أكبر، ونجحوا في استغلالها على أرض الواقع. واليوم، أصبحوا يحصلون على أفضل صفقات الأجور منذ جيل كامل. واللافت أن رواتبهم ترتفع بوتيرة أسرع عن تلك التي يحصل عليها من يتقاضون رواتب جيدة وحصلوا على تعليم باهظ الثمن.
بيد أنه لسوء حظهم، ظهر توجه آخر في الوقت ذاته، ذلك أن الأجور الإضافية التي تفاوضوا عليها ليست قريبة بما يكفي لتغطية التضخم سريع الارتفاع. وتكشف البيانات الصادرة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا انخفاضاً حاداً في الأجور الحقيقية.
ويعطي هذا العمالَ حافزاً أكبر للضغط من أجل زيادة الأجور، الأمر الذي سيشكّل لبنة بناء أساسية للتضخم المتأصل. كانت مثل هذه البيانات ما دفع جيروم باول، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، إلى القول في الاجتماع الأخير للبنك لهذا العام: “إن سوق العمل، بالنظر إلى الكثير من المقاييس، تبدو أكثر سخونة مما كانت عليه في التوسع الأخير”.
وإذا جرى إجبار الرأسماليين على دفع نصيب أكبر من عائداتهم للعاملين لديهم، سيكون أمامهم خياران: أحدهما أن يتلقوا هم الضربة بأنفسهم، ويتركوا الأسعار من دون تغيير ويرضوا بهامش ربح أضيق. أما الآخر فيتمثل في تمرير زيادات الأجور للمستهلكين عن طريق رفع الأسعار، إذا استطاعوا ذلك.
والسؤال هنا: هل سيفعلون ذلك، وهل لديهم القدرة على فعل ذلك؟ في هذا الصدد، قالت زينتنر، من “مورغان ستانلي”، إن هذه لحظة حاسمة أمام الاحتياطي الفيدرالي، حيث يتعين عليه تحقيق توازن ما بين التوظيف الكامل واستقرار الأسعار. وإذا قررت الشركة امتصاص الصدمة بنفسها، فلا داعي حينها إذن لأن ينتقل تسارع الأجور إلى تضخم متزايد في الأسعار.
حتى العقد الماضي أو نحو ذلك، قدم التاريخ لنا دروساً واضحة. وبمرور الوقت، أصبحت هوامش الربح ظاهرة شبه دورية على نحو كامل. وتتحسن هذه الهوامش في أوقات الرخاء وتتراجع في أثناء فترات الركود، عندما تختار الشركات أن تتحمل جزءاً من الضربة الناجمة عن الانكماش الاقتصادي بنفسها.
ومع ذلك، شيء ما تبدل منذ الأزمة المالية. الملاحَظ أن هوامش ربح الشركات الـ500 المدرجة في مؤشر “ستاندرد آند بورز” تعافت سريعاً بعد عام 2008، وعاونها في ذلك الجمود الذي أصاب الأجور. وعشية الجائحة، كانت الهوامش قد نجحت في التجنب لانخفاض كبير لمدة عقد وبلغت مستوى قياسي.
ومنذ الجائحة، انحرفت الهوامش أكثر عن النمط التقليدي، وعاينت انخفاضاً طفيفاً (بفضل عمليات التسريح الشامل للعمال في وقت مبكر)، وترتفع الآن لتصل إلى مستوى من الربحية لم يسبق له مثيل.
ومع ذلك، في هذه المرحلة، يتعين على الشركات تجنيد المزيد من الأشخاص لزيادة الإنتاج. ويبدو أنها لن تتمكن من ذلك ما لم ترفع الأجور.
من جهتهم، يطمئن المسؤولون التنفيذيون المستثمرين إلى ثقتهم بقوتهم التسعيرية، وأن مشاريع “وول ستريت” ستزيد من ارتفاع الهوامش في العام المقبل، الأمر الذي يثير بدوره شكاوى من السياسيين، الذين يرون أن تركز الصناعة الثقيلة، بفضل عمليات الدمج والاستحواذ خلال العقود القليلة الماضية، تركت للشركات حرية التصرف في فرض الأسعار التي تريدها.
وستصل هذه الحجة، التي ظلت لفترة طويلة محور الكثير من الأوراق البحثية الأكاديمية ولجان دافوس، إلى ذروتها في العام المقبل. جدير بالذكر أنه خلال العقود القليلة الماضية، مال ميزان الرأسمالية بشدة لصالح رأس المال. كان من تبعات ذلك إبقاء التضخم تحت السيطرة. الآن، بعد أن تسببت جائحة تحدث مرة واحدة في الجيل في اضطراب أسواق العمل، يبدو أن العمال، خصوصاً أصحاب الأجور الأقل، يستعيدون قوتهم.
* بالاتفاق مع “بلومبرغ”