الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مفارقات مؤلمة عن علمانية "الدولة" السورية

مفارقات مؤلمة عن علمانية "الدولة" السورية

02.02.2017
منير الخطيب


الحياة
الاربعاء 1/2/2017
تفصح المقارنة، في الشكل والمضمون، بين مجريات التفاوض، التي رافقت إبرام معاهدة استقلال سورية عن سلطة الانتداب الفرنسي عام 1936، ومجريات التفاوض في مؤتمر آستانة الأخير الذي حضره وفد الفصائل الإسلامية المسلحة ووفد النظام بإشراف روسي – تركي، عن أزمة بنيوية عميقة تعصف بالكيان الوطني السوري، هي أزمة انحدار أخلاقي وسياسي وثقافي واجتماعي عن لحظة تشكله في المرحلتين الكولونيالية والاستقلالية.
فحين ذهب سعدالله الجابري وفارس الخوري وهاشم الأتاسي، أبرز ثلاثة في الوفد السوري، إلى باريس للتفاوض في شأن استقلال سورية، نسقوا، قبل ذهابهم، مع خالد بكداش الذي كان شاباً في مقتبل العمر، كي يسبقهم إلى باريس بهدف إجراء محادثات تمهيدية مع الحزب الشيوعي الفرنسي (لم يكن خالد بكداش عضواً في الوفد). في باريس أثناء التفاوض، سمع الوفد السوري أنباء من حلب عن اعتداء (ضرب بالأيدي)، تعرض له بعض من الأرمن والشيوعيين، رد سعدالله الجابري على هذا الاعتداء من باريس: نحن على استعداد لإلغاء معاهدة الاستقلال، إذا ظن البعض أنها طريق للغوغائية والفلتان. وعندما وصل الوفد إلى حلب بواسطة قطار الشرق السريع، خرج أهالي حلب لاستقبالهم، وعلى باب القطار دفع سعدالله الجابري خالد بكداش إلى المقدمة، وقال له: "من تقدم الوفد في باريس عليه أن يتقدمه في حلب"، وكأنه بذلك يسترضي الشيوعيين الذين تعرض رفاقهم للضرب.
بهذا السلوك لم يكن سعدالله الجابري مدافعاً عن الشيـوعيين والأرمن فـقط، بل كان مدافعاً عن مبـدأ علمانية دولة الاستقلال القادمة، حيث تـتـطابـق حـدود علمانـيـتـها مـع حدود وطنيتها السورية، فكلتاهما تتضمن الحياد تجاه المعتقدات والأديان والأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية المختلفة.
هذا فيما ذهب وفد الفصائل المسلحة في مؤتمر آستانة الأخير إلى رفض مبدأ علمانية الدولة، وبالتالي رفض المسألة الوطنية السورية. بذلك، تصبح مفهومة الفوارق المعرفية والأخلاقية والسياسية بين مواقف وفد الاستقلال الأول في دفاعه الحاسم عن الشيوعيين والأرمن، ومواقف جيش الإسلام من اعتقال سميرة الخليل ورفاقها في مناطق سيطرته.
وغني عن القول أيضاً: إن المسار الشائك والمعقّد من إقرار مبدأ الدولة الوطنية في معاهدة الاستقلال إلى رفض العلمانية في مؤتمر آستانة هو وليد المرحلة البعثية، التي قوامها النكوص عن الفكرة الوطنية السورية، وطرد مبدأ الدولة العلماني. فلم تكن "دولة البعث" سوى "دولة دينية" صرفة بقطع النظر عن كون "الدين البعثي" أرضياً وليس سماوياً، وقد تجلت "ثيوقراطيتها" في ثلاثة مناحٍ: المنحى الأول، فرض الأيديولوجيا البعثية على "الدولة والمجتمع" بواسطة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة والمنظمات والاتحادات الشعبية، والتمييز بين البعثي وغير البعثي، ومبدأ التمييز هو مبدأ ثيوقراطي. المنحى الثاني، التمييز بين البعثي العلوي والبعثي غير العلوي في مجالات القبول في الجيش والأمن والإدارة والتوظيف والبعثات التعليمية وغيرها من المجالات. المنحى الثالث، تحالفات النظام الإقليمية مع إيران أكبر "دولة" ثيوقراطية في المنطقة، ومع الميليشيات المذهبية، من دون أن ننسى، بالطبع، تصفية النظام السوري بالتعاون مع إيران للطابع الوطني للمقاومة اللبنانية وحصره بالطائفة الشيعية في الثمانينات.
إذاً كان التفاوض حول معاهدة 1936 بين سلطة استعمارية، لكن يقبع في خلفيتها الثقافية والسياسية تراث ليبرالي وتنويري، على رغم طابعها الاستعماري، وبين وفد سوري يدافع عن التعدد والاختلاف وعن الحداثة السياسية، فأفضى ذاك التفاوض إلى تأسيس الكيان السوري.
أما التفاوض في مؤتمر آستانة بين ثيوقراطية بعثية منحطة وثيوقراطية مذهبية وثيوقراطية إسلامية مذهبية مضادة، أي بين هويّات عصبوية متماثلة، فلا يؤمن إلا بمنطق الغلبة و "التكاون"، في حين أن الحوار الذي يفضي إلى بناء الدول والأوطان ينبني بين عقول حرة وبين نخب سياسية تجاوزت الهويّة كامتداد "فخذي" أو "نسلي".
وليس العداء الذي تبديه الفصائل الإسلامية المسلحة وغير المسلحة للمسألة العلمانية، وتسايرها بذلك المعارضات السياسية السورية على اختلاف توجهاتها وأطيافها، في هروبها من العلمانية إلى مصطلح "الدولة المدنية" الملتبس والفضفاض والتلفيقي، والذي يعبر عن بله سياسي، سوى إطالة لأمد المحنة السورية، التي أصبحت الأكثر تأثراً عالمياً بتبعات الصراع السني – الشيعي، وبتبعات حركة النكوص العالمي الراهن إلى مرحلة ما قبل الحداثة. فالعلمانية هي حاجة حيوية سورية لبناء الدولة والاجتماع الوطني، وحاجة عربية وإسلامية، وستصبح قريباً مع ترامب وبوتين واليمين الأوروبي حاجة عالمية.