الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ماذا خسر العالم بخسارتنا؟

ماذا خسر العالم بخسارتنا؟

17.01.2019
حسان الأسود


سوريا تي في
الاربعاء 16/1/2019
لا شكّ بأن الترابط بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العلاقات البشرية، أكبر وأعقدُ من أن يوصف بمقال رأي، كذلك مجموعة القيم الأخلاقيّة الناتجة عن هذا التشابك والترابط كلّه، بحاجة هي الأخرى لمجلّدات للحديث عنها. مع ذلك، يجد المرء نفسه أحياناً أمام أسئلة بسيطة، لكنّ إجاباتها شائكة، ومنها أسئلة المسؤوليّة عن مصائر حركات المجتمعات الثائرة في وجه الدكتاتوريّات.
تكمن أهمّية هذه الأسئلة والأجوبة عليها، من مرارة الواقع الذي نعيشه، ومن قتامة المستقبل المحيق بنا، ومن أوهام الوصول إلى حلول ناجعة وقريبة. فبعد ثماني سنوات مرّت على انطلاقة الربيع العربي، ومع بداية العام التاسع، يبدو أنّ الأوضاع إلى مزيد من التعقيد والخراب والدمار، باستثناء تونس التي تبدو كأنّها وحدها من نجت من مصير قاتم وفوضى قاتلة تعيشها المنطقة، وقد يكون ذلك إلى حين.
أسباب الثورات في المنطقة لم تزل متوافرة، بل هي في تجذّر واستفحال، من موريتانيا غرباً على المحيط الأطلسي، إلى إيران شرقاً
لم تعد تنطلي أسطوانة المؤامرة الخارجيّة على الشعوب المقهورة، قالتها حناجر شباب المغرب في مدرّجات ملاعب كرة القدم، وتقولها الآن صرخات شابّات وشباب السودان في العاصمة الخرطوم وفي مدن وقرى باقي الولايات. الجوعُ كافرٌ، والظلمُ أكثر كفراً، وانتقاصُ الكرامة وهدرُ الحقوقِ يولّدان القهر، والقمعُ والاستبدادُ يدفعان إلى الثورة إن عاجلاً أو آجلاً.
استحضار مثال تونس هامّ بشكل جيّد لتقدير افتراضٍ قد يبدو واضحاً أكثر فأكثر كلّ يوم. كلّما كانت معالجة المشاكل محصورة بأهلها ودون تدخّلات خارجيّة، كلّما كانت النتائج أفضل والخسائر أقلّ. بالتأكيد تتمتّع تونس بخصوصيّة تنفرد بها عن سوريا وعن ليبيا، لكنّ مصر تشترك معها، في وجود حركة حزبيّة منظّمة وفي دور معقول للمجتمع المدني، وحركات نقابيّة واتحاديّة كانت سبّاقة في رفع مطالب أعضائها. كذلك كان اليمن يتمتّع بتجربة لا بأس بها من الحراك السياسي والحزبي، خاصّة في مناطقه الجنوبيّة.
لم تعد تنطلي أسطوانة المؤامرة الخارجيّة على الشعوب المقهورة، قالتها حناجر شباب المغرب في مدرّجات ملاعب كرة القدم، وتقولها الآن صرخات شابّات وشباب السودان
لكن يمكن استبعاد اليمن من معادلة المقارنة بين تطوّرات الأمور في مصر وتونس، باعتباره خضع لتدخّل مباشر سعودي إماراتي في مواجهة التدّخل الإيراني. لكنّ مقارنة الحالة المصريّة بالحالة التونسيّة تستدعي أيضاً قياس حجم التدخّل الإسرائيلي والخليجي لهزيمة مشروع الإخوان المسلمين الذين استطاع ملء الفراغ السياسي بعد تنحّي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عن السلطة بعد أيام من ثورة يناير، بينما بقيت تونس بمنأى عن ذلك إلى حدّ بعيد.
يقودنا هذا القياس إلى تعزيز مبدأ أو منطلق التحليل، القائل بنجاعة طرق التغيير وقلّة الخسائر، كلّما كانت المعالجة داخليّة وكلّما كان التدخّل الخارجي محدوداً. من يتابع أوضاع مصر، يرى كيف تؤول الأمور فيها أكثر وأكثر نحو الهاوية، لقد باتت سيناء ثقباً أسود يبتلع المصريين ومقدّرات بلادهم، كما باتت ساحة صراع يتعاون فيها الإسرائيليون مع جيش السيسي، كما استحكم الاستبداد لأقصى درجاته، وتبخّرت مظاهر استقلال بعض مؤسسات الدولة مثل القضاء، ومظاهر فاعليّة الأحزاب والمجتمع المدني نهائيّاً، وبات صاحب كلّ صوت معارض وراء القضبان أو هارباً خارج البلاد.
بالمقابل، تسير تونس في طريق طويل متعرّجٍ، وتمرُّ بمخاضاتٍ سياسية واقتصاديّة واجتماعيّة كبرى، لكنّها تبقى منضبطة ضمن توافقات عامّة متوازنة إلى حدّ كبير حتّى الآن. يولّد التفاعل الكبير، بين القوى المتداخلة وأصحاب المصالح المختلفة، نوعاً من التناغم الذي يضبط إيقاعات التغيير المنشود. لقد تجاوز التونسيّون بوعي كبير مطبّات كثيرة وقع فيها غيرهم من المصريين والسوريين واليمنيين والليبيين، ويرجع هذا بلا شكّ إلى مستوى النضوج الكبير الذي بلغه المجتمع التونسي في بحثه عن الهويّة الوطنيّة وإنجازها من جهة أولى، وإلى قلّة حجم التدخّلات الخارجية بعد اندلاع الثورة التونسية من جهة ثانية.
ببساطة يمكننا القول إنّ منظومة القيم الإنسانيّة والحقوقيّة التي ناضلت شعوب الأرض جميعها لتكريسها وتطويرها، باتت في حالة يرثى لها من التردّي والخذلان
سؤال المسؤولية عن هذا الخراب الكبير الذي وصلت إليه حال بلدان المنطقة، يجد جوابه في مشاركة جميع أطراف الصراع، أو القوى التي تتنازع على السلطة، أو قوى التغيير وقوى تأبيد سيطرة الفئات الحاكمة. بكلّ بساطة يمكننا أن نشير إلى مواطن الخلل والقصور في أداء المعارضات السياسية التي تنطّحت لقيادة موجات الربيع العربي في جميع الدول التي مرّت بهذه الثورات، وبالتأكيد سيكون النصيب الأكبر بالمقابل من المسؤولية ملقى على عاتق الأنظمة التي طهّرت مجتمعاتنا من أية إمكانيّة للتغيير السلمي الديمقراطي، وحتى مجرّد التفكير وإبداء الرأي كان جريمة تستدعى الاعتقال إن لم يكن الموت.
تتبادر إلى الأذهان أسئلة أخرى في هذا الشأن، منها ما يتخطّى حدود المنطقة ليشمل العالم بأسره. فماذا خسر العالم بخسارة موجات الربيع العربي؟
ببساطة يمكننا القول إنّ منظومة القيم الإنسانيّة والحقوقيّة التي ناضلت شعوب الأرض جميعها لتكريسها وتطويرها، باتت في حالة يرثى لها من التردّي والخذلان. وليس هذا الأمر مجرّد كلام عابر صادر عن أشخاص من هواة الندب والبكاء، بل كلامٌ مسؤول صادر عن أرفع شخصيات المجتمع الدولي المعنيّة بهذا الأمر، بدءا من أمنائها العامّين الذين تعاقبوا على هذا المنصب خلال الفترة المذكورة، مروراً بالمفوض السامي لحقوق الإنسان، وانتهاءً بمسؤولي منظمات ولجان حقوق الإنسان المختلفة.
لقد بات الخوف من تكريس مبدأ الإفلات من العقاب يزداد يوماً بعد يوم، والسبب بسيط جدّاً، ويكمن في كثرة الأطراف الدوليّة المتورّطة في النزاع المسلّح وفي الصراع الجاري في سوريا مثلاً، وأغلب هذه الأطراف إن لم نقل جميعها، ارتكبت انتهاكات خطيرة بحق المدنيين والأعيان المدنية والممتلكات العامّة والخاصة، وهذا يعني بالنتيجة انعدام أية مصلحة عند هذه الأطراف بتعزيز مبدأ المحاسبة من أساسه، وبالتالي سيكون هناك بشكل أو بآخر، إفلات من العقاب، مما سينعكس سلباً على شعوب مجتمعات المنطقة بأغلبيّتها المطلقة، سواءٌ أطرافها المحسوبة على جانب الثورات، أم تلك المحسوبة على الأنظمة أو المستفيدة من وجودها وبقائها.
هذه الانتكاسة لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، التي عملت منظمات المجتمع المدني في العالم بأسره على تعزيزه عبر السنوات والعقود المنصرمة، سيكون أكبر انتكاسة لتطوّر الفكر الإنساني عموماً، والفكر الحقوقي خصوصاً. سيكون بشكل أو بآخر مقارباً لسكوت العالم عن جرائم هتلر في بدايتها، مما أدّى في النهاية إلى الحرب العالمية الثانية، وما جرّته من مآسٍ على البشرية.
إنّ سكوت الناس في أميركا وفي أوروبا عن انتهاكات حقوق البشر في بقيّة أرجاء المعمورة، سيزيد من معاناة البشرية جمعاء
لقد خسر العالم كثيراً من قيمه بخسارة شعوب دول الربيع العربي، وستبقى آثار الموجات الارتداديّة هذه بادية الأثر في دول أوروبا ودول المنطقة وحتّى في أميركا. لقدّ استغلّت أحزاب اليمين المتطرّف أزمات اللجوء على سبيل المثال كي تحقق قفزات كبرى ما كانت تحلم بها منذ هزيمة النازيّة والفاشية منتصف القرن الماضي، كما أنّ الاستثمار في الإرهاب ساعد الكثير من الحكومات على تمرير قوانين ضاغطة على حريّات البشر، ناهيكم عن استخدامها كشمّاعة لتعليق فشل كثير من السياسات عليها، إضافة بالطبع لتكريس نظام الفساد والديكتاتوريّة الإقليمي في المنطقة.
إنّ سكوت الناس في أميركا وفي أوروبا عن انتهاكات حقوق البشر في بقيّة أرجاء المعمورة، سيزيد من معاناة البشرية جمعاء، بما فيها هم بذاتهم وأولئك البشر الذين يعتقدون أنّهم بعيدون عن التأثّر بهذه الانتهاكات. إنّ مثال الاستثمار في الدين لتحقيق مصالح سياسية، كما حصل في أفغانستان أثناء مرحلة الاحتلال السوفيتي، سيؤدي حتماً إلى صناعة التطرّف وتغذيته وتعميمه. لقد ارتدّ هذا الأمر بشكل مباشر على الأميركيين في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولمس العالم بأسره آثار هذا الأمر وانعكاساته الخطيرة.
كذلك سيكون للاستثمار في تثبيت أنظمة الحكم الديكتاتوريّة في منطقة الشرق الأوسط، أثر بعيد المدى على العالم بأسره، لأنّ هذا النظام الإقليمي القائم على الاستبداد، هو بذاته منبع إرهاب الدولة من جهة، وأحدُ أهمّ أسباب إنتاج الإرهاب والتطرّف الذي يشكّل ردّ فعل متوقع على الظلم والاستبداد من جهة ثانية. لقد خبرت حكومات دول أوروبا كذلك وبشكل مباشر، نتائج سكوتها أو استثمارها في دعم الدكتاتوريات أو سكوتها عنها، وأحداث شارلي إيبدو ليست عنّا ببعيدة.
لم يعد البشر معزولين عن بعضهم كما كان الأمر قبل عقود وقرون، كما أنّ تأثير وسائط التواصل الاجتماعي، بدأ يخفّف ويحدّ شيئاً فشيئاً من سيطرة قوى بعينها على توجيه الرأي العام باتجاهات محددة سلفاً، لقد باتت مساحة مشاركة الأفراد العاديين أكبر كثيراً من ذي قبل في صنع الأحداث. وهذا كلّه يضع مسؤوليات متعدّدة على عاتق كلّ فرد في هذا العالم، أو على الأقلّ كل فرد في العالم الحر، ممن تتوفر لهم إمكانيات المساهمة في عملية التغيير الإنسانية. علينا جميعاً أن نعمل على منع تكريس هذه الحالة، فكلّنا مسؤول وكلّنا بيده أن يفعل شيئاً ما.