الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ماذا خسرنا بتحول رزان زيتونة إلى "أيقونة"؟

ماذا خسرنا بتحول رزان زيتونة إلى "أيقونة"؟

18.12.2018
حسام جزماتي


سوريا تي في
الاثنين 17/12/2018
لم يعد من السهل التعرف إلى هذه الناشطة الحقوقية بعد أن تراكمت فوق حضورها الحي طبقاتٌ من لغة التبجيل وبوسترات التكريم وصور الغلاف، منذ اختطافها وزملائها: زوجها المحامي وائل حمادة، والمعتقلة السياسية السابقة سميرة الخليل، والشاعر ناظم حمادي، قبل خمس سنوات.
لم يكن كثير من السوريين يعرفون رزان جيداً قبل ذلك. ولم تُتِح صدمة خطفها، والخزي الذي صاحبه، والبحث عن أخبارها، فرصة معرفةٍ كافيةٍ تتجاوز المطالبة بإطلاق سراحها، وتحميل مسؤولية ذلك على عاتق "جيش الإسلام" المسيطر على دوما وقتها، وإنكاره كل مرة. ثم كان أن تحولت رزان، عبر السنوات وتتالي مناسبات الاستذكار، إلى صورة بروفايل ثابتة، في تمثلٍ معاصر كامل لرمزية "الأيقونة" في الماضي.
غير أن هذا يُفقد رزان أهم سماتها الشخصية؛ حيويتها الدافقة، تجريبيتها، اعتدادها الكبير بنفسها، تحكمها بالتفاصيل، عصبيتها، خلافاتها، تدخينها الكثيف، وبالنسبة لي "عيب" إعجابها بروايات "ميلان كونديرا"! إنه يُفقدنا رزان نفسها التي نكتب عنها باسمها الأول، بعد أن أصبح البحث عن مقالاتها على الإنترنت أمراً عسيراً يشبه تقليب أرشيف أو "البحبشة" في سقيفة، أما تحميل صورها المحسّنة، لأغراض "التبرّك"، أو لإعلان الموقف المبدئي ضد الفصائل الإسلامية، أو للتشاوف والمتاجرة، فهو في منتهى اليسر.
فبخسارتها، عبر تثبيتها في الصور فقط، تخسر الثورة إحدى شخصياتها القليلة التي يمكن أن توصف بأنها "ملهِمة"، دون ابتذال الكلام.
لا نريد هنا أن "نستعيد" رزان، بقدر ما أن نبقيها حية ومتحركة، كما كانت بالفعل. فبخسارتها، عبر تثبيتها في الصور فقط، تخسر الثرة إحدى شخصياتها القليلة التي يمكن أن توصف بأنها "ملهِمة"، دون ابتذال الكلام.
فعلى خلاف معظم المعارضين السوريين الذين عمِلتْ معهم طيلة عقد من حكم بشار الأسد قبل الثورة، لم تأتِ رزان من أرومتين مألوفتين في هذا الجو هما العمل الثقافي والأحزاب السياسية. لم تكن شديدة الثقافة في الواقع، ولم تُمض سنوات تقرأ في غرفة وتتردد إلى مقهى الهافانا أو الروضة. كانت ثقافتها وظيفية، في الغالب، لخدمة نشاطها في حقوق الإنسان. وهو ما لم يصطبغ، من جهة أخرى، بلوثة تسييس في الباطن أصابت الكثير من الفاعلين الحقوقيين القادمين من أحزاب سياسية معارضة. لم تكن رزان بعيدة عن السياسة، بالتأكيد، وكانت معارِضة، طبعاً، غير أنها ارتكزت على أرضية صلبة من التوجه الحقوقي غير المنحاز إلى ميول سياسية معينة. ومن هنا فإنها استطاعت، بسهولة وطبيعية بالغتين، أن تنتقل من حمل باقة ورد إلى منزل فارس مراد، سجين المنظمة الشيوعية العربية المفرج عنه بعد حوالي ثلاثين عاماً، إلى العبّادة بريف دمشق لتلتقي عائلات معتقلين منها كانوا محتجزين وقتها في غوانتانامو وتسجّل قصصهم، بالتوازي مع المشاركة في حملات التضامن مع معتقلين جولانيين في السجون الإسرائيلية والتواصل معهم عبر الإنترنت.
كان كل هذا مادة للكتابة. غير أنها كانت كتابة حارة، منفعلة وذكية ودقيقة في الوقت نفسه، لا كتابة من يريد تسليم "المادة" في الوقت المحدد ليرتاح. لم تكن رزان تريد أن ترتاح في الحقيقة، إذ لم يبدُ أنها كانت تتعب، وخاصة مع انخراطها في مشاريع كبيرة مدوّخة بعد الثورة؛ "لجان التنسيق المحلية" و"مركز توثيق الانتهاكات" اللذين تطلبا التواصل مع مئات الأشخاص في أنحاء البلاد بشكل مستمر عبر وسائل التواصل، بعد أن أصبحت الناشطة الحقوقية في أولى قوائم المطلوبين للنظام.
من الشائع أن توصف رزان بالشجاعة، منذ وقوفها على رصيف "محكمة أمن الدولة العليا" قرب ساحة السبع بحرات بدمشق، ومشاركتها العلنية في نشاطات المعارضة في الثورة. غير أن شجاعتها لم تقتصر على هذا النمط المعروف، والصعب، بل على اكتشاف عوالم جديدة على الدوام، دون "أنفة" المثقف وتوجسه من الحياة الواقعية. قبل الثورة ستكتب رزان عن "حزب التحرير" الإسلامي الذي لم يكن ضمن اهتماماتها قبل أن تعرف معتقلين سابقين منه، وبعدها ستلتقي "أبو علي خبّية"، في سعي مستمر لكسر الجدران التي تنبني تلقائياً بين الناشط الشهير و"العامة". وخلال هذا وذاك لن تكتفي بتوثيق جرائم النظام بل ستبدأ بإدراج انتهاكات الفصائل الثورية في السجلات.
ساعات طويلة من الليل والنهار كانت رزان متاحة عبر السكايب، تتلقى الأخبار والصور والفيديوهات والأسماء من المناطق المختلفة فتنظمها وترسلها. كوّنت مئات الصداقات المفتوحة مع شبان وشابات هنا وهناك، ربما كانوا سيصبحون بنوداً في قوائم المعتقلين بعد أيام، أو ربما ستصل صور جثثهم نفسها بعد أسابيع أو أشهر. لقد حصل هذا الموقف مرات فكتبت: "خبراء توثيق الموت من أمثالنا، لا يبكون"!