الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ماذا بقي من ثورات الربيع العربي؟

ماذا بقي من ثورات الربيع العربي؟

31.01.2019
حسان الأسود


العربي الجديد
الاربعاء 30/1/2019
حاولت شعوب المنطقة، بما فيها الشعب الإيراني، منذ ربيع طهران إلى الربيع العربي، التخلّص من حالة التردّي والانحطاط التي تعيشها منذ عقود، وحاولت البناء على أسس جديدة، وعلى دعائم من الحقّ والعقل والإيمان، لكنّها جوبهت بقوىً مضادّة، تمتلك إمكانات هائلة من القوّة والثروات والتنظيم ومركزيّة القرار، فلم تستطع الصمود في مواجهتها.
عندما تقترب النهايات، تتّضح معالم السيرورة. وعلى الرغم من أنّ الحكمة تأتينا في الوقت الضائع غالباً، إلّا أننا لا نتوقّف عن المحاولة. قدَرُ الإنسان أن يسعى باستمرار إلى تحسين مستوى حياته، وهذا السعي بحاجةٍ إلى شروطٍ ذاتيّة خاصّة بالأفراد، وأخرى موضوعيّة تتمثّل في البيئة العامّة المحيطة. لهذا، تسعى الجماعاتُ إلى تطوير أشكال تحسين شروط حياتها الموضوعيّة، باعتبارها ذات الأهميّة الكبرى والأولويّة الحاسمة، لتشكيل الظروف الذاتيّة نفسها.
ضمن مقارباتٍ مختلفة، توصّلت البشريّة إلى طرق عديدة للوصول إلى هذا الأمر، ولعلّ أهمّها وأكثرها تقدّماً حتى الآن هي المسمّاة بالديمقراطيّة الغربية. وعلى الرغم من أنّ الديمقراطيّة بحدّ ذاتها ليست أكثر من شكلٍ لتداول السلطة سلميّاً، إلّا أنّها تعبّر مع مجموعة المبادئ الأخرى عن جوهرٍ جديدٍ وصل إليه الإنسان في دول العالم الحرّ. يقوم هذا الجوهر أساساً على احترام الفرد وحقوقه وحريّاته، والذي كان بذاته الرافعة الفكريّة والحقوقيّة والاجتماعيّة، وحتى السياسية إلى حدّ ما، لحركة التطوّر الصناعي التي نقلت أوروبا قبل غيرها من مرحلة الاعتماد على الزراعة إلى مرحلة الاعتماد على التصنيع في تأمين متطلّبات الإنتاج، وبالتالي إنماء رأس المال، وبالتالي تدوير عجلة استمرار الحياة البشريّة بشكل أكثر كثافةً وغزارةً وتقدّماً، وبشكل عامٍّ أكثر رفاهية.
ما تزال هذه المقاربات بعيدة عن واقع التطبيق العملي لدى شعوبٍ كثيرة، ومنها الشعوب
"لم تكن ثورات الربيع العربي ابتداعاً ولا إيجاد نهج لم يأت به البشر من قبل" العربيّة. الأسباب وراء هذا كثيرة، في مقدمها الاستبداد، وتشابك مصالح فئاتٍ مختلفة من هذه المجتمعات بعضها مع بعض، لنسج شريحةٍ حاكمةٍ واحدة الجوهر، في عموم دول المنطقة. لهذا السبب بالذات، وجدت شعوبٌ كثيرة نفسها أمام مقاربةٍ مختلفة لحّل هذا الإشكال، إنّها مقاربة الثورة، والثورة بالتعريف طريقةٌ لتغيير شكل الحكم والعلاقات بين البشر.
لم تكن ثورات الربيع العربي ابتداعاً، ولا إيجاد نهج لم يأت به البشر من قبل، بل كانت استمراراً لما سبق أن خطّه العبيد في مجتمع روما بقيادة سبارتاكوس، وتابعه الزنج في الدولة العباسيّة، مروراً بثورة البرلمانيّين الإنكليز عام 1688 ثم الثورة الفرنسية عام 1789 والثورة البلشفية عام 1917 في روسيا وغيرها من ثورات شعوب الأرض.
ثمّة اتّجاهٌ يقول إنّه كلّما ابتعدت الثورات عن العنف كانت النتائج أكثر إيجابيّة، وهذا يتوافق مع منطق الحياة البشريّة ذاتها، فالتغيير يحتاج إلى التعقّل والحكمة والمرونة أكثر من حاجته إلى الجرأة والمخاطرة والاندفاع، وإنْ لا يستغني عنها. أمّا العنفُ فإنّه يؤسس لعلاقات مشوّهة غير مبنيّة على الإرادات الحرّة للناس، لأنه لا يمكن التأكد من صحّة الاختيار، عندما يكون الناس مجبرين على اتخاذ موقفٍ أو رأيٍ أو قرار ما، تحت التهديد أو الضغط أو الخوف. في المقابل، ما من ميزانٍ يمكنه قياس رضا البشر وقناعاتهم، مثل الحوار والهدوء والعمل الجماعي المبني على احترام الكرامة والحريّة والاختلاف.
كان مقتل بعض ثورات الربيع العربي في تحوّلها من الحراك السلمي إلى العمل المسلّح، وهنا استطاعت قوى الاستبداد المرتبطة بالنظام العالمي أن تضخّ عبر أجهزة الدولة التي تتحكّم بها، العنف المفرط الذي بدوره تحوّل إلى أداة لإعادة إنتاج أنظمةٍ شبيهةٍ بالأنظمة التي ثارت عليها الشعوب.
ما الذي اختلف بالنسبة للشعب في ليبيا أو في سورية مثلاً؟ لا شيء بكلّ تأكيد، بل بالعكس، لم تستطع قوى الأمر الواقع التي سيطرت على مساحاتٍ واسعةٍ من أراضي الدولة، وعلى كثيرٍ من مصادر الثروات، أن توجد بديلاً مقبولاً يحقّق ما تطمح إليه الشعوب الثائرة. والدليل ما شوهد من تجاوزاتٍ هائلةٍ وانتهاكات خطيرة بحقّ الإنسان على يد أمراء الحرب زعماء المليشيات. كان السبب الرئيس وراء ذلك غياب إمكانيّة البناء على أساس حرّ وديمقراطي يأخذ آراء الناس بالحسبان.
يقول جورج أورويل: "ثائر اليوم هو طاغية الغد.. إننا ندرك أنه ما من أحدٍ يمسك بزمام
"التغيير يحتاج إلى التعقّل والحكمة والمرونة أكثر من حاجته إلى الجرأة والمخاطرة والاندفاع"  السلطة وهو ينوي التخلي عنها. السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكماً استبدادياً لحماية الثورة، وإنما يُشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي. الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب، وغاية السلطة هي السلطة". قد يكون جورج أورويل محقّاً فيما ذهب إليه، لو أنّ الثورات قامت في دولٍ تحكمها طُرق التغيير الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، لأنها ستكون، عند ذلك، محاولةً في الاتجاه الخطأ لتغيير إرادة الناس الذين عبّروا عنها بحريّةٍ عبر صناديق الاقتراع، لكنّ الثورات قامت في بلدان الربيّع العربي، والمستبدّون في بلداننا، لم يتركوا لنا سوى هذا الطريق.
للأسف، وبغضّ النظر عن الأسباب التي هي أكثر من أن تُحصى، لم تتمكّن شعوب بلداننا من تحقيق المهمّات الأساسيّة للثورات، أي لم تستطع تغيير أنظمة الحكم، الخطوة الأولى في طريق بناء الإنسان الجديد. لقد تحوّلت ثورات الربيع العربي، بحكم العنف المفرط الممارس ضدّ أهلها، إلى كابوس حقيقي، خيّم على شعوب المنطقة كلّها... هل بقي شيء من ثورات الربيع العربي، وهل هناك أملٌ بعد في تجدّد الأحلام النبيلة، وفي تحويلها إلى أهدافٍ واقعيّة، ثمّ إلى برامج عمل؟