الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مؤتمر بروكسل الخامس: دعم مستقبل سورية والمنطقة 

مؤتمر بروكسل الخامس: دعم مستقبل سورية والمنطقة 

01.04.2021
بيتر ماورير


كلمة السيد "بيتر ماورير" رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر 
لجنة الصليب الاحمر الدولية  
الاربعاء 31/3/2021 
أصحاب المعالي والزملاء، 
لقد عدت للتوّ من زيارة دمشق، ورأيت شوارع داريا التي دمرها القصف، ومخيم الهول في شمال شرقي سورية. 
في زياراتي السابقة على مدار الأعوام الماضية، استمعت إلى قصص السوريين الذين دُمّرت حياتهم. لكن الناس يتحدثون اليوم ليس فقط عن معاناتهم من جرّاء النزاع الدامي، وإنما كذلك عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة وآثار العقوبات الموقّعة على بلادهم وجائحة كوفيد-19. هنالك حالة من انعدام الأمل تخيم على السوريين. 
إن عملية اللجنة الدولية في سورية هي كبرى عملياتها وأعقدها على مستوى العالم. فقرابة ثلاثة أرباع الناس بحاجة إلى مساعدة، وهذا يعني زيادة المحتاجين إلى مساعدات بنسبة 20% على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية. عشرات الآلاف يظلون في عداد مفقودين، ولا يزال الناس يخوضون كفاحًا يوميًا للحصول على الخدمات الأساسية. 
ولا شك أن السمة الطاغية على النزاع هي الانتهاك المتكرر للقانون الدولي الإنساني: الهجمات غير المتناسبة في مناطق حضرية، واستهداف المدنيين والخدمات الأساسية، والاحتجاز مع عدم السماح بالاتصال بذوي المحتجزين. 
ثمة نزاعات أخرى في العالم نشهد فيها انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني، لكن مستوى الدمار الذي وقع في سورية هو ما يجعل هذا النزاع استثنائيًا. وأستحضر هنا صور المدن التي سوّيت بالأرض كحمص وحلب والرقة، والأعداد الهائلة للنازحين والمختفين. 
لقد سعت اللجنة الدولية مع الهلال الأحمر العربي السوري والشركاء في الحركة طيلة السنوات العشر إلى توفير الغذاء والمأوى للنازحين، وتقديم العلاج للمصابين، ودعم الأشخاص الذين يبحثون عن ذويهم المفقودين، وزيارة المحتجزين. 
الزملاء الأعزاء، لقد سلب عقد كامل من العنف والوحشية روح الشعب السوري وتركه أشلاء ممزقة. 
وستظل صورة المستقبل حالكة، ما لم يغيّر المجتمع الدولي نهجه بدءًا من اليوم. 
والمدنيون يدفعون الثمن الباهظ لانعدام أي تقدم سياسي بارز، فضلًا عن النُّهج القائمة على المقايضة في العمل الإنساني التي تتبعها جميع الأطراف المنخرطة في النزاع. 
يجب ألا يعيش الناس في خيام يعتمدون على مياه تأتيهم عبر شاحنات وعلى مساعدات غذائية توزَّع عليهم، يجب ألا يستمر هذا الوضع لأشهر فضلًا عن سنوات، فما بالنا بعقد كامل. 
في حالة الطوارئ الممتدة هذه علينا أن نساعد الناس على إعادة بناء حياتهم. 
وفي خضم الدمار وحالة الجمود السياسي الحالية، لا بديل لأن تكون الأسس الإنسانية هي الأسس التي يقوم عليها مستقبل سورية، ولا بد من أن تكون كذلك. 
فالقانون الدولي الإنساني هو الدليل البرغماتي لمساعدة المدنيين وحمايتهم. 
الزملاء الأعزاء، أدعو اليوم المجتمع الدولي إلى إجراء استثمارات مالية وسياسية طويلة الأجل تستند إلى أربعة أسس إنسانية رئيسية: 
الأساس الأول: على الرغم من انسداد القنوات السياسية، علينا أن نجد سبلًا لضمان استقرار الخدمات الأساسية، لمنع أي انهيار إضافي في المجتمع. 
رأيت في داريا أناسًا يعيشون وسط حطام مبانٍ مدمَّرة، وهم في حاجة ماسة الآن إلى أبسط أشكال الدعم الأساسي؛ كالمياه والكهرباء والخدمات الطبية. 
ولا يمكن تأجيل تحقيق استقرار البنية التحتية الحيوية، إذ إن انهيار هذه الخدمات سيلقي بملايين السوريين في براثن أزمة إنسانية هائلة. فعلى مدى العقد الماضي في عموم البلاد، انخفض توليد الطاقة بنسبة 70 بالمئة، وفُقد 30-40 بالمئة من إنتاج مياه الشرب، وأُضير أو دُمر 50 بالمئة من المستشفيات. 
وتتولى اللجنة الدولية إعادة تأهيل الخدمات الأساسية ودعم المشاريع الصغيرة في ربوع البلاد. فأولويتنا أن نقدم إغاثة إنسانية واسعة النطاق حيث تمس الحاجة إليها، وأن نجعل الحياة محتملة قدر الإمكان. 
عندما تضطلع منظمات إنسانية كاللجنة الدولية بإصلاح البنية التحتية، قد يبدو هذا العمل من قبيل "أنشطة إعادة الإعمار" أو "الأنشطة الإنمائية". ولكن هذا مجافٍ للواقع تمامًا. فهذه المشاريع الهندسية الكبيرة والمعقدة ذات الأهداف الإنسانية ما هي إلا إجراءات مؤقتة لسد الفجوات، الهدف منها منع انهيار منظومات برمّتها. 
وعلى المجتمع الدولي تكثيف دعمه السياسي والمالي لتنفيذ استجابة إنسانية موسّعة تنطوي على التزامات لسنوات متعددة. ولا بد من التصدي للعقوبات التي تسبب معاناة للمدنيين وتؤثر على حصولهم على الخدمات الأساسية وعلى أمنهم الغذائي. 
الأساس الثاني: يتعين إصلاح النسيج الاجتماعي السوري، ولن يكون هذا ممكنًا إلا بدعم حقوق الجميع اليوم. 
سيعتمد إحراز تقدم في المحادثات السياسية على اتخاذ قرارات إنسانية بشأن قضايا رئيسية مثل المفقودين والاحتجاز. وهذا الأمر سيتطلب دعمًا والتزامًا على المدى البعيد، ولكن بوسعنا فعل الكثير الآن. 
إن البحث عن المفقودين والاستجابة لاحتياجات عائلاتهم لهو أمر حاسم وملحّ. فعشرات الآلاف من العائلات تتلمس أخبارًا عن ذويها المفقودين، وكثير منها يواجه أزمات اقتصادية عميقة. وهي بحاجة إلى دعم عاجل الآن وعلى مدى العقود القادمة. 
ولا بد من أن يحصل المحتجزون على معاملة إنسانية تصون كرامتهم، هذا أيضًا أمر بالغ الأهمية وملحّ. وأيًا ما كانت أسباب احتجازهم، يجب أن يُسمح لهم بالتواصل مع ذويهم بشكل منتظم، وأن يُكفل حقهم في الإجراءات القانونية الواجبة. وتواصل اللجنة الدولية زيارة المحتجَزين في عدد من سجون سورية. كما نجري محادثات مستمرة وسرية مع السلطات من أجل تحسين ظروف الاحتجاز، ولكفالة توفير معاملة إنسانية للمحتجَزين، وللسماح لذويهم بالحفاظ على اتصال بهم. 
الأساس الثالث: المحتجزون أو الذين يعيشون حالة من التيه القانوني يحتاجون إلى إجابات شافية تراعي الجانب الإنساني. 
في مخيم الهول في شمال شرقي سورية، يعيش عشرات الآلاف من الناس، وخاصة نساء وأطفال، أوضاعًا غاية في التردي. 
لقد ألجمتني الصدمة عندما رأيت الأوضاع التي يعيشون فيها، إنها من بين أسوأ ما وقعت عليه عيناي؛ فالأطفال يعانون سوء التغذية والتقزم، ويموتون بسبب أمراض يمكن علاجها. والخيام المؤقتة لا تقيهم جحيم العنف المتصاعد أو الظروف الجوية القاسية. وحقوقهم يطويها التجاهل؛ فبعضهم بلا جنسية، وآخرون معرضون للنسيان في مراكز الأحداث وأماكن الاحتجاز. 
هناك ما يقدر بنحو 40 ألف طفل في ذلك المخيم، أمضوا حتى يومنا هذا عامين في ظروف غير آمنة تهدد الحياة، وهذه بلا شك أزمة تتعلق بحماية الأطفال ذات حجم هائل. 
إنه لمن العار أن يسمح المجتمع الدولي باستمرار وجود مثل هذا المكان، ليس بسبب التحديات الإنسانية العصيّة على الحل، وإنما بسبب الخلافات السياسية. 
لقد أدارت الدول ظهورها وأخفقت في النهوض بمسؤولياتها القانونية الدولية تجاه الأجانب القاطنين في المخيم وتجاه العراقيين والسوريين على حد سواء. 
لقد حان الوقت لاستجماع الإرادة السياسية من أجل التحرك قبل أن تزهَق المزيد من الأرواح وأن يُدمّر مستقبل المزيد من الأشخاص. وتوجد أمثلة إيجابية على العودة إلى الوطن وإعادة الإدماج في المجتمع. ولا يمكن اتخاذ كثرة التحديات ذريعة للتقاعس عن العمل. 
وأخيرًا، ندعو إلى تخفيف القيود المفروضة على العمل الإنساني المحايد وغير المتحيز والمستقل. 
في الوقت الذي تمس الحاجة فيه إلى العمل المنقذ للأرواح يُضيَّق عليه الخِناق. إن حالة الجمود الماثلة عبر خطوط المواجهة وعبر الحدود تجعل أرواح ملايين الناس رهينة لفدية سياسية. واللجنة الدولية على أهبة الاستعداد لتكثيف عملها المنقذ للأرواح في أرجاء سورية، بما في ذلك في جيب إدلب، ولكن الوضع السياسي يقيّد حراكنا. 
الزملاء الأعزاء، لقد بات جليًا أن سورية عالقة في دوامة من المعاناة المُهلكة، التي لا بد من مواجهتها عبر استجابات ملموسة وإجراءات عملية. 
فالسوريون لا يطيقون عامًا آخر، ناهيك عن عقد آخر، من هذه الأوضاع المأساوية.