الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لماذا لم تتحول النخب إلى رموز وأيقونات في عيون السوريين

لماذا لم تتحول النخب إلى رموز وأيقونات في عيون السوريين

13.06.2019
هدى أبو نبوت


حرية برس
الاربعاء 12-6-2019
في هذا العام ودع السوريين اثنين من أهم رموز الثورة السورية (السلمية والمسلحة)؛ مي سكاف وعبدالباسط الساروت. واللافت أن كلاً منهما في ضفة تبدو ظاهرياً مختلفة عن الأخرى، مي سكاف فنانة كبيرة ولها وزن اجتماعي وفني وثقافي سابق في رصيد حياتها قبل الثورة، وتحسب على النخبة، وعبد الباسط الساروت حارس مرمى فريق الكرامة ومنتخب سوريا للشباب ذو التسعة عشر عاماً، وينحدر من حي شعبي بسيط في مدينة حمص ويحسب على العامة.
 
الأولى تبنت خيار السلمية ودافعت عنها وخسرت عملها وحياتها وأجبرت على ترك سوريا وماتت قهراً في أحد أحياء باريس من دون تحقيق حلمها برؤية (سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد)، وعبد الباسط الساروت منشد الثورة في السلمية ومقاتل في العسكرة؛ كان مقدراً له أن يدفن على تراب سوريا التي غنى كثيراً لها، وبالتأكيد من دون تحقيق الحلم الكبير بتحرير سوريا من عائلة الأسد أو رؤية هذا الحلم يتحقق على الأقل.
الملفت في الأمر أن جمهور السوريين الكبير من المعارضين، رغم اختلاف توجهات مي والساروت (الدينية والسياسية ورؤية سوريا بعد الأسد) كانت واحدة ومتشابهة والحزن عليهما واحد ورفعهما إلى درجة الأيقونة بالدرجة ذاتها، وتصنيفهم من رموز الثورة السورية واحد، ومن خالف هذا التيار من المعارضين السوريين ينتمي إلى فئة واحدة أيضاً، (إما المتطرفين من العلمانيين أو المتطرفين من النخبة).
لماذا تحول كل من مي والساروت إلى رموز؟ ولماذا لم يؤثر خطاب النخبة في السوريين طوال تلك السنوات حتى هذه اللحظة؟
هناك مدرسة في علم النفس تدعى(العلاج بالصدمة) وهو إجبار المرضى على مجابهة واقعهم الحقيقي المسؤول بشكل مباشر عن هذه الأمراض، ويرى الأطباء أن إعتراف مرضاهم بهذه الحقيقة هو نصف المشكلة ومن هنا يبدأ الحل، ولكن الأطباء النفسيين لا يستخدمون العلاج بالصدمة مع كل مريض حتى لو كان يعاني من ذات الأمراض والأعراض؛ لأنهم يعلمون أن ردود الأفعال متباينة بين البشر، وهناك ظروف وأوقات محددة تعطي مؤشرات لنجاح هذه الخطوة أم لا وإلا كانت النتائج عكسية تعيد المريض إلى نقطة الصفر.
وهذا الواقع ينطبق تماماً على السوريين والنخب المثقفة التي تحمل أفكاراً جاهزة ومستوردة عن مستقبل سوريا بعد الأسد، متجاهلة بشكل كامل هذا المجتمع الشرقي وكل عاداته وتراثه وأمراضه وفساده ونمط تفكير الأغلبية فيه، وتريد أن تفرض رؤية وقانوناً وطريقة ترسم فيها مستقبل بلد لم ينجُ بعد من المحرقة، بل التفتوا إلى محاربة بعضهم وكيل الإتهامات ونصب محاكم معنوية بحق أفراد من الشعب تحولوا إلى أيقونات من دون إرادة منهم، ولكن لأنهم كانوا ضمير الأمة المظلومة حصدوا في قلوبهم وعقولهم هذه المكانة.
يحتاج التنوير والتنمية إلى عدة عوامل، أهمها الاتفاق على رؤية واضحة تجمع مختلف أطياف المجتمع بشكل نسبي، وثانياً القوة والقدرة على تحقيق هذه الرؤية.
لايمكن للنخبة الموجودة حالياً أن تحقق هذا التنوير المنشود أو تساهم في عملية تنمية المجتمع حتى لو كانت تملك أفكاراً حقيقية وصحيحة عن مشاكل المجتمع، لأنها عزلت نفسها عنه بحيث بات من المستحيل أن توفر الشرط الأول وتجمع حولها الأغلبية الموافقة على طرق وأساليب حل مشاكلهم، وبالمقابل لا يملكون القوة لتطبيق الرؤية الخاصة بهم.
والأسلوب الذي يتبعه العلمانيون السوريون والنخبة المثقفة التابعة له في خطاب السوريين فيه استعلاء كبير لم ولن يثمر  الآن ولا لاحقاً بالتوصل إلى طريق مشترك مع الأغلبية، لأنهم قرروا أن هذا الشعب قطيع كبير لا فائدة من مشاركته أي رؤية أو خطة أو السماح له بتقرير مصيره على أرضه، وخلال كل تلك السنوات التي مرت رغم الكارثة الإنسانية الهائلة، ولكن كان هناك دعم مالي هائل أيضا في السنوات الأولى على الأقل، لم يقدم أي طرف منهم أي خطة أو رؤية لإنقاذ المجتمع من أمراضه بطرق سليمة تخاطب عقل هذه الأغلبية وتمسك بيدها للمشي خطوات إلى الأمام، وجميع المبادرات التي قدمها المجتمع المدني الذي هدرت به الملايين في خطط عقيمة لدعم المرأة أو الطفل لم ينتج عنها مجتمع نسائي جديد ولا أطفال ينعمون بحياة كريمة.
كل تلك النخب تعيش وراء حاجز زجاجي تردد أفكارها مع نفسها أو مع جماعتها، والملفت في الأمر أن النقاش دائماً يدور بين النخبة ذاتها، ولكن عندما يتوجهون إلى العامة فهم يتحولون إلى متطرفين فكرياً أو متعصبين لقناعاتهم أكثر من الأغلبية التي يصفونها بالجهل.
وعندما ينفض الناس من حولهم و يلتفون حول أشخاص بسيطين فكرياً أو غير مؤدلجين مثلهم يفتحون أفواههم من الدهشة، ويضربون أكفهم يداً بيد أن لا فائدة من هذا المجتمع ، وأن كل تضحياتهم التي لايعرف أحد حتى الآن ما هي ضاعت سدى، رغم أنهم في الواقع أكثر من أساء إلى المجتمع واحتقره؛ وذالك عندما العلماني يريد أن يرى كل المجتمع رغماً عنه كذلك ويعيش ضمن قوانيين على مزاجه الشخصي وقياس حياته وحريته، وهو لم يساهم في تغيير هذا المجتمع ولو بمبادرة قابلة للتحقيق غير البيانات الفيسبوكية والاجتماعات الطويلة مع الداعمين وأصحاب الأموال الذين يملكون مشاريع تناسب مجتمعاتهم فحسب، ولايمكن مطلقاً أن تكون حلاً لمجتمعاتنا بأي شكل من الأشكال.
التنمية الحقيقية والناجحة تنطلق من الانتماء إلى الوطن بمعنى الكلمة، الوطن بكل آلامه وامراضه ومشاكله، وأن يضع كل شخص مسؤول في هذا الوطن نفسه مكان العامل والفلاح والمتعلم والمرأة والطفل، الانتماء إلى الإنسان لحقهم في الحياة وحقهم في اختيار ما يناسبهم وتعليمهم وتوعيتهم أنهم سيحصلون على هذا الحق في تقرير المصير في وجود الآخر المختلف، وأن الاختلاف لن يكون عدوهم ولن يستهزئ بمعتقداتهم أو يسفه تقاليدهم او يخجل من بيئتهم المحلية.
النخب التي تنظر إلى الريفي السوري بعين الدونية وتقيم الرجال بلباسهم التقليدي وبالحجاب على رأس نسائهم، وتختبر درجات التمدن بلهجات مدن وبلدات سوريا تارة وأخرى بنوع الطعام الذي تشتهر به كل منها، كيف يمكن لهذه النخب أن تكون مؤثرة؟ كيف لها أن تقود مجتمعاً؟ كيف لها أن تحجز مكاناً في عقل السوريين أو أن يتحول أفرادها إلى رموز في وجدانهم
من نتائج الحرب أنها سترسم يوماً ما طريقاً واحداً يمشي فيه السوريون إلى بناء دولتهم كما يريدون، وليس كما تريد جماعة او حزب،سيضطر الجميع بعد أن فشلوا فشلاً ذريعاً في قيادة المرحلة أن يتحولوا إلى متفرجين وشاهدين على هذا التحول الكبير الذي سيقوده ربما شباب يشبهون الساروت ونساء شبيهات بمي سكاف، شباب وشابات يحملون ضمير الشعب ويخاطبون وجدانه ويحترمون مشاعره وحزنه ومصيبته، ومن هنا يمكن خطوة خطوة أن يأخذوا بأيديهم إلى الضفة الأخرى؛ سوريا التي نحلم بها، سوريا لجميع السوريين.