الرئيسة \  واحة اللقاء  \  فلسفة الانسحاب الأمريكي

فلسفة الانسحاب الأمريكي

10.01.2019
مدى الفاتح


القدس العربي
الاربعاء 9/1/2019
في كتابها الصادر حديثاً تحت عنوان "الولايات المتحدة الأمريكية والعالم" تدافع مايا كاندل الباحثة المتخصصة في الشأن الأمريكي من معهد الدراسات السياسية في باريس عن وجهة النظر، التي تعتبر أن السياسة الأمريكية الحالية هي مجرد امتداد للتاريخ الأمريكي المبني على الاستعباد، والتوسع في ضم الأراضي.
ترى الكاتبة أن التطهير العرقي للمجموعات الهندية، الذي ارتبط بالوجود الأمريكي "الاحتلالي" الجديد، وتقنين العبودية الذي استمر لعقود متطاولة، عاملان يؤثران بشكل حاسم على الطريقة التي تدير بها الولايات المتحدة، حتى اليوم، شؤونها الخارجية.
على سبيل المثال فالولايات المتحدة لا تفضل سياسة الضم الكامل للأراضي، ولم تكن تسعى لذلك في حربها الفيتنامية مثلاً، فضم الأراضي يعني أن تكون فيتنام أو الفلبين، أو أي بلد آخر مرّ عليه الجيش الأمريكي، جزءاً من الولايات المتحدة وهو ما يترتب عليه أن يكون مواطنو تلك البقاع مواطنين أمريكيين متساوي الحقوق مع غيرهم، وهو ما يعد أمراً غير مقبول بالنسبة لغالب السياسيين الأمريكيين، الذين عاشوا الجزء الأكبر من حياتهم وفق تقسيم عنصري للناس.
هذه الخلفية مهمة لفهم الأسس التي بنيت عليها الإمبريالية الأمريكية، التي ظلت تعمل بشكل مختلف عن غيرها، بما يسمح لها بنهب الخيرات والسيطرة على مقدرات البلدان، لكن بدون تحمل التكاليف المعتادة التي يتحملها أي محتل.
بهذه الطريقة استطاعت الولايات المتحدة بسط نفوذها وطي عدد كبير من الدول، بل والأقاليم، تحت جناحها، بعد خلق علاقة مزدوجة بينها وبينهم، تجمع بين الاستقلال الإسمي والخضوع التام لشروط الهيمنة الأمريكية القابضة. هكذا، وتحت مبررات مختلفة، أوجدت الولايات المتحدة لنفسها موطئ قدم في كل مكان تقريباً حول العالم، كما استطاعت أن تجد المبررات الكافية لعسكرة هذا الوجود بحسب الحاجة وبحسب المسوغات الجغرافية.
تلفتنا مايا كاندل لحقيقة أخرى، وهي أن عبارة "شرطي العالم" التي تستخدم في كثير من الأحيان في إطار السخرية لا تعود في أصلها لنقاد السياسة الأمريكية، وإنما للرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت، التي استخدمها في خطابه الذي وجهه إلى الكونغرس حول "حالة الاتحاد" بتاريخ السادس من يناير عام 1904. هذه العبارة توضح وجود اتجاه مبكر لطي العالم تحت الجناح الأمريكي بحجة قوة الشرعية الأخلاقية. يمكننا أن نتفق مع كاندل حول أن التدخل من أجل تصحيح أوضاع العالم، أو تحسين سلوك بعض الدول كان أمراً مرتبطاً على الدوام بالدولة الأمريكية الحديثة، رغم إعلانها بين الحين والآخر اتباع سياسة الحياد، أو الانعزال. الذي يحدث هو أن الولايات المتحدة، حتى في أوقات حيادها، غالباً ما تستدرك معلنة أن بإمكانها أن تتدخل إذا ما كان هناك تعرض لمصالحها الحيوية، وهو ما يجعل الباب مفتوحاً على مصراعيه للعودة بقوة إلى الساحة، أو لاتخاذ ما تراه مناسباً من إجراءات بما فيها الخيار العسكري.
هذه الحالة من الالتباس كانت حاضرة دائماً منذ عهد الرئيس وودرو ويلسن (1856-1924) الذي حاول الجمع بين المنطلقات الدينية والمصالح السياسية والاقتصادية لتبرير الدور الأمريكي، وهو ما تمثله عبارته الشهيرة: "نحن ماضون لتحرير كل البشر". ظلت هذه العبارة عنواناً للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث نجد أن جائزة نوبل للسلام، التي منحت للرئيس أوباما في بدايات حكمه لم تمنعه من أن يتابع السياسة الإمبريالية الأمريكية، وإن كان بصورة مختلفة قليلاً عن سابقيه. الالتباس يزداد أكثر مع حالة الرئيس الحالي دونالد ترامب، الذي أعلن في بدايات حكمه أنه سيركز على السياسة الداخلية وعلى المصلحة الأمريكية المباشرة، وهو ما ظل يكرره من حين لآخر، مستخدماً العبارة التاريخية للرئيس فرانكلين روزفلت، التي ظنها البعض من وحي خيال فريقه الرئاسي "أمريكا أولاً"، لكن رغم الانعزال المعلن كسياسة، فإن الضربات الأمريكية لم تتوقف، وكذلك لم تتوقف مساعي التدخل في الشؤون الداخلية للدول ومحاولات "تصحيح مسارها"، حيث كانت إدارة ترامب ومن قبله باراك أوباما تعمد بين الحين والآخر للقيام بما ترى أنه مناسب للحفاظ على مصالحها، ولعل أبرز هذه الاجراءات هو مواصلة الانخراط الأمريكي الكثيف في الجيوسياسة السورية والأفغانية، عبر الوجود العسكري الذي ظل يلعب دوراً مهماً في تشكيل واقع هذين البلدين، بل المنطقة بأسرها.
 
الأمريكيون كثيراً ما ينسحبون في الوقت الخطاً مخلفين وراءهم واقعاً أشد تعقيداً ودرامية
 
لكل ذلك فقد بدا الإعلان عن الانسحاب من أفغانستان والمناطق الجغرافية التي تتمركز فيها القوات الأمريكية في سوريا مستغرباً ومفاجئاً، خاصة في الحالة السورية التي بدا فيها السبب المعلن لذلك الانسحاب، وهو التخلص النهائي من "تنظيم الدولة الإسلامية"، غير مقنع، مع الأخذ في الاعتبار أن تفكيك مناطق ارتكاز هذا التنظيم ومجمعاته المعروفة التي تضم مناطق كان يسيطر عليها لا يعني بأي حال أنه تم القضاء التام عليه، أما في ما يتعلق بإيران، التي كان تحجيمها سبباً هو الآخر في التواجد العسكري الأمريكي، أو هكذا على الأقل كان يعلن، فإن تأثرها السلبي بالانسحاب الأمريكي، أو تعرض دورها للتحجيم هو مما يصعب فهمه.
منذ إعلان الانسحاب عبر تويتة ترامبية مختصرة، تتواصل التحليلات والقراءات والتخمينات، وكان اعتراض وزير الدفاع الأمريكي وتقديمه استقالته مؤشراً إضافياً على الغموض المرتبط بهذا القرار، حيث لا يُعرف حتى الآن ما إذا كان الانسحاب أمراً مدروساً فعلاً، أو أنه مجرد عمل دعائي فردي أراد به الرئيس ترامب كسب بعض الشعبية عند أطيافٍ داخلية. إثر إعلان القرار أحس الجميع بوجود حالة من الارتباك الأمريكي الداخلي التي سرعان ما انتقلت للأطراف الشريكة التي يبقى على رأسها الكيان الصهيوني، الذي كان يهمه بقاء الولايات المتحدة بقواتها التي تضمن له أمنه وحدوده، وتركيا وروسيا اللتان تتمتعان بوجود عسكري وأدوار باتت محورية، رغم اختلاف الوظيفة. قد ينقل هذا الانسحاب، إن تم، العلاقة بين كل من تركيا وروسيا من علاقة شراكة وتنسيق استراتيجي إلى مرحلة أقرب للتنافس الذي سوف تكون إيران ومن تسيطر عليه من قوى وميليشيات لا محالة طرفاً فيه.
الخلاصة هي أن الأصل في السياسة الأمريكية الخارجية هو الانخراط وليس الانسحاب الذي لا يكون سوى الاستثناء المؤقت، أما في منطقتنا، فإن الحديث عن خروج نهائي أو استبعاد للدور العسكري الأمريكي يبقى مسألة غير مطروحة، فمن ناحية تتواجد القوات الأمريكية على مرمى حجر من جميع المنافذ المهمة وهي قادرة على الوصول بأسرع مما نتصور لأي مكان، ومن ناحية أخرى فإنه لا أسهل، إن اقتضت الحاجة، من العودة مجدداً للمناطق القديمة، ربما بعد حصول بعض المتغيرات على الساحة السياسية، كوصول المجموعات الكردية لحالة من الضعف تعيق لعبة التوازنات المطلوبة، أو الاختلاف الحاد بين القوى المختلفة على الأرض أو أي عامل آخر ترى القيادة الأمريكية فيه مبرراً للعودة العسكرية.
التدخل الأمريكي يكون في معظم الأحوال غير مرغوب به وما تلبث المكونات السياسية، على اختلاف توجهاتها، أن ترفض هذا الوجود وتطالب بالانسحاب، لكن المفارقة التي تحدث هي أن الأمريكيين كثيراً ما ينسحبون في الوقت الخطاً مخلفين وراءهم واقعاً أشد تعقيداً ودرامية، كما حدث في مثال تدخلهم الكارثي في العراق، ثم انسحابهم غير المدروس منه والذي لم يكن، بأي حال، يقل كارثية.
�م تركيا محاربة بقايا "داعش" شرق الفرات، وقد تركّزت التعليقات التركية على صيغة الموقف الأميركي الجديد: حماية الكرد، اعتبرتها صيغةً مخاتلةً، غايتها حماية حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري (وحدات حماية الشعب) وحزب العمال الكردستاني، وشدّدت على كونهم إرهابيين، ولا يجوز أن يكونوا حلفاء للولايات المتحدة.
لعبت ثلاثة اعتبارات في صياغة الموقف الأميركي الجديد، أولها رد الفعل الإسرائيلي السلبي على الانسحاب الذي أبقاها وحيدةً في وجه إيران، كانت تتوقع مقايضته بانسحاب إيران من سورية. ثانيها انهيار الحليف المحلي: قوات سورية الديمقراطية؛ وانخراطه السريع في مساوماتٍ مع النظام السوري وروسيا، لتوفير غطاء سياسي وحماية عسكرية مقابل تنازلات كبيرة، ما يجعل الانسحاب مكسبا صافيا لروسيا وإيران والنظام السوري، طالبت الكرد بالانتظار، وعدم المسارعة لطلب الحماية من الروس، أو من النظام. ثالثها عدم تحقيق قرار الانسحاب، أهم أهدافه: إبعاد تركيا عن روسيا وإيران، حيث أعلنت تركيا الإبقاء على التنسيق مع روسيا وإيران.