الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لا حياد في هذا العالم

لا حياد في هذا العالم

22.11.2018
حسان الأسود


سوريا تي في
الاربعاء 21/11/2018
ثمّة العديد من المفاهيم الواسعة التي تحتمل كثيراً من التأويلات، بل وأحياناً تكون في بعض جوانبها ضبابيّة غير واضحة بشكل كامل، ومن أكثرها عموميّة بل وغموضاً مفهوم الحياد، رغم ذلك لم يتبدّ للكثيرين الوقت الكافي لبحثه وتعريفه وتحديده. قد يكون مردّ ذلك إلى ميوعة المفهوم ذاته، رغم دلالاته العمليّة الواسعة الطيف التي تتراوح ما بين الرياضيات والسياسة وما بين الفنّ والعلاقات الدولية وما بين الأفراد والسلطة الحاكمة.
في اللغة نقول: حايدَ الأمرَ أو حايدَ في الأمرِ، أي اجتنبه، لم يتدخّل فيه. (1) وفي الرياضيات يُعرّف العنصر الحيادي على أنّه أي عنصر إذا تمّ تشكيله مع عنصر آخر فيبقى العنصر الآخر على حاله، فالصفر حياديّ في عملية الجمع والواحد حيادي في عمليّة الضرب، وقد تكون الطبيعة
ثمّة تعريفات مختلفة تصبّ في النهاية في اعتبار الحياد مذهباً سياسياً يقوم على عدم الانحياز إلى كتلة سياسية من الكتل المتصارعة في الميدان السياسي
المجرّدة للرياضيات هي التي تعطي هذا المفهوم تحقّقه الفعلي في حالة نسبيّة لا مطلقة، فالصفر وإن كان يرمز إلى العدم أو اللاوجود، لكنّه في ذات الوقت يحمل القيمة الكامنة بذاته حسب طريقة تشكيله، الصفر المجرّد لا قيمة له، لكن بإضافته إلى يمين الأرقام يعطيها مضاعفات من كمون قيمته المطلقة.
أما في السياسة فثمّة تعريفات مختلفة تصبّ في النهاية في اعتبار الحياد مذهباً سياسياً يقوم على عدم الانحياز إلى كتلة سياسية من الكتل المتصارعة في الميدان السياسي. (2) وينسحب الأمر على الأحزاب السياسية كما على الكتل البرلمانية. أمّا في ميدان العلاقات الدولية فقد ظهرت أهمية المفهوم منذ القدم خاصّة في مجالات الحروب بين القبائل والعشائر ومن ثمّ بين الأمم والممالك والإمارات والدول المختلفة، وقد ظهر في العلاقات الدولية مصطلح الحياد الإيجابي الذي يعني: ألّا تتحيز الدولة لإحدى الدول المتخاصمة، مع احتفاظها بسياسة نشطة تشارك فيها سائر الدول فيما يخص حفظ الأمن والسلم العالميين.
في ميدان الفنون ظهر الصراع بين المدارس العقائدية التي تتحدّث عن دور وظيفي للفنّ، مقابل مدرسة الفنّ للفن التي اتهمت بأنها برجوازية تتلطّى خلف مفاهيم الحياد عن صراع الطبقات والمصالح البشرية المختلفة، ولم يُحسم هذا الصراع إلى أن سقطت المنظومة الفكرية التي قامت كإحدى آثار الثورة البلشفية وبناء الدولة الاشتراكية التي انهارت بكلّ قيمها مع انهيار الاتحاد السوفيتي وكتله الملحقة.
يقول المخرج غسّان الجباعي:
"لا شك أن الدفاع عن القيم الروحية السامية للبشر هو هدف الإبداع الأول وغايته، وأول هذه القيم هي حرية التعبير. والحرية هنا مهمة لـ (المتلقي)، كما لـ (المبدع)، ولا يمكن أن يتم ذلك عن طريق الشعارات الطنّانة والدعاية الرخيصة ومسح الأدمغة والتلقين، بل عن طريق الحوار والإقناع والإدراك العقلي والحس الجمالي الرفيع. فـ (المتلقي) ليس تلميذًا، بل هو الركن الآخر، أو الشريك الأزلي الذي لا تكتمل عملية الإبداع إلا بوجوده." (3)
هذا الدفاع عن استعلاء الفنّ على الأيديولوجيا ينفي فكرة الحياد، لأنه يعتبر انحياز الفنّ للقيم الإنسانية العليا الغاية الأولى والنهائيّة للفنّ، وبالتالي فلا مجال للمقارنة بين ما هو سامٍ مترفّعٍ عن المصالح الفئوية وبين ما هو ضيّق الأفق محدود في الزمان والمكان.
في الثورات أيضاً يكثر الجدلُ عن الحياد والحياديين، فثمّة من يعتبر أن الحيادي هو من لا يشارك في الثورة ضدّ الاستبداد، أو من الطرف المقابل يُنظر للحيادي على أنّه من لم يقف مع النظام الحاكم ضدّ المتمرّدين أو المخربين
في العلاقات الإنسانية لا وجود للحياد، فالناس تصطفّ خلف مصالحها أو خلف قيمها أو حتى خلف مشاعرها وأمانيها
أو الإرهابيين كما يحلو لإعلام الأنظمة تسميتهم. ولو رجعنا إلى معظم الثورات خاصّة الحديثة منها، لكان لدينا ألف سبب وسبب لنعتقد بأن الأغلبية العظمى من الناس كانت بشكل أو بآخر منحازة لفئة من الفئات المتصارعة وإن لم تعبّر بشكل جليّ عن موقفها هذا، مما ينفي عن عموم الناس صفة الحياد، فليس حياديّاً إلّا من لم يسمع بالثورة أو لم يُبدِ أيّة ارتكاسة أو ردّة فعل عليها، وهذا مُحالٌ في زمننا الراهن.
في العلاقات الإنسانية لا وجود للحياد، فالناس تصطفّ خلف مصالحها أو خلف قيمها أو حتى خلف مشاعرها وأمانيها. إنّ وقوفك على الحياد من جريمةٍ ارتُكبت في الشارع أو في أقبية أحد المعتقلات أو على الهواء مباشرة أو في القنصليّة مثلاً، لا يعني أنّك لا تأخذ موقفاً وأنّك تعزلُ نفسك عن هذا الجرم ومرتكبيه، بل بكلّ بساطة أنت مشارك به معنويّاً ومساندٌ للمجرمين باتخاذك موقف التأييد عن بُعد بمجرّد صمتك، فالسكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان. يقول دانتي: "أحلك الأماكن في الجحيم، محجوزة لهؤلاء الذين يحافظون على حيادهم في أوقات الأزمات الأخلاقيّة العظيمة".
ينطبق الأمرُ على الإعلام والصحافة والأدب وجميع مناحي الحياة البشرية، كذلك ينطبق على القانون الذي يُفترضُ فيه التجرّد والعموميّة والإطلاق، لكنّه في حقيقة الأمر ليس حياديّاً، لأنه بكلّ بساطة ينحاز إلى جهة الحق والعدل. الحيادُ إذاً غير موجود، فهو عمليّاً لا مرئيّ، إنه مجرّد حالة نظريّة لا تعني شيئاً على أرض الواقع، حتى ليكادُ المرء يعتقدُ أن الطبيعة بذاتها ليست محايدة، وكيف تكون كذلك وهي تعطي أسباب الوجود للأقوى والأجدر في عملية الاصطفاء الطبيعي قبل تدّخل الإنسان ومحاولاته الحثيثة لتغيير قوانينها؟
 في الحقيقة – وخارج إطار الرياضيات المجرّدة - لا يوجد شيء اسمه حياد، فالحيادُ انحياز، إنه انحيازٌ لجهة ما أو لموقف أو لفكرة أو لوجهة نظر ما، والإنسان الحقيقي هو من لا يدّعي الوقوف على الحياد بل يقرّ بانحيازه، لأنّه يأخذ الموقف الذي يُمليه عليه ضميرُه وتفرضهُ قيمهُ حتى وإن تعارضت في الظاهر مع مصالحه وحتّى وإن هددّت أسباب وجوده.
  المراجع:
معجم المعاني.
 https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AF/
المرجع السابق
شبكة جيرون الإعلامية- 14 تشرين الثاني 2017 – الفنّ للفن.